أفلام ما بعد الاحتجاجات التركية
محمد موسى

لا يكتفي مهرجان إسطنبول السينمائي الدولي بتوفيره منصة سنوية مُهمة لعرض الجديد من النتاجات السينمائية المحلية في مسابقاته وبرامجه العديدة، وبالتحديد في تلك التي تقتصر على السينما التركية بشقيها الروائي والتسجيلي، بل يسعى المهرجان ألا يفقد علاقته واتصاله مع الحراك السياسي والاجتماعي في البلد بعرضه أفلام جدليّة وإشكاليّة ومُحرضّة، بعضها يسير عكس السائد الرسمي والإعلامي، الذي يدعي أن تركيا اليوم تعيش أفضل أزمانها بعد أن عرفت مكانتها السياسية والفكرية واستعادت بعضا من مجدها ونفوذها الغابرين، عارضة رؤى مختلفة، تحاول أن تقول بأن المجتمع في تغيير، لكن هذا لا يعني أنه على المسار الصائب، بل أنه يخلق ويتعثر بأزمات قديمة وحديثة كل يوم.
ففي دورته الرابعة والثلاثين والتي ستسدل ستارتها اليوم الأحد، التاسع عشر من شهر أبريل، عرض مهرجان اسطنبول مجموعة كبيرة من الأفلام التركية من نتاجات العام الماضي. اخترنا من مسابقة الأفلام الوطنية التسجيلية فيلمين هما: “حرائق يونيو” لغوركان هاكير و “أهلاً جار” لبينجول إلماس، ذلك أن هناك علاقة ما تربط بين الفيلمين، ربما لأنهما يكادان أن يكملا بعضهما، كما يقدم الفيلمان غضباً وعدم رضا شعبي، يطبعان علاقة الشخصيات الفقيرة التي مرّت بفيلم “أهلاً جار” مع ما يجري في البلد، في حين تفجر الغضب نفسه بشكل عنيف في فيلم “حرائق يونيو”، الذي يقدم احتجاجات مدينة أنقرة في عام 2013.

يُشبه ما يقوم به فيلم “حرائق يونيو”، بشخص يوجّه منظاراً إلى جمع من الناس، ثم يختار بعد ذلك شخصاً واحداً من ذلك الحشد ليقوم بالتركيز عليه ومراقبته. فالفيلم التسجيلي الذي يستعيد الاحتجاجات التي انطلقت في مدينة أنقرة التركية، والتي استجابت بدورها لاحتجاجات مشابهه شهدتها مدينة اسطنبول ضد خطط الحكومة التركية لبناء مركز تجاري في حديقة جيزي العامة وسط المدينة، سيركز على قصة واحدة للتركي إيتيم ساريسولول، والذي قُتل في تلك التظاهرات العنيفة، ليتحول بعدها إلى رمز للغضب الشعبي، وإدانة مستمرة للتكاسل الرسمي في القبض على الجناة.
بعد مشاهد اافتتاحية حاولت أن تُلخِّص الظروف التي قادت إلى احتجاجات مدينة أنقرة، يُركِّز الفيلم على قصة إيتيم ساريسولول، الشاب الآتي من أسرة فقيرة، والذي سنراه في مشاهد فيديو عائلية، يصدح بالغناء أحياناً أو يلعب مع أطفال عائلته في أحيان أخرى. يقسم المخرج غوركان هاكير فيلمه لعدة أقسام، ثم يحاول أن يوازن بينها، فيبدأ بعائلتة التي تفتح بابها للمخرج وفريقه الفنيّ، ثم ينتقل بعدها إلى حادثة مقتل الشاب نفسه، فيستعين بما صورته كاميرات أمنية في الشارع القريب من مكان الاحتجاجات، والذي يعقبه الجزء الثالث، الذي يخوض في تركة مقتل الشاب النفسية في ما حوله، مبتدئا من العائلة ثم المدينة والبلد.
والحال أن الفيلم يتعثر بالتقسيم الذي فرضه على نفسه، ورغبته بضغط كل ما يستطيع ضغطه ضمن الوقت المحدود للفيلم والذي لا يزيد عن الساعة الواحدة، الأمر الذي جعله يحاكي البنيات التلفزيزونية المهووسة بالشرح والإطالة، ويبتعد عن السينما التي تطرح أسئلة وتترك فسحات للتأمل. كما أن التنقلات نفسها ستربك أي إيقاع مُفترض للفيلم، فمن الاستعادات التوثيقية للاحتجاجات، سينتقل الفيلم إلى بورتريه محزن عن عائلة فقيرة فقدت ابنا لها، ثم ينزع الفيلم إلى الطبيعة الاستقصائية، عندما يُحقِّق في ظروف مقتل الشاب التركي، مستعينا بكاميرات الشوارع وشهادات الشهود، ليعود في الخاتمة إلى خطه الاجتماعي النقدي عندما يحاول أن يستقرأ الحاضر التركي بعد أحداث متنزه جيزي قبل عامين، دون أن يمنح الفيلم أياً من المحاور تلك نصيبها من الاهتمام.
كما تغيب عن الفيلم النظرة المعمقّة لقراءة الحدث السياسي والاجتماعي ذو الطبقات العديدة المركبة، والذي يعود في جزء منه إلى طزاجة ذلك الحدث وعدم تشكل موقف نفسي أو فكري كامل منه. إلى ذلك لا يوفر الفيلم مشهديات مُختلفة عما عرضته التغطيات الإخبارية الإعلامية للاحتجاجات، إذ يستعين الفيلم بأرشيف تلك التغطيات، جنباً إلى جنب مع الأفلام ذات الجودة الرديئة التي صورتّها كاميرات المراقبة الأمنية لحادثة مقتل الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُربك أي تجانس صوري، فالمشاهد كانت تتبدل بعشوائية، ولم تمرّ بمعالجات لونية أو توليفية كبيرة تجعل الانتقال عملية هينة أو سلسة للمشاهد.
“أهلاً بالجار” الذي لا نراه أو نعرفه

