“رسالة إلى الملك”: قصص اللاجئين الأكراد
محمد موسى
![]() |
في فيلمه الروائي الثاني “رسالة إلى الملك”، الذي عُرض أخيراً في مهرجان إسطنبول السينمائي ضمن مسابقة أفلام حقوق الإنسان، يُوظِّف المخرج الكردي النرويجي “هشام زمان”، تجاربه ومشاهداته الخاصة في القصة، أو بالأحرى القصص المُتوازية والمُتقاطعة التي تُؤلِّف عمله، الذي يُقدِّم فيه نماذجاً لأكراد مُتعددون ومُختلفون هاربون من أوطانهم دون أن يَكُفَّ الماضي العنيف عن ملاحقتهم، مُركِّزاً، وهو الذي مَرَّ كحال شخصياته في تجربة ترك الوطن الأصلي والبحث عن ملجأ بعيداً عنه، على مركز إيواء اللاجئين كحيِّز جغرافي ونفسي في آن، بما يحمله هذا من أهمية ورمزية.
فهو المكان الأول في مسيرة طالبي الحياة الجديدة في أوروبا، و”بوتقة” أو “برج بابل” مُصغَّر تغلي في داخله عِلَل المناطق التي أتى منها اللاجئون والتي لازالت في خضم التغييرات والصراعات والتحولات. إذ يبدو هذا المكان مثالياً كثيراً – على الأقل لصانعي الدراما- للنبش في تفاصيل الماضي التي مازالت طازجة وقريبة، فلا يُوجد مكان يضاهيه في قسوة تجارب ساكنيه، وضبابية الوجهات التي ستأخذها حيواتهم بعد أن يغادروا عتباته.
سرعان ما يغادر الفيلم مركز اللاجئين الذي افتتح دقائقه الأولى بين جدارنه، لكن هذا الأخير سيبقى كإطار غير محسوس يجمع بين أزمات الشخصيات وإشارة لعدم جاهزيتها لمواجهة العالم الخارجي.
يتجِّه الفيلم مع أبطاله إلى العاصمة أوسلو، حيث ستتطور هناك الدراما للقصص العديدة الصغيرة التي قدّمها السيناريو. يأخذ الفيلم شخصياته في يوم نزهة يُنظمه مركز اللجوء إلى العاصمة التي يعيشون على أطرافها، ليتحول هذا اليوم، إلى زمن أحداث الفيلم، وعبره ستتكشّف تفاصيل وخبايا الحكايات، التي يصل بعضها إلى نهايات عنيفة صادمة، فيما يبدو الطريق طويلاً أمام الحكايات الأخرى للوصول إلى خواتيم ناجحة.
يتنقّل الفيلم من شخصية إلى أخرى، وإذا كان البلد الأصلي الذي أتت منه الشخصيات هو المُشترك الواضح بينها، إلا أنها تختلف بأحلامها ومشاغلها وما يُثقل أرواحها. هناك الرجل المُسِنّ وزوجته، والذي يريد أن يوصل رسالة إلى ملك البلاد، متوسلاً أن يمنحه جواز مؤقت للذهاب إلى العراق لحضور جنازة هناك. فيما تختلف هموم الكردي الآخر الذي ينتهز يوم العطلة هذا لزيارة عشيقته النرويجية، التي يخفي عمرها المُتقدم وكيف تبدو، عن أصدقائه في مركز
![]() |
اللجوء. وهناك قصة ستتطور باتجاه عنيف لأمراة شابة من خلفية حزبية تطارد رفيقها السابق في الحزب الكردي الذي جمعهما يوما، والذي وشى بزوجها، ويعيش ويعمل اليوم في العاصمة النرويجية. بالإضافة إلى القصص الآنفة هناك أخرى صغيرة، واحدة عن مراهق في أول رحلة التمزق الطويلة بين الجذور التي أتى منها والمحيط الغريب الذي يعيش فيه، إذ يحاول هذا الفتى أن يُحاكي المجتمع من حوله، مُقلداً ما يراه. وهناك الشاب الذي ينتهز فرصة وجوده في العاصمة لاسترداد الأجور التي لم يأخذها من عمله في محلات لمهاجرين مثله، الذين يماطلون في منحه حقوقه.
جاء الجزء الثاني من الفيلم أكثر قتامة بكثير من الجزء الأول، فبعد التمهيد الطويل والذي تخللته لحظات عديدة من الكوميديا يبدأ فصل أسود عنيف، جريء كثيراً في بعض تفاصيله، بخاصة في تجسيده للعلاقة بين الكردي مع صديقته الأجنبية، إذ اختزلت مُعالجة المخرج المتفهمة للكثير من القضايا الإشكالية التي تحيط العلاقات العاطفية بين الرجل الشرقي والمرأة الغربية دون أن تنزلق هذه المعالجة إلى التنظير الفكري أو اللغة الخطابية أو التنميط، فيما جاءت خاتمة قصة المرأة الحزبية التي تطارد الرجل الذي خان زوجها، شديدة العنف وتختزن عُمق وتعقيد وقسوة العلاقات في المكان الأصلي الذي أتت منه الشخصيات.
ليست كل القصص في الفيلم بنفس الجودة أو البناء الدرامي المُحكم، كما أن حشر بعضها ضمن القصص المُهمة المُقدمة أثّر بشكل عام على العمل برمته، فالانتقال لم يكن سلسلاً بين قصة وأخرى أحياناً، الأمر الذي يطرح
![]() |
تساؤلات عن المُعالجة العامة للفيلم وإذا كانت خضعت لتحليل مُعمق، أم أن الرغبة في تنويع القصص ربما جاءت قبل معاينة شروط الانسجام الدرامي بينها. فقصة الرجل المُسِنّ بدت تتوسل التعاطف المُبسّط من الجمهور، وغلب الانفعال على حكاية الشاب الذي يحاول الحصول على حقوقه المالية المسلوبة، وهناك تنميط من المخرج لشخصيات من المهاجرين أنفسهم، يصل أحياناً إلى العدائية غير المبررة، كالمشهد الذي يصوِّر مُسلماً مُلتحياً في القطار والذي جاء ضمن توليف غير بريء.
كحال فيلم المُخرج الأول (قبل سقوط الثلج) تُصارع شخصيات فيلم “رسالة إلى الملك”، بين ماضيها في البلاد الأولى وشروط وتأثيرات أمكنة حياتها الأوروبية الجديدة. لا تفارق أشباح الذكريات العنيفة شخصيات المخرج في فيلميه، لكنه لا يغلق الأبواب تماماً أمام تجارب الأمكنة الجديدة التي تتسلّل ببطء لكن بحزم إلى حيوات تلك الشخصيات، فرغم أن باكورة المخرج التي كانت عن رحلة الشاب الكردي الذي يلاحق أخته التي تعيش في أوروبا لقتلها بسبب مخالفتها للعرف الاجتماعي، تصل إلى نهاية مأساوية، لكنها تتضمن أيضاً إشارات مُتفائلة، عن فرص العفو التي يُمكن أن تطلبها وتجدها هذه الشخصيات، إذا فتحت الكوة المناسبة في أرواحها للعالم الواسع المُختلف الذي وجدت أنفسها فيه.