السّيرة الكاملة لحياة “كيرت كوباين” القصيرة

محمد موسى

جَسَّدَ المطرب الأمريكي الشاب “كيرت كوباين” هواجس جيل الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي، وهو الجيل الذي يُوسم بغياب الشخصية والرؤية والوجهة. فنقل عبر أغانيه أحلامهم وغضبهم وخيباتهم.

 رفعه انتحاره في عام 1994 عن عمر السابعة والعشرين عاماً إلى مرتبة الأيقونة. ليُخلّد دائماً في المُخيلة الجماعية كحلم مُعذّب هَزمه العالم الخارجي القاسي، ولينضم إلى مجموعة الشخصيات الفنيّة التي لم تَحتمل ثِقل مواهبها فذبلت وتحطمت.

هو أيضاً أحد الذين يُشكِّلون ما أصبح يُعرف بـ “نادي 27″، للمطربين الذين رحلوا في عمر السابعة والعشرين، ومنهم البريطانية ايمي واينهاوس وعازف الغيتار الأمريكي جيمي هيندركس.

 عن حياة كيرت كوباين يُعرض حالياً في صالات سينمائية في العديد من الدول الأوروبية فيلم “كيرت كوباين: مونتاج أوف هيك”، والذي يأتي بعد أكثر من عشرين عاماً على رحيل المُطرب، جامعاً ولأول مرة، شهادات مُعظم المقربين منه، ومنها واحدة لزوجته المطربة الجدليّة كورتني لوف.

صورة من أرشيف العائلة

لأكثر من ساعتين يُقلِّب المخرج بريت مورغن الكثير من تفاصيل وخفايا حياة المطرب الراحل، بل هو يبدأ من سنوات ما قبل ولادته في عام 1967، في أبردين، المدينة الأمريكية الصغيرة التي ستشهد سنوات كيرت كوباين السعيدة الأولى، قبل أن يبدأ عالمه بالتقوُّض، بدئاً من طلاق والديه، وتنقُّله بعدها بينهما وبين الأعمام والأجداد، الذين لن يحتملوا الطاقة الكبيرة للفتى، الذي عاش الوحدة الشديدة وهو في المدرسة الإبتدائية وفكر بالانتحار، بل توجّه في أمسية كئيبة ماطرة إلى سكة القطار القريبة وتمدّد عليها منتظراً القطار القادم الذي غيّر اتجاهه في اللحظة الأخيرة.

هذا كله حدث قبل اكتشافه الموسيقى، لكن هذه الأخيرة ستقوده إلى مزيد من الضياع والتشتّت وستوصله إلى النهاية العنيفة، فالنجاح السريع سيربك حياته، وسيضيع بين المخدرات والبحث عن المعنى الصافي للحياة، والعائلة، التي فقدها عندما تخلّت عنه أُمه يوما ما في طفولته.

يتنقّل الفيلم التسجيلي بين شهادات المقرّبين من المطرب الراحل، ومنهم والديه وشقيقته وصديقته السابقة، وبين ما تركه الشاب من شهادات مُسجّلة جاء بعضها ضمن حوارات إذاعية، أو ما سجّله من يومياته، أحياناً على قصاصات ورقية صغيرة عديدة، ليعيد الفيلم تمثيل بعض الوقائع عبر أفلام تحريك سوداوية الروح، نقلت بتميز الضيق الذي كان يهيمن على حياة كيرت كوباين في سنوات مراهقته وشبابه، فيما جاءت شهادات عائلة المطرب في مُجملها مُحافظة قليلاً، ولم تضيء الكثير من الجحيم الذي كان يعيش فيه إبنها. كما بدت تلك الشهادات حريصة على “تبييض” سيرتها وإلقاء مسؤولية أزمة الإبن على الآخرين.

