1914: حرب الصور
محمد سلامة

إذا كنت تعتقد أنك تعرف شيئا عن حقيقة ما دار في الحرب العالمية الأولى ، أو أيا من الحروب التي سمعت أو قرأت أو شاهدت عنها فيلما وثائقيا، فهيئ نفسك لأن تُغيِّر رأيك بعد أن تشاهد هذا الفيلم .
الفيلم يحمل أيضا عنوانا إضافيا “الكذب والبروباغاندا في الحرب العالمية الأولى”، يبدأ الفيلم بلقطات أرشيفية من الحرب العالمية الأولى بإيقاع سريع يجذب المشاهد ويقوم التعليق بوضع المشاهد أمام السؤال الطبيعي الذي يريده الفيلم: هل ما شاهدناه عن الحرب العالمية الأولى حقيقي؟ وهي بداية منطقية وإن كانت كلاسيكية للفيلم ولموضوعه القوي، لا سيما في هذه الفترة التي تعج بالحروب من كل حدب وصوب.
ثم ينتقل الفيلم إلى تهيئة المشاهد حول البيئة الأوروبية قبل الحرب العالمية الأولى ولكن بأسلوب أكثر تشويقا، حيث يستخدم المخرج طوال الفيلم أسلوب القطع الموضوعي المفاجئ والذي يُشكِّل مفارقات تجذب المشاهد، فبدأ الفيلم بمعلومة مهمة ستربطنا بأحداث الفيلم لاحقا مفادها وجود أكثر من عشرة آلاف دار سينما في أوروبا عام 1913 ثم يردف بمشهد أرشيفي لزيارة وريث العرش النمساوي وزوجته إلى البوسنة وصوت التعليق يخبرنا بمقتلهم ليقطع المخرج بشكل مفاجئ إلى مشهد نهاية الحرب والنتائج بعدد القتلى الذي يزيد عن سبعة عشر مليون إنسان والدمار الهائل الذي حصل نتيجة للحرب.
حركة ذكية أراد فيها صاحب العمل أن يختصر الطريق الممهد للفيلم ليركز على رسالته الأهم وهي دور الإعلام في الحروب.

الفيلم باختصار مبني على تحليل الأرشيف النمساوي للحرب العالمية الأولى ولكن لإثبات نظرية الكذب والبروباغندا التي زيفت الحروب، وبناء على هذه المعالجة الكلاسيكية لكن الشيقة في ذات الوقت قام مخرج الفيلم – وهو صحفي بالأساس – باختيار عدد من الأفلام التي تم تصويرها خلال الحرب العالمية الأولى وقام بتحليلها ليُظهر عددا من الحقائق الصادمة حول دور الإعلام والسينما في الحروب منذ ذلك الوقت، واستخلص ثلاث كذبات كبرى قامت عليها بروباغندا الحرب :
1. الكذبة الأولى: مفادها “نحن عظماء”، بل الأعظم، ومثال ذلك الفيلم الوثائقي النمساوي “امبراطوريتنا” الذي يصور الإمبراطورية الوهمية المتخيلة كما يريدها من يقودون الحرب، واعتمدت بالأساس على تعظيم الملك النمساوي وتصويره كأب للجنود وحامٍ للشعب، كما اعتمدت على عدم تصوير القتلى في الصفوف الأمامية كجزء مهم من استراتجيجة الدعاية الحربية.
2. الكذبة الثانية: تصوير أرض المعركة، في حين أن ما كان يتم تصويره هو مواقع تصوير معدة مسبقا، وأن المشاهد إما أنها تمثيلية أو مناورات في أحسن الأحوال، ويُعزّز ذلك الكثير من الأدلة مثل حجم الكاميرا الكبير ووزنها الذي يزيد على 35 كيلو غرام ومدته الشريط الذي لا يزيد عن أربعة دقائق ويصعب تبديله، إضافة إلى الكثير من المشاهد التي تبين عدم صدقية الصورة فيها، فمثلا تم فحص أحد الأشرطة التي تُصوِّر جنودا يتسلقون طريقا جبليا غير سالك ليفتحوه في حين تقف الكاميرا في مكان الهدف الذي يسير نحوه الجنود، أو مشهدا لاختراق كهف ثلجي كان يمنع الجنود من الخروج في حين كانت تقف الكاميرا في الخارج حيث يجب أن يخرج الجنود.
3. أما الكذبة الثالثة فهي أن الأمور تحت السيطرة تماما، والحقيقة أن الفوضى كانت تحكم كل شيء في أرض المعركة وفي المدن البعيدة عنها، واعتمدت الدعاية في ذلك على تصوير إصدار الأوامر للجيش والعامة، وحركة الجيوش المنتظمة داخل المدن.