على نحو ما، يُوفِّر الفيلم التسجيلي “أهلاً جار”، خلفية مهمة لما يجري في تركيا منذ أعوام. فالفيلم يعرض بحساسية تتضمن بعض السخرية والكوميديا التغييرات التي يمر بها المجتمع التركي، من صعود سلطة المال وزيادة تهميش الأتراك الفقراء في المدن الكبيرة . فالعمل التسجيلي يقدم علاقة بين جيران لم يلتقوا أبدا في مدينة اسطنبول، بعضهم مازال يعيش في تركيا قديمة، وهذا ليس مجازاً للبنايات التي يسكنون فيها، بل إن الأواصر التي تربطهم تنتمي فعلاً إلى ماضٍ في طريقه للأفول، وبين جيرانهم الجدد، الذي يسكنون بنايات حديثة ضخمة، تظهر مثل نباتات برية في كل مكان اليوم في المدينة التركية الكبيرة.
يعثر الفيلم على منطقة تمزج بين النمطين المعمارين: بيوت صغيرة على النمط العثماني القديم، تظللها بنايات ضخمة جداً، تحجب ضوء الشمس عنها. تتجلّى أهمية الفيلم بأنه حفظ هذه الجيرة الزائلة للأبد، فالحي القديم الباقي، هو في طريقه أيضاً إلى الزوال، ليحلّ بدلا عنه مُجمعات للأغنياء. يقابل الفيلم أتراكاً من كلا الحيين المُتجاورين، مُركزّاً بشكل خاص على الحي القديم، إذ سيكون الفيلم فرصة لاستعادة أنماط عيش قديمة، عندما كان الجار يعرف ماذا يدور في حياة جاره، والعلاقات الإنسانية بين الناس إحدى سمات المجتمع. على الجانب الغني، يُهمين طبيب شاب قادم من أسرة فقيرة على معظم الوقت المخصص لهم. هذا الطبيب يعتقد أن التغييرات التي تحصل في تركيا هي من سنن الحياة، وأن عمله المتطلب المجهد يحتاج إلى حياة هادئة، تبدو الأحياء الغنية الوحيدة القادرة على توفيرها، دون أن يُبدِ إنزعاجا كبيرا من غياب التواصل مع سكان البنايات القديمة التي تجاوره.
ما يُميز الفيلم هو جو الحنين الذي يلفه، وأسلوبه المبتكر، بتحويل الحوارات التي أجراها مع شخصياته إلى ما يشبه المُناجاة، مشكلة الخلفية الصوتية للفيلم، وهو يتجول ما بين البيوت الباقية من الحي القديم. ما وراء الظاهرة الاجتماعية التي يتناولها العمل، هناك انتقاد واضح لما يجري في البلد، وكيف أن المدينة بقيمتها وميزاتها التاريخية الخاصة تهتز تحت ضربات معاول الأغنياء والشركات العملاقة. بيد أن هذه الأخيرة وعندما حاولت أن تصل إلى إحدى الأماكن الخضراء الباقية في وسط المدينة في عام 2013، فجرت غضباً شعبياً غير مسبوق.