قرن على الفيلم العنصري “مولد أُمّة”

محمد موسى

هو الفيلم الأمريكي الأول في تاريخ السينما في الولايات المتحدة الذي جذب ملايين المشاهدين الى الصالات السينمائية، ليشكل ببنائه والإيرادات التي حققها مفهوم “الفيلم الجماهيري”، بل وعَرَّفَ السينما الشعبية التجارية  بملامحها وتركيباتها المتداولة اليوم. هو أيضاً الفيلم الأكثر جدليّة واشكاليّة في السينما الأمريكية، والذي لم تُنَقَّص السنوات المائة التي مرت على عرضه الأول في عام 1915 من حَمِيَّة النقاش عنه.

ملصق فيلم “مولد أمة”

في مقابل الجدال الأخلاقي الذي يُثيره الفيلم، يُعَّد هذا الأخير تُحفة بصرية لم تفقد توهجها، صَمد قرناً كاملاً بوجه الزمن والتطورات الهائلة التي مَرت على صناعة السينما. ريادتة في تصوير الجموع في المشاهد العريضة، والإنتقالات بين اللقطات المُتوسطة والواسعة في المشهد الواحد، وإستعمال اللون كإنعاكس للحالات النفسية الدرامية، أثرت على أجيال عديدة من المُخرجين حول العالم. كثيرون مُدينون للفيلم، وتأثيراته يمكن الإستدلال عليها في أفلام شهيرة من: “القيامّة الآن” لفرانسيس فورد كوبولا الى سلسلة “سيد الخواتم” للمخرج بيتر جاكسون. عن فيلم “مولد أُمّة” للمُخرج ديفيد وورك جريفيث نتحدث، والذي تمر هذه الأيام الذكرى المئوية لعرضه الأول.

لا يُوجد فيلم بتاريخ السينما الأمريكية أثار من النقاش ما فعله “مولد أُمّة”، فالنجاح المُدوي له عند عرضه الأول والذي إستمر الى عام 1922، قابله إنتقادات وغضب واسعين لم يتوقفا حتى هذه الساعة، تركزا على الصور النمطية والعدائية للأمريكيين من الأُصول الأفريقية التي حفل بها هذا الفيلم المؤسس، وعنصريتة البغيضة، ورومانسيته التي وصلت الى التمجيد لظروف ولادة منظمة “KKK” الأمريكية العنصرية المُتطرفة، التي عادت للحياة بسبب نجاح هذا الفيلم، بعد أن كانت في طريقها  لأن تتحول لذكرى مقيته يُغطيها النسيان في الوجدان الأمريكي، بل أن هذه المنظمة ظلت تستعين بمشاهد شهيرة من “مولد أُمّة” لجذب أعضاء جُدد لها وحتى بداية عقد السبعينات من القرن الماضي.

مع بداية عقد الثلاثينات من القرن العشرين، بدأت عروض الفيلم الإستعادية في الصالات الأمريكية تُثير غضباً غير مسبوق، حتى أن بعضها سَبَّبَ في تظاهرات شوارع عنيفة، الأمر الذي دعى ثمان ولايات أمريكية الى إصدار قانون لمنع عرض الفيلم، في حين لم يرغب أصحاب صالات سينمائية في ولايات اخرى إثارة غضب الجمهور، فتجنبوا عرض الفيلم، ليغيب هذا عن الواجهة الإعلامية والجماهيرية الأمريكية، حتى في مدن عملاقة مثل نيويورك، والتي لا تملك تاريخياً علاقة مُعقدة ومؤلمة مع العنصرية ضد السود كحال مُدن الجنوب الامريكي، فغاب الفيلم عن العروض السينمائية الإستعادية فيها لأكثر من ثلاثين عاماً، قبل أن يعود أخيرأ في عروض محدودة بمناسبة مرور قرن على عرض الفيلم الأول.

والواقع أن أجيال عديدة تعرفت على الفيلم منذ سنوات قليلة فقط، في زمن الإنترنت الذي نعيشه، فمواقع إلكترونية عديدة بدأت بنقل أجزاءً من الفيلم على صفحاتها (يُوجد نسخة كاملة منه على موقع “يوتيوب”)، كما أن النقاش الذي يثيره الفيلم دائماً، والذي يُذيل صفحات تلك المواقع، دفع بالكثيرين الى معرفة المزيد عن الفيلم وتاريخه. ومؤخراً صدرت إسطوانات رقمية مُختلفة الأنواع من الفيلم، ليتوفر للمرة الاولى الى جمهور واسع في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.

