وثائقي يتلَّون مثل “حرباء”

قيس قاسم

لم يرَ أحدٌ من الناس في غانا وجه الصحافي الأكثر شعبية فيها مع أنه يظهر في الكثير من الريبورتاجات التي يعدّها للتلفزيون! لا يعرف الناس إلا اسمه: “أناس أرمياو أناس” أما صورته فلا، لأنه وعلى الدوام  يظهر  فيها مقنّعاً أو متستراً فلا يظهر منه سوى ظهره أو جوانب مُظلَّلة من وجهه. يعرفون اسمه الذي يوقِّع به تحقيقاته الاستقصائية في صحيفة “نيو كريسِدينغ جايد” ويُقبلون على قرائتها، فهو بالنسبة إليهم الصحافي الأكثر صدقية في بحثه عن الحقيقة، والأشجع في فضح الفساد والمساعدة على كشف المجرمين وجرائمهم لدرجة وصفه بها الرئيس الأمريكي أوباما بأنه “الصحافي الشجاع الذي خاطر بحياته من أجل كشف الحقيقة” وفي القارة الإفريقية شاع اسمه وقارب الأسطورة، فأطلقوا عليه لقب “جيمس بوند”، وخارجها كان المخرج الكندي ريان مولينز من أكثر الناس فضولاً  للتعرف عليه وعلى الدور الذي يلعبه كصحافي ويتجاوزه في أحيان كثيرة إلى دور المحقق الجنائي أو المخبر السري، ومن هنا كانت مصاحبته له فيها الكثير من الإثارة والمخاطرة وفيها أيضاً ما يطمح إليه كل  وثائقي باحث عن المغامرة ويعرف حدودها، مع أن الكثير من عمل “أناس” فيه تجاوز للحدود بالمعاني المتعارف عليها، وهنا يكمن الدافع  القوي والفضول في مشاهدة نص سينمائي يعكس الواقع ويُقدِّمه في إطار من الإثارة والتشويق.

تفرض، شخصية “أناس” المتلونة بسبب السرية التي يحيط نفسه بها خوفاً من كشف هويته، على الراغب في توثيقها التلون معها أيضاً، وهذا ما استجاب له وبعفوية واضحة العنوان نفسه “حرباء” (Chameleon, 2015) الذي استوحاه صاحبه من خلال مرافقته للصحافي أثناء زيارته لسوق شعبي له فيه أقارب، ولاحظ توقفُّه الطويل أمام قفص فيه حرباء معروضة للبيع. الإحالة الغربية للتشبيه إيجابية على عكس ما هي عليه في لغتنا العربية التي توحي بالغش والتحايل والانتهازية في المواقف، وفي كل الأحوال توحي في النهاية بقراءة صانع الوثائقي الخاصة ببطله والتي لا تتفق بالضرورة مع الصفات التي يطلقها الناس عليه داخل وسطه الثقافي حتى لو كانت مستلهمة من أبعاد غربية: جيمس بوند!

دلالات المعنى لا يخفيها الوثائقي الذي سيلجأ إلى أسلوب يجمع بين التشويق والإثارة عبر مرافقته له في أخطر المهمات التي يكلف نفسه بها، وبين محاولة الإحاطة ببعض جوانبه الشخصية وحياته العائلية، وبينهما سيعود إلى شخصيات محايدة تتعارض مع توجهُّه الصحفي وأخرى تتفق مع أسلوبه البوليسي وصياغتها إعلامياً.
في كل مساحة من مجاله الحيوي؛ كالبحث والقبض على الجناة، ثمة خصوصية حرص الوثائقي على تسجيلها ليقدم صورة كاملة عن رجل لا صورة حقيقية له. مهمة متعارضة مع مبدأ فني يعتمد على الصورة وتعابيرها الموحية ومع هذا قبل الخوض فيها ليقدم من خلالها حالة غانا التي تميزت عن بلدان إفريقية كثيرة بتجربة ديمقراطية جيدة وحريات سياسية وصحفية معقولة، ولكنها اجتمعت مع غيرها من دول القارة بالفساد واُبتليت به إلى درجة صار يُهدد التجربة النادرة نفسها بتقويته العناصر السلبية فيها، لهذا فـ “حرباء” وبطريقة غير مباشرة يعكس جانباً واسعاً من واقع البلاد وحقيقة المشاكل التي تواجهها من خلال المهمات العديدة التي يتولى الصحافي “أناس” بحثها وتقصي حقائقها.

آلية عمل “جيمس بوند” غانا تعتمد على مشاريع تحقيقات صحفية ذات طابع استقصائي وتحرّي يقوم بتنفيذها مجموعة صحافيين يشاركونه نفس مبادئه. يُعدّ “أناس” بنفسه مخطط الريبورتاج التلفزيوني  والصحفي ويوقت نشره سوية في الجريدة والقناة التلفزيونية المحلية اللتين يعمل بهما واضعاً على الدوام عنواناً جاهزاً لكل عملية أو تحقيق، وما أن يتم إنجاز المهمة حتى يعطي الإيعاز لنشر الريبورتاج. رجال الشرطة متحمسون للعمل معه وبعضهم يعامله كمحقق محترف موثوق به وبفريقه الذي يغلب عليه الطابع النسوي، لدرجة أطلقوا على أنفسهم اسم “سبايس كيرز” محاكاة لاسم الفرقة الغنائية الإنكليزية المشهورة. يخططون بسرية ويتواصلون بمساعدة الشرطة للإيقاع بالمجرمين في الفخاخ المنصوبة ل��م، بحرفية مدهشة وبتنفيذ فيه تفانٍ نادر، يبدو أحياناً بعيداً عن حقل الصحافة.

