“عاشت فرنسا”.. ماتت جزر بولينزيا !
قيس قاسم

ظلّت أنظار العالم ولسنوات طويلة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية متجهة إلى هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، فيما كانت تجرى في مناطق أخرى من العالم تجارب على قنابل ذرية أشدّ قوة من تلك التي أسقطها الأمريكان هناك بمئات المرات. ولكن بفارق؛ أنها كانت تجرى بصمت قاتل متعمَّد وتطبَّق عملياً على شعوب مسكينة معزولة في جزر المحيط الهادىء وهنا يتقدم الوثائقي السويدي “عاشت فرنسا” Vive La France 2014 ليكشف بشجاعة جزءاً بسيطاً عما كان يجري بالفعل في جزر وأرخبيلات “بولينزيا” الفرنسية في عمل سينمائي لافت يعرض جوانب من التخريب المتعمَّد والإبادة الواعية لشعوبها.
لم يتوقف العالم عنده طويلاً لأسباب كثيرة ذات صلة مباشرة بسياسة الهيمنة والسيطرة الاستعمارية فيما يحاول المخرج هيلي فيلكسون ومساعدته تيتي جوهانسون في عملهما التنبيه إليه، ووضع أصابعهم على بعض جروح تلك الجزر النائية الغارقة في سكينة دائمة لم تفسدها سوى أصوات القنابل النووية التي انتظم الجيش الفرنسي على إجرائها طيلة سنوات، كانت خلالها الإشعاعات النووية تتسرّب بصمت إلى أجساد سكانها فيما ظلّت قوة التفجيرات المتتالية تُحدث في سطحها شروخاً عميقة قد تتسبّب في غرقها وزوالها من على وجه الأرض.

هذه الصورة المكثفة لمضمون “عاشت فرنسا!”، والتي ترد على لسان الزوجان كوا وتيريكي من سكان جزيرة توريا في المحيط الهادىء، يصرّ صانع الوثائقي على تثبيتها في مفتتح فيلمه رغم تهديدها المحتمل بتضييع عناصره التشويقية، لأنه ببساطة اعتمد في تأسيسه على قوة الفكرة لا الحدث، وهاجسه الأول كان التحرِّي عن الحقائق وترتيب الأحداث وفق تسلسل تطورها التاريخي والسياسي لا الارتكان على العنصر الدرامي فيها، لهذا نراه يعود بسرعة إلى الوراء، إلى العام الذي قرّرت فيه الحكومة الفرنسية منع إجراء تجاربها النووية فوق جزر المحيط دون ذكر للآثار التدميرية التي تركتها هناك. من هنا يبدأ كشفه، من المفارقة السياسية التي سبقت القرار بعام واحد حين أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عام 1995 استمرار الجيش في تجاربه النووية في جزر بولينزيا وعدم توقّفها، ما أثار موجة من الاحتجاجات أجبرته بعد عام على وقفها.
لا يلعب شكلياً فيلكسون على تلك المفارقة الصارخة بل يذهب بعيداً في التاريخ، فيرجع إلى اللحظة التي أعلن فيها شارل ديغول وبعد سنوات قليلة على نهاية الحرب العالمية الثانية، بأن التجارب والتفجيرات التي تجرى في جزر المحيط الهادىء ستعود بالخير والنجاح على سكانها.
يُثبت الوثائقي عبر تسجيلات من الأرشيف خطابات الرئيس الفرنسي المتفوه والمتحدِّث اللبق أثناء زيارته لتاهيتي أكبر تلك الجزر، وهو يقدم فيها المزيد من التطمينات والوعود لشعوبها؛ بوفرة الخير القادم إليهم مع جيشه ومع تجاربهم وتفجيراتهم “البسيطة”. سيصدق الناس كلامه وسيقبلون بموتهم!. ينقل “عاشت فرنسا!” بأسى كلام الناس اليوم وهم يشعرون بخيبة الأمل الكبيرة، وباكتشافهم لسذاجة آبائهم الذين صدّقوا الأكاذيب ورحبّوا بها، فيكرر عرض التسجيلات القديمة المصورة وهم يهتفون فيها مرات ومرات “عاشت فرنسا!”.