 

وبسبب  تاريخ الفيلم وما يتضمنه من تفاصيل وصور كريهة وأحياناً مُقززة، وما يحيطه من لغط متواصل، والمشاعر الحادة التي يطلقها بين جمهور واسع في كل مرة يصل فيها الى الإهتمام الإعلامي، يصبح من العسير كثيراً الإستمتاع بسلام بمنجز الفيلم التقني والشكليّ ورياديته الفنيّة التي ليس عليها جدال، فهناك دائماً الخوف من الوقوع في فخاخ الفيلم العديدة، ونظرته المُلغَّمة للسود الأمريكيين، وعلاقته بما يجري خارج فضاء السينما، بخاصة أن مرور الذكرى المئوية يُصادف مع إحتجاجات عنيفة تشهدها مدن أمريكية، على خلفية المُعاملة غير العادلة والعنيفة التي يلقاها السود من السلطات الأمنية في بلدهم.

يستند الفيلم على رواية مُثيرة للجدل هي الاخرى للكاتب الأمريكي توماس ديكسون بعنوان ” كلانسمان”، لكن وعوض أن يحاول المخرج ديفيد وورك جريفيث أن يصحح بعضاً من المفاهيم والأفكار المُسبقة والوقائع التاريخية التي خالفت الحقيقية التي جاءت بها الرواية، تراه يقدم تلك التفاصيل كما هي ولا يخضعها لمُعالجة درامية وتاريخية مناسبتين. فعلى رغم إن المخرج  يورد في بداية فيلمه أن الصور والأحداث التي يقدمها الفيلم لا تعكس العلاقة بين الأعراق في الولايات المتحدة اليوم، الا أن هذه التوطئة لا معنى لها عندما يأتي الفيلم بعدها وكأنه تصفية حساب مع الماضي والحاضر في آن، لتكون طاقة الفيلم مستمدة بشكل رئيسي من نيران العلاقة العنيفة بين السود والبيض. او عندما يسلب المخرج السود حقهم في طلب المغفرة درامياً، إضافة الى تجنيّ الفيلم على حقائق تاريخية، وهذه الأخيرة تم إشباعها تنقيباً وبحثاً في مقالات  وبحوث على مدى عقود طويلة.

تطل الصور العنصرية للسود الأمريكيين في ثنايا القصص العديدة المتفرقة التي تشكل بناء الفيلم الذي يتجاوز طوله الثلاث ساعات. وأحياناً يكون الامريكيون من الأصول الأفريقية أبطال بعضاً من القصص الصغيرة المُتفرعة من القصة الأُمّ. أما الحكاية الأساسية فهي عن تشابك مصائر عائلتين من الجنوب والشمال الأمريكيين في زمن الحرب الأهلية الأمريكية التي تشكل خلفية ومسرح لأحداث الفيلم، الذي يمتد في زمنه الى ما بعد الحرب تلك، الى ما يُعرف بسنوات إعادة تشكيل الدولة الأمريكية. ينقسم الفيلم لجزئين، أولهما عن تلك الحرب، ويتضمن مشهديات رائعة عن المعارك، وجموع الجنود المتنقلين بين المدن، او تلك التي تظهرهم متمرسين خلف الخنادق. في حين يتجه الجزء الثاني الأكثر عنصرية، الى التركيز على العلاقات التي بدأت متوترة بين الأمريكيين السود والبيض في ولايات الجنوب الأمريكي قبل أن تتحول الى العنف، ونشوء منظمة “KKK ” العنصرية، والتي ولدت للرد على تنامي سلطة السود في الجنوب.