 واحدة من المشكلات التي يثيرها أسلوب عمله استخدامه اللاقطات السرية والكاميرات الخفية للإيقاع بخصومه، وهو ما  يعده كثر من المختصين بالإعلام خروجاً عن أخلاقيات المهنة التي يرى “بوند” أنها لن تحقق ما يريد تحقيقه من فائدة للمجتمع، وبالتالي فهو لا يأخذ بها، ونتائج عمله تضع المعارضين له في زاوية ضيقة حاول الوثائقي تثبيتها بحيادية مع تسجيل دقيق لمحاسن أدائه وحسن تدبيره للعمليات الخطيرة، التي شارك الوثائقي في بعضها وسجّل تفاصيلها فصار جزءاً من نسيج عمل “أناس” وريبورتاجاته، وعلى المستوى العملي شريكاً في صنع الحدث.

فالحيادية في عمل الشرطة والمحققين لا وجود لها، ولهذا تشعر وكأن الوثائقي نفسه قد تحوّل في أجزاء ليست قليلة منه إلى فيلم بوليسي مثير يثير الأعصاب ويمتلئ بالترقُّب. ثمة خلاصات يخرج بها متابع الوثائقي بعد التمعُّن بما سجلته كاميراته، تشير أهمها إلى كثرة جرائم الاغتصاب والاستغلال الجنسي للأطفال على بقية الجرائم التي يتقدمها الفساد، الأمثلة التي يثبتها الـ “الحرباء” في متنه الحكائي دامغة، مثل: الإمساك بعصابة اختصّت باختطاف الأطفال واستغلالهم جنسياً. إلقاء القبض على طبيب يقوم بإجراء عمليات إجهاض غير شرعية ويجبر النساء الخاضعات لها في عيادته غير الصحية على ممارسة الجنس معهن دون إرادتهن. محاصرة راهب في إحدى كنائس غانا البعيدة عن العاصمة، كان يستغل جهل الناس وأميتهم في تزويج الفتيات القاصرات إلى رجال كبار في السن مقابل مبالغ مالية. كشف عمليات فساد كبيرة لرجال متنفذين في الدولة، وغيرها الكثير من التحقيقات التي صورت بعدسة ذكية وأُعيد ترتيب خاماتها عبر منتجة رائعة جعلت من كل قصة فيه فيلماً مشوقاً بطله الصحافي وفريق عمله المتحمس.

المخرج “ريان مولينز”

 كي لا يظل مخفياً بكامله ولكي يبدّد الأساطير التي نسجها الناس حوله وذهب خيالهم بعيداً في رسم صورته إلى درجة صدقوا فيها بأنه يملك قوة خارقة يستطيع بها الطيران واجتياز الجدران دون أن يلاحظه أحد، وغيرها من الصفات ـ فتح مساراً له، مستقل يوازي المسار الذي فرضه “أناس” على الوثائقي.

 لقد قبل المضي على المسار الشخصاني والحميمي فزار بصحبة الكاميرا  مدرسته الابتدائية وخاطب طلابها بود وأجاب على أسئلتهم مرتدياً بحضورهم هذه المرة قناعاً خفيفاً. تجوّل في أسواق قريته التي رحب ناسها به واستقبلوه كبطل حقيقي، ثم قابل والده المتقاعد وتركه يحكي أشياء عن طفولته وشغفه بالعمل الصحفي وميله لمساعدة المحتاجين من أبناء القرية.

مسار ممتع بعيد عن المطارادت كوَّن الوثائقي من خلاله فكرة عن الشاب الذي كرّس حياته للصحافة وفهم رسالتها بطريقته الخاصة، وانحاز بالكامل إلى الفقراء والضحايا. تفاصيل صغيرة تكاملت بها صورته من دون أن نرى وجهه، لكن الـ “حرباء” لا تستقر على لون فهذه وسيلة دفاعها الفعالة ولا يمكنها التخلي عنها، لهذا وبعد أن أغلق الفيلم عدسته وظننا أنه الختام ظهر “أناس” أمامنا مرة أخرى بزي مختلف وهو يتسلم شهادة الحقوق من إحدى جامعات غانا.
فالشاب وكي يكمل مهمته المركبة (الصحفية/الحقوقية) قرر الدراسة وحصل على ما أراد فتعددت ألوانه واختصاصاته، أما وجهه فظل خفياً على الجموع حتى على صناع الوثائقي الذين ومع الوقت نسوا الحاجة إلى ذلك وتعاملوا معه كما هو: صحافي شجاع ومحقق بوليسي متطوع ومحامي جديد متدرب و”حرباء”.


إعلان