إن توزيع هذه الأفلام على ما يزيد عن عشرة آلاف دار سينما في أوروبا، ليشاهدها ما بين 10 – 12 مليون إنسان، جعل الإعلام سلاحا فتّاكا في الحرب، والصادم أن نسبة المشاهد الحقيقة عن الحرب العالمية الأولى التي نعرفها حتى الآن لا تزيد بأحسن أحوالها عن عشرين بالمئة، ما يجعل دور الدعاية في الحروب مدمرا ليس في أثناء الحرب فحسب بل يتعداه إلى تشويه في التاريخ وقلب للحقيقة إذا ما استُخدم بشكل خاطئ.
كانت الحرب العالمية الأولى حرب أكاذيب بامتياز، وكانت حربَ الصور والسينما بالدرجة الأولى، وفيها اكتشف العالم في البروباغندا سلاحا جديدا، وفيها وُجدت أول نشرة إخبارية أسبوعية مصورة، وفيها تم تصوير أول فيلم وثائقي طويل، وفيها بدأ تلوين الأفلام (لون واحد للمشهد) وفيها تطورت الدعاية والإعلام بعد أن طالت الحرب، فأصبحت تأخذ أبعادا أكثر تعقيدا، فأدخلت مفاهيم جديدة وغريبة لتُشجِّع السكان المدنيين على الانخراط في الحرب، فتم تصوير آلاف المواد الدعائية التي تُصوِّر الحرب وكأنها متعة ونزهة، و كأن آلاف الشباب الأقوياء هم الذين يذهبون بملئ إرادتهم إلى التجنيد. واتخذّت جانبا أكثر تعقيدا، فانتشرت السينمات المتنقلة بين الجنود على أرض المعركة ليظهروا لهم أن مدنهم وعائلاتهم بخير وهم يعملون لأجل المعركة أيضا، وهنا يفاجئنا المخرج بالقطع القاسي نحو حقيقة الحرب عن طريق صور فوتوغرافية نادرة لفظاعة الحرب وأهوالها لم يكن يُسمح بنشرها أثناء الحرب.
يُعدّ الفيلم الوثائقي البريطاني “معركة السوم” The Battle of the Somme وثيقة تاريخية نادرة للحرب العالمية الأولى، فهو أول فيلم وثائقي طويل على الإطلاق، وقد كانت معظم مشاهده حقيقية أحدثت ضجة عند عرضها في بريطانيا عام 1916 لكنه أيضا لم يسلم من تحريف الحقيقة حين انتهى بمشهد (مرتب ومدبر) لانتصار الجيش البريطاني في الحرب.
هذا من الناحية الموضوعية، أما من الناحية الفنية فالفيلم متقن الصنعة غير أنه كلاسيكي المعالجة والتنفيذ، وقد اعتمد الفيلم على ثلاث دعائم أساسية، الأرشيف كمادة أساسية والتعليق المكثف والطويل، والخبراء التاريخين والمخرجين الذين قابلهم مخرج الفيلم، لكن الاعتماد على الأرشيف والتعليق أوقع المخرج – رغم وضوح مرماه – في فخ هبوط الفيلم في منتصفه في محظور الإسهاب في الحرب دون الدعاية التي فيها لكنه تصاعد في دقائقه الأخيرة، وليس من بصمة واضحة للمخرج فيه إلا وضوح رسالته واتباعه الصارم للقواعد الكلاسيكية في صناعة فيلم أرشيفي، وكنا نحبذ أن نرى مشاهد أرشيفية صافية بلا تعليق أو تدخل من المخرج لوقت أطول .