المال والسلطة في كوريا الشمالية
أمير العمري

هذا فيلم تسجيلي جيد من جميع النواحي: البحث الدقيق الممتاز الذي يغطي جوانب القصة بأكملها، الصورة الجيدة التي تدعم الصوت، صور الأماكن المختلفة عبر دول مختلفة، ظهور أشخاص حقيقيين يدعمون بالحديث والوصف المختصر الدال كل ما يأتي عبر شريط الصوت من تعليق من خارج الصورة، إيقاع محكم ينجح في شد المتفرج من بداية القصة إلى وسطها ثم نهايتها، مع تشويق يجعل المتفرج في انتظار المزيد طول الوقت، وإخراج مخطط له جيدا، بحيث ينتقل من زاوية إلى أخرى دون أن يفقد التركيز على الموضوع الرئيسي للفيلم، والموضوع هو “قوة المال وقوة السلطة في كوريا الشمالية”، وكيف تمكن نظام عائلي ديكتاتوري دموي شمولي، من البقاء في الحكم لمدة 70 عاما.
الفيلم يحمل عنوان “المال والسلطة في كوريا الشمالية: الاقتصاد الخفي”، وهو يبحث في جانب مثير، هو كيف تحصل كوريا الشمالية – رغم الحصار المفروض عليها دوليا – على العملات الصعبة، وفيم تستخدمها، ومن الذي يتحكم فيها؟
الفيلم يعتمد على ما هو متوفر من معلومات من جانب عدد من كبار المسؤولين السابقين في بيونغ يانغ، من الذين انشقوا على النظام ولجأوا إلى كوريا الجنوبية. ويظهر بعضهم في مقابلات موزعة جيدا على مدار الفيلم، كما يظهر مسؤول عسكري رفيع المستوى يتحدث عما كان يعقده شخصيا من صفقات لبيع الأسلحة في الخارج.
يستخدم الفيلم، وهو من إنتاج التليفزيون الياباني، الكثير من لقطات الأرشيف القديمة، التي تستعرض قصة صعود عائلة “كيم” إلى الحكم في دولة يفترض أنها جمهورية حديثة، تحكم طبقا للأيديولوجية الشيوعية، لكن على نمط شرقي إقطاعي عائلي، حيث يرث الأبناء الآباء، فمؤسِّس كوريا الشمالية هو كيم إيل سونغ الذي حكم البلاد منذ تقسيم الكوريتين عام 1945 حتى وفاته عام 1994، ثم خلفه إبنه كيم جونغ إيل حتى وفاته عام 2011 لكي يخلفه كيم جونغ أون، وهو الرئيس الحالي البالغ من العمر 32 سنة.
يضم الفيلم أيضا الكثير من اللقطات الحديثة المصورة من داخل كوريا الشمالية، سواء تلك التي صُوِّرت خصيصا لحساب هذا الفيلم، ومنها ما تم تصويره سرا، أو لقطات مأخوذة من الأفلام الدعائية التسجيلية التي تُصوِّر الاحتفالات العامة ومظاهر تكريم رجالات الدولة ومكافأتهم، وهو موضوع يتفرع عن الموضوع الرئيسي للفيلم ويصب فيه، ويطلق على تلك السياسة “سياسة الهدايا”، وهي السياسة التي ابتدعها الزعيم الراحل كيم جونغ إيل- كما يقول الفيلم- لشراء ولاء كبار المسؤولين عن طريق تقديم هدايا قيمة لهم.

ويتحدث في الفيلم رجل من المنشقين الكوريين، كان مسؤولا عن شراء الهدايا من بلدان الغرب مثل ألمانيا والنمسا، ومنها سيارات مرسيدس الفاخرة، وهدايا مصنوعة من الذهب، مثل بنادق الصيد وغيرها. وقد ورث الرئيس الحالي السياسة نفسها، وأخذ يتوسع فيها ويغدق على معاونيه ومرؤوسيه، وخاصة النخبة العسكرية، لضمان ولائهم خاصة لشخصه. ونشاهد في الفيلم الكثير من اللقطات التي يظهر فيها كيم جونغ أون وهو يقدم هذه الهدايا بنفسه في احتفالات رسمية خصوصا الاحتفال بعيد ميلاده!
ينتقل الفيلم في سرد موضوعه من بيونغ يانغ إلى سول عاصمة كوريا الجنوبية، إلى فيينا إلى ماكاو إلى الصين إلى طوكيو إلى واشنطن إلى داكار عاصمة السنغال، إلى ناميبيا إلى منغوليا. يتحدث مسؤول سابق في الإدارة الأمريكية عن الضغوط التي مارستها الإدارة على نظام بيونغ يانغ لإرغامه على التفاوض بشأن البرنامج النووي، وكيف حاول الأمريكيون محاصرة وخنق النظام الاقتصادي الخاص الذي أنشأه الحاكم الحالي ويطلق عليه في الفيلم اسم “اقتصاد البلاط الملكي”، وهو نوع من تراكم الثروة بطريق مباشر في يد الرئيس من وراء ظهر برلمان الشعب والحزب الشيوعي، وخاصة العملات الصعبة التي يتم الحصول عليها من طرق عدة، يتطرق إليها الفيلم بالتفصيل، وتودع هذه الموارد المالية السائلة في مبنى يطلق عليه “الغرفة 39” في وسط بيونغ يانغ، وتستخدم هذه الأموال في شراء الهدايا التي يقدمها الرئيس للمسؤولين، وكذلك في الإنفاق على البرنامج السري للتسليح والبرنامج النووي حسب ما يقول الفيلم.
ويرى بعض الخبراء الذين يتحدثون في الفيلم أن هذا الاقتصاد الموازي يبلغ حاليا نحو 60 في المائة من الاقتصاد الكلي للبلاد، وأنه السبب الرئيسي في معاناة الشعب في كوريا الشمالية حيث يعتبر نوعا من اغتصاب ثروات البلاد. أما مصادر المال فهي تأتي من تجارة السلاح وبيعه للكثير من الدول في الشرق الأوسط مثل إيران وسورية، أو من تشغيل أكثر من مائة ألف عامل كوري في بلدان خارجية مثل منغوليا التي أنشات فيها كوريا الشمالية مصانع لإنتاج المنسوجات يعمل فيها عمال كوريون، يحصلون فقط على نصف أجورهم ويذهب النصف الثاني إلى “الغرفة 39”.
ينتقل الفيلم إلى الجزيرة الصينية – ماكاو- التي تشتهر بكازينوهات القمار حتى أنها تفوقت الآن على لاس فيجاس الأمريكية، ويغشاها عادة كبار المسؤولين الصينيون.

