“لورنا “..امرأة ضد الحرب

طاهر علوان

“يجب أن أعترف أنني لم أكن أعرف بلدا اسمه العراق، ولا أعلم أين يقع على الخارطة، تماما كما لم يكن يعرف عنه الكثير من الأميركيين.”
لورنا

نحن الآن في شهر شباط فبراير 2003، العالم يحبس أنفاسه، طبول الحرب تُقرع وصخبها يعلو على كل الأصوات الداعية لنزع الفتيل والداعية إلى السلام، الإدارة الأمريكية ممن عُرف طاقمها آنذاك بالمحافظين والصهاينة الجدد، يعدّون الرأي العام للانطلاق نحو الحرب، الماكنة الإعلامية الجبارة هيأت الأمريكان إلى تقبُّل حقيقة أن النظام العراقي هو غول هائل وامبراطورية شرّ مدججة بأسلحة الدمار الشامل، ويجب دحره في عقر داره، وتدميره لكي لا يُلحق ضررا بأمن الولايات المتحدة وأصدقائها، كل هذه التفاصيل تتدفّق في فيض صوري هائل يكتظّ به هذا الفيلم – من إخراج  تريش دالتون –  في مشاهده الأولى والذي شارك في العديد من المهرجانات، وعُرض في الدورة الأخيرة للمهرجان الدولي للسينما التسجيلية في أمستردام.
على وقع قُرب انطلاق شرارة الحرب، تعالت أصوات ملايين البشر في جميع أنحاء العالم، كان هنالك دعاة سلام وناشطون مدنيون ومناوئون للحروب، ومناوئون للسياسات الأمريكية الاحتوائية والتوسعية ، ومن بين هؤلاء المصورة الصحافية الأمريكية ( لورنا تيشوستاب) التي تُقرِّر في تلك الدقائق الفاصلة، قبل انطلاق قطار الموت والخراب باتجاه العراقيين، أن تذهب إلى هناك، إلى بغداد، لتعايش الناس أياما معدودات قبل اندلاع شرارة الحرب الطاحنة أو ما عُرف بالصدمة والرعب، وكان مجرد إعلان نيتها السفر إلى العراق سببا للتهجُّم عليها من جهة اليمين المتطرف، لكن ها هي تجتاز الحدود البرية الأردنية العراقية، في سيارة أجرة عادية، وتقطع الطريق الصحراوي باتجاه بغداد.

لقطات وثائقية استرجاعية لردود أفعال أقرب الناس إليها، ابنها (18 عاما) وابنتها (21 عاما) اللذان يؤمنان بها تماما ويقولان: “نعم نحن نقلق من أجل سلامتها لكننا نريد أن نعرف الحقيقة من الجانب الآخر.”
يتحدث أيضا رئيس تحرير مجلة (كرونوغرام) حيث تعمل “لورنا” محررة للقسم السياسي فضلا عن التصوير الصحافي ويشيد بشجاعتها وأنها ستقوم بعمل يستحق المجازفة.
بغداد في غروب وجِلٌ آخر، تمرّ لورنا على أحد الجسور التي تربط ضفتيّ نهر دجلة، وهي ستتجّه مباشرة لملاقاة الناس في حياتهم اليومية، وهكذا تمضي وقتها في وسط عائلة عراقية بسيطة تتجاذب معهم أطراف الحديث، إنهم أناس طبيعيون طيبون وأطفالهم يمرحون أمامها وتحملهم بين أحضانها وتداعبهم، ولكن عدستها لا تتوقف لحظة عن التقاط صور وجوه العراقيين، نساءا وأطفالا وكهولا، في مهن شتى وأماكن متعددة.
تخرج إلى شوارع بغداد وسط تصريحات بوش الهادرة “إن الولايات المتحدة ستردع ذلك النظام الأخطر على أمنها بما يمتلكه من أسلحة محظورة ونزعات عدوانية”، لكن لورنا تسير وسط مسيرة في وسط بغداد  لناشطين مدنيين ودعاة سلام من أنحاء العالم، بضعة نفر تجمعوا تحت اسم “جسر إلى بغداد” وفي مشاهد موازية تتدفق حشود مليونية من أنحاء العالم تنادي بعدم الاندفاع إلى الحرب وتذكّر كم من الضحايا سيسقطون، مظاهرات تظهر على الشاشات في العديد من مدن الولايات المتحدة وفي لندن وبرلين وروما ومدريد وبروكسل وكوالامبور ونيودلهي وجنوب إفريقيا والبرازيل وكندا وغيرها.

