حين حلّ الأمير “ميشكن” ضيفًا على السينما

طارق خميس

استقلّ “دستويفسكي” القطار قاصدًا جنيف، وهناك توقف في مدينة “بازل” لمشاهدة لوحة قرأ عنها في مذكرات رحّالة روسي تُدعى “جسد المسيح الميت في الكفن” للفنان السويسري “هولبن”.
أمام اللوحة كان ثمّة مسيح آخر يولد في مخيلة الروائي الروسي دستويفسكي، ملامح المسيح بدت بشرية على النقيض مما جرت العادة في رسمه، فغالباً ما كان النور والهالة والجلال هو ما يسم هذه الشخصية، في هذه اللوحة التي وقف أمامها دستويفسكي طويلاً كان المسيح ميتا ومتعفّنا حتى البشرية.

لوحة “جسد المسيح في الكفن”

أخذ يتساءل: ماذا لو أنّ المسيح لم يكن إلهاً؟ ماذا لو أنه بشريّ؟ ومات بدون أن يحمل خطايانا؟ هل سيكون المسيح حينها أكثر وقعاً في نفوس الناس؟ هل يمكن – أساسًا – أن يوجد إنسانٌ مثل هذا على الأرض؟
سكنت الروائي الروسي تلك الشخصية التي قذفتها داخله لوحة هولبن، واستمر ينسج ملامح رجله القادم، شخصية طيبة بجمال لانهائي، هكذا ولدت رواية الأمير ميشكن  والتي حملت اسم “الأبله”.

من هو “الأبله”؟
يملك علم النفس إجابة واضحة ومحددة بالأرقام عن سؤال “من هو الأبله؟”. إنه الذي يقلّ ذكاؤه عن نسبة 75% ليحلّ بعده “المعتوه” ومن ثم “المجنون”، حسناً، ولكن هل يختلف هذا عن التاريخ الذي تحمله المعلبات الصالحة للاستهلاك؟! إن كان يمكن قياس الذكاء وبالتالي وصف مدى “طبيعيته” بالنسبة لمجتمعه، فكيف يمكن قياس المشاعر التي يحملها هذا الشخص تجاه المجتمع نفسه؟ كانت هذه مهمة السينما حين صاغت أسئلة الأبله الأخلاقية محاكمةً المجتمع الذي يبدو عليه التماسك والعقلانية، إنّ “الأبله” وهو يمارس خارجيته عن قواعد المجتمع، جعل تلك القواعد محلّ استفهام، وهي نفسها  – تلك القواعد – التي جعلته محلّ رفض وسخرية.

ومع أنّ صورة الأبله والمجنون لم تكن كذلك سابقاً، نقصد قبل تعميم المصنع وتقطيع الوقت لثوانٍ وقياس الإنسان بالأرقام. وهو الوقت الذي يؤرِّخ له الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بالقرن السابع عشر في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”. لقد كان “المجنون” يعيش حريّة مطلقة، كان وقتها يعيش على “سطح” الثقافة حيث يعيش على مرأى من الجميع، فيما يقيم له الناسُ الأعياد ويحتفون به وله مكانته بالأدب والكتابة، بالإضافة لوجود مسارح له وحضور في أيقونات وصور عدّة منها:  أعمال “جيروم بوش” و”بريجيل”.

ويستأنف فوكو بأنّ صورة “المجنون” قد تغيرت بعد أن أخذت العائلة بشكلها “البرجوازي” مكانًا مهمًا في المجتمع، عندما تغيرت الأحوال الاقتصادية في الحياة، بدا المجنون في ذلك العصر شخصًا كسولًا واعتُبر شخصية طفيلية تعتمد على مال الآخرين ولم تُسهم في التنمية، ومن هنا أصبح المجنون عالة على الآخرين، فيما تكفّلت الدولة بعد اكتشافها لأجساد السكان كمجال للسيطرة؛ ضبط وتأديب النزوع الذي لا يمكن تعريفه، أو بالأحرى ذلك الذي يعدّ خارج “الطبيعية” المطلوبة لسير النظام.