لعب معظم شخصيات الامريكيين من الأصول الأفريقية في الفيلم ممثلين بيض غطوا وجوهم بأصباغ سوداء، نفذ على نحو بدائي أحياناً. واذا كان هذا الأمر بذاته لم يكن غريباً على حقبة السينما الصامتة في هوليوود وقتها، الا انه يزيد من لَبْسٌ مشاهدة الفيلم اليوم. فاللون الاسود للامريكيين الأفارقة هو ليس طبقة خفيفة فقط توضع بعجالة على الجلد، وإنما تاريخ إنساني كامل لعب فيه اللون دوراً أساسياً، ويغلب عليه العذاب والآلآم، كما يبدو من الظلم بمكان سلب السود حقهم في تجسيد شخصياتهم على الشاشة. هذه التفصيلة على جسامتها تُعد أقل مشاكل الفيلم، فهذا الأخير ينتهز أي مناسبة مُمكنة لإظهار السود كمتوحشين ليس لهم شاغل الا مطاردة النساء والإعتداء عليهن جنسياً، عديموا الوفاء لجيرانهم البيض، قساة على الآخريين، ولا يتورعون عن القيام بأشد الأفعال همجية.

ملصق فيلم “جانجو طليقا”

وعلى رغم أن السينما الأمريكية تُقدم أحياناً صوراً عنيفة للأمريكي الأسود في أفلام عديدة (“جانجو طليقاً” لكونتين تارانتينو و”12 عام عبداً” للمخرج البريطاني ستيف ماكوين من السنوات الأخيرة على سبيل المثال)، الا أن الأفلام تلك سعت للموازنة بين الحقيقية والظرف التاريخي العام، فالرجل الأسود الذي يقوم بتعذيب أبناء جلدته من السود والذي ظهر في فيلم “جانجو طليقاً”، هو نتيجة او مُحصلة للظروف التي خلقها السيد الأبيض من حوله وحاصره بها، وضيق الطرق عليه ليقوده لهذا المسّار الشاذ. علاوة الى ذلك، إجتهدت الأفلام تلك لتقديم صور إنسانية مُؤثرة للأمريكيين الأفارقة، وتدعيمها بشخصيات فعالة ومُتوازنة، وتفاعلت، أي الأفلام، مع الإجماع العام الراهن على موضوعة التفرقة العنصرية في مُعالجتها للقصص التاريخية التي قدمتها، الأمر الذي كان غائباً بشكل يكاد يكون كامل عن فيلم “مولد أُمّة”.

هيج النقاش المُتواصل على الفيلم، الحديث عن موضوعة العنصرية العرقية تجاه الأمريكيين من الأصول الأفريقية، والتي لم تطل برأسها سينمائياً مجدداً وعلى النحو العدائي الفاقع منذ فيلم ” مولد أُمّة “، فسرعان من دخلت الموضوعة في خانة المُحرمات السينمائية الأمريكية، وغدا التطرق لها يمر بسلسلة طويلة ومُعقدة من الرقابات، بعضها ذاتي. في المُقابل ظهرت عنصرية اخرى مُبطنة لعبت دوراً في تحديد حضور شخصيات الأمريكيين من الأصول الأفريقية في أفلام هوليوود على وجه التحديد، وماعناه هذا من تقليل الفرص المتوفرة للنجوم والممثلين السود في السينما الشعبية، وقاد لتهميش فئة مُهمة من المجتمع الأمريكي في سينما بلدهم، او عندما تدير الجوائز السينمائية ظهرها لمواهبهم الكبيرة عندما يلعبون أدوراً مُتميزة وكما يحدث أحياناً.

عاش المُخرج ديفيد وورك جريفيث حياة طويلة (توفي في عام 1948 عن 73 عاماً)، وصنع أفلاماً عديدة (وصلت الى 500 فيلماً)، لكن لعنة فيلم “مولد أُمّة” لم تفارقه الى آخر يوم في حياته. قضى المُخرج سنوات طويلة يدافع عن نفسه، ضد تُهم العنصرية التي وجهت إليه. كان يُمكن ل “جريفيث” أن ينال مرتبة رفيعة بين مجاليه في حياته، او أن يتم تكريمه على نطاق واسع بعد مماته، لما قدمه للفن السينمائي من إضافات ودوره في تطوير الصناعة السينمائية بشكل عام، لكن الجرح الذي فتحه في فيلمه الشهير هذا مازال ينزف لليوم، ليطال المُخرج النسيان في حياته ولتلاحقه اللعنات بعد موته، اذ رحل وحيداً في الفندق الذي كان يعيش فيه في لوس أنجلس، ولم يحضر جنازته الا حفنة من المُشتغلين في السينما.


إعلان