لم يبق للحرب إلا ساعات، تعود لورنا إلى الولايات المتحدة محمّلة بخزين هائل من الصور والذكريات والأصوات والبراءة والأوقات الجميلة التي قضتها مع العراقيين العاديين في أكثر من مدينة، لكن بلادها، الولايات المتحدة لن تستقبلها بالأحضان، فها هي قناة فوكس الشهيرة تشنّ حملة إعلامية شرسة عليها، إنها تذهب لملاقاة أعداء الولايات المتحدة، وإن تصرفها لم يكن فيه احترام للمشاعر الوطنية بما فيه الكفاية وصولا لاتهامها بالخيانة والتعاون مع العدو والمطالبة بتطبيق القانون عليها، وحتى تغريمها وسجنها، ومهما قدّمت دلائل على مهمتها السلمية والإنسانية، وأنها ذهبت لملاقاة الناس البسطاء، إلا أن ذلك لن يجدي نفعا، كل ذلك السجال يظهر على الشاشات الأمريكية والناس تراقب عن كثب.
تنقل  لورنا ما جمعتّه من مشاهدات وانطباعات لتعرضها أمام الرأي العام، كثافة من الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لأطفال ونساء وكهول وهي تصرخ في جمهورها: “انظروا، ألا ترون الهلع في عيون هؤلاء البسطاء، ألا ترون أنهم يعانون خوفا لا يستحقونه وهم على وشك الدخول قسرا في حرب ليسوا طرفا فيها؟! “
وفيما لورنا تواصل جولاتها في الأوساط الجامعية وتجمعات الناشطين المدنيين ودعاة السلام، يطلّ الرئيس الأمريكي جورج بوش يوم 19 مارس آذار 2003 معلنا أن الحرب قد بدأت بالفعل. يخيم الوجوم والترقُّب والعالم يشاهد القاصفات الأمريكية تلقي قنابلها على بغداد فيما تصرخ لورنا:
“يريدونني أن أسكت، أن أنسى ما أراه، فهل تستطيعون إقناعي بأن الحرب ستنتهي قريبا؟! “

يمرّ عام على بداية الحرب، وها هي لورنا مجددا في بغداد في شباط فبراير 2004، ها هي هذه المرة في وسط عرس شعبي في إحدى القرى العراقية تشارك نساء القرية الفرحة والغناء وتحتضن العروس وتذهب معهم في حفل الزفاف، بعد ذلك بوقت قصير يقيم الرئيس بوش أفراحه بمناسبة انتخابه لولاية ثانية وتظهر على الشاشات الامريكية مقولة: ” تمرّ الولايات المتحدة بوقت صعب وخطير، وبوش وطاقمه وحدهم يملكون حماية الشعب الأمريكي.”
وفي المقابل تتدفق حشود المتظاهرين ضده وضد سياساته، وبموازاة ذلك تتفقد لورنا كوارث القصف والحرب، صور لدمار الهائل لحق بكل ما حولها، أناس عرفتهم قبل الحرب اختفوا كليا وسويت بيوتهم بالأرض من جراء القصف الذي طال كل شيء.

يمرّ عام آخر، وتعود لورنا في مطلع العام 2005 لتشهد تغيرا ملحوظا في حياة العراقيين، انتشار السلاح وسهولة إشهاره في وجه أي أحد، أصبح ظاهرة ملفتة أكثر من ذي قبل، تُصوِّر من النافذة شبابا يافعين وهو يعبثون بالسلاح، تحضر أول انتخابات نيابية في ذلك العام لكن الغريب هو مطالبتها بأن ترتدي الحجاب إجباريا لدى دخول مراكز الاقتراع فضلا عن منعها من التصوير.
تُعلِّق على ما شاهدته: “أهذه هي الحرب التي ذهبنا إليها؟ كل شيء يتشوه، ولغة الحرب وآثارها في سلوك الناس لا تكاد تُخطئها العين، هنالك خوف عارم وشرارة صراعات من الممكن أن تشتعل في أية لحظة بين المكونات العراقية التي كانت متآخية بالأمس وتعيش في سلام.”

تعود إلى الولايات المتحدة وتُنظِّم العديد من معارض الصور الفوتوغرافية، حصيلة ما صوّرته في رحلتها الأخيرة لتعلن أنه وضع معقد، إنه تداخل غريب وحالة عراقية تخرج من جوف الحرب وتُنذر بالمزيد من الآلام، وأن حرب بوش لم تجلب للعراقيين الراحة والأمل كما قيل.
مشاهد تأبين الجنود الأمريكان، الذين قتلوا في العراق، أحذيتهم العسكرية ذات الأعناق الطويلة يحمل كل منها اسم جندي أو ضابط، فيما تضع لورنا في موازاة اسم الجندي “جون” اسم الطفل خالد الشهيد، وهكذا تنشر أسماء الضحايا العراقيين في موازاة الأمريكان وتنشر صور الضحايا علاوة على ذلك.
يحتشد الفيلم بكم من الوثائق والصور منحته قوة تعبيرية عميقة، إذ واكب قضية إشكالية كبرى وخاصة أن الفيلم قد أُنجز العام الماضي، أي بعد مرور قرابة 12 عاما على اندلاع تلك الحرب ، إلا أن جراحا غائرة لم تندمل لاسيما مع استرجاع صورة وزير الخارجية “باول” ووزير الدفاع “رامسفيلد” وهما يسوّقان مزاعم  أسلحة الدمار الشامل العراقية، لنشاهد ظهورهما في تسجيلات ولقاءات لاحقة وهما لا يجدان الأعذار ولا المبررات لذلك السيل من الأكاذيب التي رافقت تلك الحرب المجنونة.

لورنا ..الإنسانة والمناضلة ضد الحرب، التي قاومت بمبادئها وثباتها ماكنة الحرب ولم تتزعزع، حاولوا تخويفها أو ابتزازها لثنيها عما تقوم به، ولكن من دون جدوى، فها هي في العراق مرة أخرى في العام 2012 تقوم بتدريب العراقيين على إدارة المؤسسات في إطار مؤسسة استشارية لدعم العراقيين وتطوير قدراتهم.


إعلان