خطوة “أكيرا” الأولى

لقطة من فيلم “The Idiot”

ربما تكون أول الاعمال التي تناولت “الأبله” هو فيلم المخرج الياباني أكيرا كوروساوا في فيلمه” The Idiot 1951″  وكان عملاً وفيّاً لرواية دستويفسكي حتى أنه اقتبس كلاماً منها في فصول الفيلم، يروي أكيرا في سيرته “عرق الضفدع” أنّ الفضل الأكبر في دخوله لعالم دستويفسكي يعود لشقيقه “هييقو”، أخذ أكيرا الأمير ميشكن ومع بعض التحديثات على شخصية بطل الرواية، أصبحت جاهزة للتجول في حياة اليابان التائهة بعد الحرب.

يبدأ الفيلم بصرخة فزعة يطلقها “كينجي هامادا” توقظ من في القطار، ثم تجده سريع الثقة بالناس، يخبرهم بأول ما يخطر بذهنه مثل الأطفال تمامًا، إنّ هذه البدائية التي تجهل أو تتجاهل القواعد العامة للسلوك الاجتماعي هي ما تجعل الشخص هذا موصوفاً بالأبله، لكنه لذات السبب يُلامس أرواح آخرين داخل المجتمع نفسه، فكما نرى مع أحداث الفيلم ينجح “هامادا” في أن يكسب حب أغلب من قابلهم: العاهرة الغنية التي يستطيع أن يرى في عينيها عيني جندي مقبل على الإعدام فيما يراها الآخرون جسداً ومالاً لا غير. الشابة الصغيرة التي تقع في غرامه أيضاً بسبب طيبته و تلقائيته…الخ. ولكن هل تنجح الطيبة المطلقة في أن لا تُمَسّ من مجتمع يطارد تفوقها عليها؟!
إنّ العيش بأقصى الاستطاعة هو القتال اليومي الذي كان يخوضه الأبله، كون النظام الاجتماعي صارما في معاقبة من يبدو غريباً عنه، يقول أكيرا واصفاً شخصيات أفلامه: “الشخصيات التي تعرضها أفلامي تحاول العيش باستقامة، والاستفادة من الحياة التي وُهبت لهم لأكثر حد ممكن”.

الأسطح العميقة لسينما “الأبله”
 قدّم توم هانكس في تحفته الخالدة “فورست غامب 1994” Forrest Gump واحدا من أهم أدواره التي تحكي قصة “أبله” يعتمد على نصائح أمه الحرفية في تجاوز الحياة، يبدأ الفيلم بصورة ريشة تطير في الهواء حتى تصل إلى “فورست” وهو جالس بالمحطة يروي كافة تفاصيل حياته لكل من يجلس بجانبه، وينتهي الفيلم بنفس الريشة التي تبتعد عن فورست، مشهدان مفتوحان على التأويل في تصوير هشاشة الوجود الاجتماعي للــ”أبله”، ومع أنّ المرّة الأولى التي نال فيها اعتراف المجتمع كانت تلك التي لم يحتَج فيها لأي قدرات عقلية وهي خدمته في الجيش الأمريكي، وكما يصف نفسه: “لسبب ما كنت بارعًا جدًا في الجيش”.

لقطة من فيلم “Forrest Gump”

يقع “فورست” في حب فتاة منبوذة يغتصبها أبوها بدون توقف، ويكون رفيقه المقرب في الجيش جندي أسود، يبدو الأمر وكأن فورست استطاع أن يجد له اعترافًا اجتماعيا عند أولئك الذين لم يُعترف بهم اجتماعياً.
في الفيلم الكوري “مُعجزة في الزِنزانة رقم 7 ” للمخرج “لي هوانغ يونغ”  يحاكم “الأبله” القانون بموته، إنها قصة رجل “ريو سيونغ ريونغ” لديه ابنة صغيرة تدعى “يي سيونغ”، يُتهم بجريمة اغتصاب وقتل فتاة صغيرة، يُزجّ به في السجن وهناك يكوّن صداقاته الأولى مع السجناء، ومع أنهم في البداية يحاولون إيذاءه إلا أنّه سرعان ما يحظى بحبهم، لم ينجح في المرافعة عن نفسه أمام القانون، لكنّ علاقة الحب التي جمعته بمن حوله، من فتاته الوحيدة إلى رفاق السجن، جعلت المحكمة تعيد بعد سنين طويلة النظر في قضيته.

