ألف قاهرة وقاهرة..؟!
د. أمــل الجمل

“عُد فوراً إلى الجحيم.. فقد أصبحت البلدة تسبب لك الحيرة، ولم تعد تميز بين الخير والشر.” هكذا أمر الرئيس الأعلى العفريت الذي أرسله إلى القاهرة ذات يوم لينشر الفتنة بين الناس فانقلبت حياة العفريت رأسا على عقب.
من تلك البداية الساخرة، ذات المغزى العميق، ينطلق فيلم “ألف قاهرة وقاهرة” وهو شريط وثائقي طويل – مدته 83 دقيقة – من إخراج ومونتاج السويسري جاك سيرون، والفيلم إنتاج سويسري مصري مشترك، ويُمثِّل الجانب المصري فيه شركة سمات.
جذبني إلى مشاهدة الفيلم عنوانه؛ “ألف قاهرة وقاهرة”، وهو الذي عُرض خارج المسابقة الرسمية بمهرجان جنيف للفيلم الشرقي في دورته العاشرة، كما استولت عليّ الرغبة في أن أتأمل كيف يرى الغريب القاهرة، خصوصاً لو كان الغريب قادم من أجمل بقاع الأرض جنيف “عاصمة السلام”. هل ينجح هذا الغريب في أن يتواصل مع جغرافية وتاريخ وطبيعة القاهرة الحالية الموسومة بالعشوائية وربما الجنون؟ هل بمقدوره أن يتحملها طويلاً بعد أن يستمتع بها كسائح لعدة أيام؟ إذن لعب الفضول دورا أساسياً في إصراري على المشاهدة، خصوصاً أن عين الغريب في كثير من الأحيان تكون قادرة على أن تلتقط الأشياء التي اعتدنا على رؤيتها، أو فقدنا الإحساس بها، حتى وكأننا لم نعد نراها، أو بمعنى أدق وكأنه لم يعد لها وجود، أو تكيفنا معها كأن وجودها صار أمر عادي، وليس مرض عُضال.

أما القاهرة، كما يراها هذا الغريب، فلها ألف حكاية وحكاية، أو كما يشير العنوان أنها ليست قاهرة واحدة ولكنها ألف يُضاف إليها واحد. يراها الغريب أيضاً كأنها أبجدية من دون ألف أو ياء، متاهة من ألف كتاب وكتاب. يعتبرها مدينة ليست فقط للغواية ولكنها تغزو بوحشية، تلك المدينة جعلته يتساءل: كيف يبقى الناس على قيد الحياة رغم كل هذا السرطان المستفحل في كل مكان؟ وما السر وراء الاعتقاد بالقدرة على مقاومة الغرق؟ بينما يرى هو أن التيار شديد، وأن مقاومة هذا الكابوس مستحيلة. لن يجد الغريب إجابة حاسمة، واضحة، مباشرة، لكن ربما من ثنايا التفاصيل يدرك المصري وحده سر هذا البقاء وتلك المقاومة.
على الرغم أن كُثر من الأجانب والغرباء نجحوا في التكيف مع تلك المدينة القاهرة، لكن الغريب القادم من عاصمة السلم بعد أن ظل أربعة أشهر ليستكمل فيلمه، فعلى ما يبدو أن مقاومته لم تحتمل، وانخفض معدل المناعة وهاجمه الاكتئاب، فحبس نفسه أياما واعتزل الناس قبل أن يقرر الرحيل، عازماً على عدم العودة، مؤكداً أنه لن يقدر أبدا على ترويض تلك المدينة، كما أنه لن يعتاد أبداً على الفوضى.
عين الكاميرا متربِّصة