عاشت فرنسا ماتت جزر بولينزيا! وبالتحديد جزيرتهم “توريا” كما سيهتف الوثائقي مرات ومرات. يربط الشريط الوثائقي المثير للشجن من خلال شخصيات فرنسية أدخلها على خطه لصلتها المباشرة بالحدث مثل؛ الباحث والمعارض الفرنسي “برونو بارلو” الذي كرّس حياته للدفاع عن سكان الجزر، بين فقر الجزر واعتماد اقتصادها بالكامل تقريباً على المساعدات المالية الفرنسية، وبين قبول قادتها المحليين بما تمليه عليهم الإدارة الفرنسية المُتمثّلة بالمندوب السامي الفرنسي، الذي يزور الجزيرة مرة واحدة في العام يُقرّ خلالها الميزانية السنوية ويذهب. لقد باع الناس جزرهم ولكنهم لم يدركوا حتماً أنهم يهبون أجسادهم ويخاطرون بأرضهم مقابل سماحهم بوجود الجيش الفرنسي على أرضهم وقيامه بتجاربه النووية، التي لا يعرفون شيئاً عنها، سوى أنها تضيء الليل وتجعله مثل النهار وأن الأرض تهتزّ تحت أقدامهم يوم تفجيرها بالقرب من سواحلهم إلى جانب وجود الغيوم الدائم فوق رؤوسهم. استغلال الفقر والجهل وقوة المال أدّت إلى تدمير أجمل مناطق الأرض على الإطلاق.
يثير الوثائقي الحسرة على جمال وضياع تلك المناطق الساحرة من خلال ترك كاميرته تُصوِّر تفاصيل الحياة فيها دون تبريز متعمّد لمفاتنها، بطريقة حذقة تولِّد إحساساً عميقاً بالضياع وببشاعة استغلال بشر يُمثِّل وجودهم أعلى درجات التقارب المثالي بين الطيبة الفطرية وبين جمال الطبيعة اللامحدود، وفي لحظة تراجيدية نادرة صورت بشراً أغلبيتهم أصيب بالسرطان، لدرجة تبدو الجزيرة وقد تحولت إلى مستوطنة سرطانية، ما يثير فزع الزوجين الشابين كوا وتيريكي وخوفهما الشديد على مستقبل طفلهما، ومن احتمال إصابتهم بالسرطان الناتج عن التفجيرات “النظيفة” كما يصرّ الفرنسيون على وصفها، على الرغم من كل المعطيات التي يقدمها الوثائقي من خلال الخبراء والعلماء الذين قُدِّمت مداخلاتهم في الشريط عبر رسومات توضيحية تُكذِّب ما يدّعيه المحتل.