وهناك تعقد الصفقات مع كوريا الشمالية، ويتم تهريب الأموال عبرها، وبيع الذهب والحصول في المقابل، على أموال سائلة، ثم يتم شحن السيولة المالية إلى بيونغ يانغ. ويتابع الفيلم بالكاميرا مسؤولا سابقا وخبيرا في الاقتصاد في كوريا الشمالية، وهو يسير في شوارع ماكاو، لا نرى سوى ساقيه فقط، يشير بيده إلى مبنى مغلق تماما لا توجد عليه أي لافتات، ويقول إنه المبنى الذي تتم فيه تلك الصفقات السرية.
يقارن الفيلم في لقطات مكثفة، بين حياة الترف التي يعيشها الرئيس وحاشيته، والمباني الشاهقة التي أقامها في وسط بيونغ يانغ لكي يتفاخر بها أمام العالم، وبين حياة الفقر التي تعيش فيها ملايين الأسر في عموم البلاد. ونرى فيلما دعائيا لأسرة من الطبقة العاملة حصلت على مسكن جيد في وسط العاصمة بعد ان اخُتيرت كأسرة عمالية مثالية، ثم نشاهد الرئيس بنفسه، يقوم بزيارتها مع زوجته ويجلس مع الرجل وزوجته أمام الكاميرا لالتقاط الصور، للإيحاء أمام الشعب بأنه مانح الرخاء الأوحد.
وبعد ذلك نشاهد في مقابلة خاصة المرأة العاملة وهي تتحدث عن سعادتها بالمسكن الذي لم تتخيل لحظة أن من الممكن أن يكون لها.. ولا في الأحلام – على حد تعبيرها. ويستخدم النظام هذا النوع من الهدايا في الدعاية، كما يستخدم مهارة الفنانين التشكيليين، وخصوصا المثالين في إقامة تماثيل هائلة الحجم لزعماء إفريقيا كما نرى في داكار (السنغال) ونامبيا، حيث أقيمت تماثيل ضخمة على النمط الدعائي الذي يستخدم في تخليد قادة كوريا الشمالية نفسها. ويتحدث وزير الثقافة السنغالي في الفيلم عن تعاون الكوريين في اقامة التمثال الضخم الذي يطل من فوق قمة جبل على المدينة، وهو لرجل إفريقي يحمل طفلا (تعبيرا عن المستقبل) والطفل يشير بيديه إلى الأمام. ويقول الوزير إن الكوريين كانوا سعداء بما حصلوا عليه من مال مقابل التمثال. ويذكر التعليق الصوتي أن التمثال تكلف إنشاؤه 50 مليون دولار حصل الكوريون على نصفها.
ويتابع الفيلم صعود جانغ سونغ ثايك، المستشار الاقتصادي البارز للرئيس كيم جونغ أون، وكيف نجح في الحصول على ثقة المسؤولين الصينيين ودعم الكثير من الشركات الصينية، ثم تمكن من تحقيق مداخيل كبيرة من العملات الصعبة، وصار المتحكم الأول فيها، إلا أن الرئيس خشى أن ينافسه بسبب استحواذه على تلك الأموال، فأمر بالقبض عليه في أواخر 2013، ووجهت له تهمة تخريب اقتصاد البلاد، ثم أعدم!
الفيلم مليء بالصور المدهشة للزعيم الكوري الشاب، منها لقطة طويلة قريبة تركز على وجهه وهو ينظر في ساعة يده طويلا، ثم يقطب حاجبيه ويفكر مليا في أمر ما، وكأنه يخطط لتدبير معين للخلاص من منافسه الذي يشك في أنه أصبح يتمتع بالمال وبالتالي يمكن أن يهدد سلطته. هذه اللقطة تأتي مباشرة قبل اللقطات التي نرى فيها المستشار الاقتصادي مقبوضا عليه، ثم يظهر مذيع على شاشة التليفزيون الرسمي، يقرأ بيان الاتهام للرجل، ويقول إنه أقام “مملكة خاصة” لا أحد يمكنه الاقتراب منها!
الفيلم في النهاية ممتع، ومثير للتفكير، ويدعو المشاهد إلى البحث عما وراء الصورة التي نراها من بعيد لتلك الدولة التي تبدو كدولة فقيرة تعاني من المجاعات، إلا أنها في الواقع تعاني من احتكار المال والسلطة وفرض مبدأ عبادة الفرد، الرئيس، الحاكم، نصف الإله، وسط تهليل النخبة!