تقف “يي سيونغ” لتترافع عن أبيها الميت بعد أن كبرت ودرست المحاماة، ويأتي رفاق السجن السابقون ليدلوا بشهادتهم، التي تكون محلّ سخرية كونهم في عُرف الدولة مجرمين، لم يكن “إجرامهم” عائقاً للتواصل مع “الأبله” فيما كان القانون كذلك، وهي فئة (أي السجناء) في حكم فوكو أيضاً تخضع لمنطق الدولة التأديبي من خلال نظام السجن.
 تحكم المحكمة ببراءته في القبر، ومع أنه لم يكن لينتفع ميت من حكم براءته، إلّا أنّ المحكمة برّأته في ذات الوقت الذي أدانت فيه القانون نفسه، إنه القانون الذي يُنصت بدقة لكل حرف يصوغه المنطق، بينما يّصمّ أذنيه عن “أبله” لم يكن يريد سوى أن يعيش بأمان مع ابنته الوحيدة.

وفي آخر الأعمال التي تتناول “الأبله” جاء الفيلم الهندي “pk”  2014 والذي أدى بطولته بإتقان فريد عامر خان،  يحكي الفيلم قصة زائر من كوكب آخر جاء إلى الأرض، وبما أنه جديد على طباعها ومعتقداتها فقد بدا شديد الغباء بالنسبة لسكانها؛ لكنّ جهله هذا يطرح الأسئلة الأكثر بدائية، وهي أسئلة يحسمها المجتمع لأبنائه قبل قدومهم، ويثابر على تلقينها لهم حتى تختفي كل إمكانية لمساءلتها، يتمحور الفيلم حول نقد الأديان أو بالأحرى رجال تلك الأديان الذين اتخذوا من الدين أداة للتفريق والاحتراب داخل المجتمع الهندي، وهنا يمتلك الأبله ميزة اللقاء الأول بالأشياء قبل فقدانها للبراءة وفي ذروة امتلائها بالدهشة، أمامها يجري تقشير المحاججات التي تحول بين الناس وبين الله والتي بطريقة أخرى تحول بين بعضهم البعض، ومع أن الفيلم (كعادة الأفلام الهندية) يمتاز بالمباشرة إلا أنه كان موفقاً في مقاربة سؤال التدين بكل بساطة.

محاكمة مضادة

لقد احتاجت السينما من “الأبله” أن يمارس معها نقد المجتمع وما يُمثلّه من قيم عقلنة وضبط وإقصاء، كما أنها قذفت من خلاله للمشاهد بأسئلة أخلاقية وفلسفية تتعلق بتعريف “الطبيعي” و”العقلاني”، والحق في التواصل خارج ما تم تعريفه اجتماعياً حدّ الابتذال، لم يكن “الأبله” في السينما مجرد شخص يستدعي التعاطف أو السخرية، وإنما كان منصّة يطلّ منها المجتمع على نفسه، واضعاً ما هو مُعطّى محلّ شك، إنها المحاكمة المضادة التي يهيئها الموقع الأشد هامشيةً في جعل المركز مفضوحاً.

في رواية “الأبله” يصرخ الأمير ميشكن: “لماذا تخلق الطبيعة أفضل الناس لتسخر منهم بعد ذلك؟ هذا ما تعمد إليه الطبيعة: حين أظهرت البشر على الإنسان الوحيد الذي عُدَّ الإنسانَ الكامل في هذا العالم، عهِدتْ إليه برسالة أن ينطق بأقوال كانت سببا في سفك دماء بلغت من الغزارة أنها لو سُفكت مرّةً واحدة لخنقت الإنسانية! إنها لسعادة أن أموت! ذلك أنّني إذا لم أمتْ فقد يُطلِقُ لساني كذبة رهيبة بدافع من الطبيعة!…أنا لم أفسد أحدًا.. لقد أردتُ أن أحيا لسعادة الناس جميعًا، أردتُ أنْ أحيا لاكتشاف الحقيقة ونشرها، فماذا كانت النتيجة؟ لا شيء! كانت النتيجة أنكم تحتقرونني. هذا دليلٌ على أنّني غبيٌّ أحمق، على أنّني امرؤٌ لا خير فيه ولا فائدة منه، وعلى أنّني قد آنَ لي أن أزول! وحين أزول، فلن أُخلّف ورائي أيّة ذكرى: لن أترك أيَّ صدى، لن أتركَ أيَ أثر، لن أترك أيَّ عمل! لم أنشرْ أيَّ رأي، لم أُذِعْ أيّة قناعة! لا تضحكوا من غبيٍّ أحمق! انسوه! انسوا كلَّ شيء! أرجوكم أنْ تنسوا! لا تكونوا قساةً!”


إعلان