فيما استحوذت حياة “كيرت كوباين” بعد زواجه من “كورتني لوف”، على ما يُقارب ساعة من وقت الفيلم. تنطوي تفاصيل العلاقة بين كيرت كوباين و كورتني لوف التي ظهرت في الفيلم على أهمية خاصة، بسبب السبق الصحفي الذي تمثله، فكورتني لوف لم تتحدث من قبل بإسهاب عن سنوات زواجها مع المطرب الشاب الراحل، كما حظيت العلاقة تلك باهتمام إعلامي كبير وقتها، ومازالت تثير كثير من الأسئلة والغضب بين المعجبين بكيرت كوباين ، ذلك أن كثير منهم يُحَمّل كورتني لوف مسؤولية النهاية المأساوية لنجمهم، بمحاصرته بأسلوب حياتها المُدمِّر، ودفعه إلى تناول الهيروين، رغم أن هناك من أكدّ في الفيلم أن كيرت كوباين بدأ بتعاطي المادة المُخدرة الخطرة قبل سنوات من لقائه زوجته.

تتمثّل أهمية أفلام السِيَر الذاتية التسجيلية بالعادة فيما تجمعه من شهادات ووثائق تخص أبطال هذه السير. رغم أنه من المُهم هنا التمييز بين الأهمية الأرشيفية والفنيّة، والاثنتان حاضرتان في هذا العمل، إذ يوظف المخرج “بريت مورغن” كنز الوثائق والأفلام الأرشيفية التي وفرّتها العائلة والزوجة في مُعالجة فنيّة خاصة حاولت أن تقترب من الحالة النفسية للمطرب الراحل رغم صعوبة ذلك أحياناً.

تفتح العائلة خزائنها من الوثائق لمُخرج الفيلم. هناك أفلام عائلية نادرة من طفولة المطرب الشاب، إضافة إلى الأفلام الحميمة الخاصة التي وفرّتها زوجته، والتي صورتها مع زوجها، ويبدوان فيها وكأنهما في رحلة مجنونة وقودها “الهيروين”.

إلى ذلك جاءت شهادة الزوجة نفسها بلا أهمية كبيرة، ربما لرغبتها في حفظ الصورة الخيالية المتمردّة  لها ولحياتها مع زوجها. هي لم تفتح قلبها بالكامل للمخرج كما أُشيع قبل بدء عروض الفيلم. كما لم يتحدَّ الفيلم كورتني لوف بمواجهتها بأسئلة صعبة أو مُحرجة، وكأن موافقتها الغير متوقعة على المشاركة في الفيلم أربكت نفس الأخير التحقيقي، ليتركها تواصل تشييد وحماية الأسطورة ذاتها التي يُعاد تدويرها وإنتاجها منذ وفاة المطرب الشاب.

ولعل الأمر الغائب عن الفيلم الملحمي هذا، هو تقديم أو تحليل علاقة كيرت كوباين بجمهوره، فهذه العلاقة كانت ولازالت أساسية في فهم ظاهرة المطرب الشاب. لم يطرح الفيلم أسئلة عن طبيعة ذلك الجمهور، ولماذا حركت موسيقى كيرت كوباين وفرقته “نيفادا” عواطفة، أو كيف قام ذلك الجمهور بأسطرة المطرب، وهي العمليات المتواصلة لليوم. إلى ذلك بدا الفيلم غير قادر أحياناً على تفسير الأزمات النفسية للمطرب الراحل، ربما لأنه هو نفسه لم يكن قادراً على شرحها أو توصيفها في حياته، وأن الموسيقى التي صنعها في عمره القصير فسرّت القليل فقط مما كان يهمّه.

بيد أن الفيلم قدّم بعض المشاهد الأرشيفية التي تُظهر المطرب الشاب وهو يضرب بجسمه الجدار خلفه على أهمية كبيرة، هذه المشاهد تكاد تكون الأشدّ قرباً لنقل حالة كيرت كوباين النفسية، والغضب والطاقة التي كان يحملها، وشعوره الدائم بالضيق وانسداد الأفق، وبحثه عن منفذ، وشوقه إلى الموت. 


إعلان