يتميز الفيلم برصد أدق التفاصيل كأنه يمسح القاهرة ضوئياً، يقوم بعمل “سكاننج” لمبانيها وشوارعها وبيوتها وبلكوناتها، ونوافذها، والغسيل المنشور على الأحبال بأشكاله وألوانه والأحاسيس التي يغرسها إما بالخوف أو الموت أو البهجة في حالات نادرة. يُسجِّل لقطات للمدينة آناء الليل والنهار، للمدينة وهى تستيقظ بعد نوم عميق، للحظات هدوئها في الصباح الباكر، ثم والجنون يدب فيها رويداً رويدا. يحتفظ بلقطات لنساء ممتلئات من أعمار مختلفة تستقرّ فوق رؤوسهن أكياس ضخمة، ورجال يجرّون بسواعدهم عربات ثقيلة مُحمّلة بالبضاعة، وشباب يرفعون فوق أكتافهم الأحمال والكراتين الضخمة فيملؤون الكادر بالمعاناة والكد والشقاء. هناك لقطات كثيرة أخرى للناس يعبرون بين السيارات أو فوق الكباري والمواسير، ولقطات لناس آخرون ينتظرون أي لحظة مواتية لإلقاء أنفسهم بين الفراغات الضيقة للسيارات والشاحنات والدراجات البخارية حتى يعبروا إلى الجانب الآخر حيث جدار أو سور أو مواسير ضخمة تقسم الطريق. ستتنوع اللقطات، للبشر باختلاف هوياتهم الجنسية والنوعية بشتى مشاربهم، لأحذيتهم القديمة والجديدة، الطويلة منها والعريضة، المرتفعة قليلاً أو الزاحفة، للشباشب، والجوارب تحت الصنادل، للأقدام تسير في استسلام، في وهن، أو في حماس وعجلة. تكشف اللقطات لأناس القاهرة وكأنهم في سيرك كبير يسيرون فيه على حبل رفيع.
يرصد سيرون كل ما سبق وعشرات، بل مئات التفاصيل الأخرى، بعين متربصة، متيقظة على الدوام، من زوايا مختلفة، متنوعة، مفاجئة وغير متوقعة، لكنه مع ذلك ظل يُحافظ على جماليات خاصة لتكوين الكوادر، وللإيقاع المشوب بالحس الفني خصوصاً على وقع آلات موسيقية أفريقية هادئة تمنح المكان طابعاً مميزاً.
التنوع في الثبات

رغم ثبات وضعية الكاميرا وعدم تحركها أثناء اللقطة الواحدة لكن مواقعها تختلف باستمرار. أحياناً علوية جداً كأنها تستقر في الطائرة لتأخذ لقطة عامة للمكان فتظهر الأهرامات وما يحيطها وحتى العمارات الشاهقة على الجانب المعاكس من الطرف الآخر، ليضع التاريخ في مواجهة الحداثة بكل قبحها. أحياناً تهبط الكاميرا إلى مستوى البشر، أو تنخفض لتصبح تحت أقدامهم، أو تنغرس بينهم كأنها فرد منهم، أو تقف في طريقهم فترغمهم على تغيير المسار قليلاً وتلفت نظرهم إليها فينظرون في عدستها، وأحياناً أخرى تختبئ وتتوارى من دون أن تغفو عينها أبداً. لا يعتمد الفيلم على السرد الصوتي أو الراوي المسموع، يكتفي بالخلفية الصوتية للمكان، لأصوات الشوارع وما بها من أبواق السيارات وصوت أقدام الناس على الأرصفة، بالطبع إلى جانب الموسيقى الموظفة بشكل متناسق وكاشف للحالة التي يبثها فينا الفيلم. يستعين المخرج فقط بالتعليق المكتوب، والذي يتسم بالسخرية في بعض الحالات، والكوميديا السوداء في أحيان أخرى.
في شريط “ألف قاهرة وقاهرة” لن يجد المصري شيئاً جديداً لم يعرفه عن مدينته المربكة المحيرة للعالم، لن يرى جديداً لم يره من قبل. إنها القاهرة التي يعرفها كل مصري ومصرية بأوجهها العديدة. كل ما في الأمر، أن المخرج وكاتب السيناريو – الغريب المندهش المرتبك – حاول تجميع الوجوه المختلفة والمتباينة سواء القبيحة والفقيرة والجميلة والبهية والمثيرة للجنون أحياناً، وأعاد بنائها، لسرد نتف من حكاياتها في شريط واحد موسوم بالهارمونية، وكأنه عمل سيمفوني مغاير تغلب عليه السخرية والدهشة.