يكرس الوثائقي وقتاً لسماع الخبراء وتثبيت وجهات نظرهم في الجوانب العلمية المتعلقة بتأثيرات أشعة اليورانيوم على أجساد الناس والطبيعة، وعلى قوة التفجيرات التي تمت تحت سطح الأرض وفي أعماق المياه الساحلية القريبة، وأحدثت شقوقاً عميقة في الجزر تهدد بإغراقها وزوالها بالكامل.
أكثر ما يؤلم في كلامهم وتوقعاتهم هو عجز الناس عن عمل شيء يمنع حدوثها في الواقع، فتراهم يبدون مستسلمين لأقدارهم غارقين في حيرة متناهية، لدرجة يظهر فيها الوثائقي وبقية من يريدون إسماع صوتهم وكشف الحقائق المتعلقة بتجربتهم إلى العالم، وكأنهم يقومون بهذا نيابة عنهم.
واحدة من الحقائق المؤثرة في المعادلة “البولينزية” هي قلة عددهم بالنسبة إلى مساحة جزرهم، والذي سيكتشف النشطاء والمطالبون بتعويض سكان الجزر عما لحق بهم من أذى، أن السياسية الغربية وبعد الحرب العالمية الثانية تعمدّت اختيار تلك المناطق لهذا السبب، فموت آلاف قليلة من البشر في جزر نائية لن يثير حفيظة العالم وعلى خلفية هذه الحقيقة سيدرك سكانها، متأخراً، أكاذيب فرنسا وقادتها حين ادّعوا أنهم قد جاؤوا من أجلهم ومن أجل مستقبلهم، ولهذا السبب سيثير الوثائقي الاقتحامي سؤالاً إشكالياً: لماذا لم يجرِ الفرنسيون نفس التجارب بالقرب من برج إيفل أو في مدن أوروبية أخرى؟ ولماذا لم يختاروا جزرا كبيرة العدد؟
يقع تحت يد المخرج السويدي شريطاً مسجلاً يظهر فيه المندوب الفرنسي أثناء إحدى زياراته السنوية للجزيرة، وحضوره حفلاً أقيم على شرفه وهو يتحدث إلى المسؤول المحلي الذي يطلب منه تخصيص طبيب مقيم نتيجة الأمراض الكثيرة المنتشرة فيها، وحالات الموت بسبب السرطان، فكان جوابه بأن هذا غير ممكن التحقيق لأنهم لم يُخصصوا في ميزانية الجزيرة السنوية راتباً لطبيب مقيم!. يأخذ “هيلي فيلكسون” هذا المقطع ويبني عليه مخططه للطبيعة العلاقة المختلة بين فرنسا ومستعمراتها.

يذهب إلى باريس ويتابع النقاشات الخاصة بالجزر وحقوقها ليكتشف بنفسه أكاذيب ولا مبالاة الأحزاب السياسية الفرنسية بهذا الجانب واكتفاءهم باللعب عليها أثناء الانتخابات فقط، إلى جانب تعاملهم الفوقي مع مجموعة يشعرون بأنهم يتفضلون عليها بالمساعدة الاقتصادية دون ذكر منهم للثمن الغالي الذي يدفعه سكانها، وجزيرتهم، التي راح يعرض الوثائقي بذكاء قضية غرقها المحتمل عبر صيغة سؤال علمي مجرد.
بعد ملاحقة مكثفّة سيبرهن العلماء أن الجزيرة في طريقها للغرق وأن غرقها سيتسبب بـ”تسونامي” جديد يدمر بقية الجزر القريبة. فانهيار ملايين الأطنان من الأرض في قعر البحر سيؤدي إلى ارتفاع منسوب الأمواج في المحيط ليصل لأكثر من عشرين متراً تكفي لإغراق الجزر المرجانية القريبة والتأثير على الحياة البحرية بأكملها.
يترك “تعيش فرنسا!” باريس، بعد أن يأِس من حصوله على أجوبة شافية أو حماسة مرتجاة عند سياسيها لمتابعة مصير شعوب صغيرة وجزر ساحرة تموت بسببهم، ويعود إلى العائلة الشابة في جزيرة توريا وهي تتابع بقلق ما يجري في الجزيرة بعد تأكدها بأنها على شفى الانهيار.
يُسجِّل بروية مشاعرهم ومخاوفهم من المستقبل، وتفكيرهم بطفلهم والبحث عن طرق ممكنة تنقذه من مصير أسود محتوم رسمه المحتلّ وتركهم يواجهونه بمفردهم وبدون قوة ولا أدوات تعينهم، وحسب قول الأم “حتى قوارب نجاة صغيرة لا نملك” فيُعلِّق زوجها ساخراً والمرارة تملأ فمه: “عاشت فرنسا!”. فيما يظلّ الوثائقي السويدي يهتف بطريقته السينمائية الخاصة والمؤثرة: “عاشت فرنسا.. ماتت جزر بولينزيا الساحرة!”.