ملاحقة لصوص المعابد
قيس قاسم

يصطحبنا الألماني “ولفغانغ لوك” معه في مغامرة وثائقية مهمة يلاحق فيها نُهّاب الحضارات ولصوص الآثار، الأشد نفوذاً في العالم إلى أقاصي الأرض لنكتشف سوية ومن خلالها التعارض التاريخي والحضاري مع الاستغلال الاستعماري، والتنافر الشديد بين حقوق ملكية الشعوب وبين أطماع مافيات الآثار العالمية.
فاتحاً المجال، بما يوفرّه من صورة بانورامية عن الظاهرة، لإسقاط مادته التسجيلية على تجارب شعوب وحضارت، غير حضارة شعب الخمير الكمبودية التي يُكرِّس موضوع فيلمه عن السرقات وعمليات التدمير الفظيعة التي تعرضت لها، إلى أخرى عداها لأن مسوغات اللصوص القانونية والأخلاقية واحدة، تقريباً، يتعكّزون عليها في كل مكان ينهبونه وفي أي زمان يحلّون فيه كأسياد عنوة، ومن هنا تأتي قابلية نص “ملاحقة لصوص المعابد” على التأويل وإسقاط فكرته على تخوم مساحات كبيرة يمكن تخيُّلها من وحيّ رحلة البحث الشاقة عن نُهاب “محاربي” معبد كو كير الكمبودي وعودة بعضهم سالمين، رغم الجراح، إلى معابدهم التي كُلِّفوا قبل حوالي ألف عام بحمايتها.
حكاية المحاربين المَنْهوبين بدأت مع إعلان مزاد “سوتَبيز” النيويوركي الشهير عن قائمته السنوية المعروضة للمزايدة ومن بينها تمثال قديم من الحجر الرملي قُدِّرت قيمته بعدة ملايين من الدولارت.
ظهور التمثال حفّز المحامية الأمريكية “تيس ديفيز”، الناشطة في إعادة الآثار المسروقة إلى أصحابها ومستشارة الحكومة الكمبودية، لكشف الحقيقة وتجريم المزاد على أساس معرفتها الدقيقة بتاريخ التمثال وظروف اختفاء تماثيل مشابهة له من كمبوديا خلال السبعينيات.

على خط بحثها عن خيوط تربط عرض التمثال بسرقة معبد “كو كير” تَدخَل المخرج “فولغانغ لوك” وقرّر مشاركتها المغامرة حتى نهايتها وعلى وقع الصيحات التي تعالت في وسائل الإعلام الأمريكية تدخّلت الشرطة الفيدرالية لمعرفة عائدية “المحارب” وكشف الغموض الذي يحيط بأصله وكيف وصل إلى نيويوك.
واحدة من محفزات البحث عن أصل التمثال يعود إلى قوة نفوذ الجهة المالكة له: “مزاد “سوتَبيز”. فهو من بين أكثر المزادات العالمية غنى ونفوذاً ولهذا فمهمة مواجهته قضائياً تتطلّب قوة موازية لقوته وهذا ما لا يتوفر عند أصحاب التمثال: كمبوديا، الفقيرة والمنشغلة بمشكلات أكبر من البحث عن تماثيل حجرية سُرقت منها قبل عقود!
في القسم الأول يقدم الوثائقي موقفاً إيجابياً للشرطة الأمريكية، التي تتعامل بجدية مع جرائم سرقة الآثار وتضعها بنفس مستوى جرائم تهريب المخدرات والبشر، وهذا ما يُفسِّر سرعة تدخلهم وإيقافهم عملية عرض وبيع التمثال في المزاد كإجراء احترازي أولِّي، اعتمدوا فيه على مسوِّغات قانونية وشكوك قوية بوجود تلاعب وتسهيل لعمليات سرقة آثار يُحرِّمها القانون الدولي ثبتتها المحامية في مقال نشرته في إحدى الصحف الأمريكية بعد فشل المزاد بإيقاف نشره، وعزّزته بأدلة قوية أثبتت فيها بيع المزاد وخلال ثلاثة عشر عاماً أكثر من 300 قطعة أثرية مسروقة لا تُقدَّر بثمن. كما أعطى قرار التجميد بدوره لصانع الوثائقي متسعَّاً من الوقت للتحرُّك على مساحات أكبر من نيويورك ومجالاً أرحب لتعميق بحثه في موضوع اعتبره حضارياً، ثقافياً، بالمقام الأول وعلى هذا الأساس خاض فيلمه مغامرة البحث عن التماثيل المسروقة.

إلى “فنوم بنه” العاصمة جاء الوثائقي، ومنها ذهب إلى أقاصي غرب البلاد حيث المعابد القديمة تتوسّط الغابات المطرية الكثيفة، ليطلِّع بنفسه على روائع فن نحت التماثيل في المعابد الكمبودية وعلى شواهد حضارة شعب الخمير وليتأكد بنفسه من حجم الخراب الذي لحق بها. لقد صوّر “مجازر” شنيعة ارتُكبت بحق حضارة إنسانية من قبل لصوص محليين ودوليين تعاونوا على إزالة جزء مهم من الموروث الفني والحضاري لشعب يشعر بالفخر بما أنجزه مبدعو حضارته الأوائل ومصدر من مصادر رزقهم اليوم.
دخل بصحبة علماء آثار إلى المعبد الذي كان فيه التمثال قائماً وتوضحّت له أهميته النابعة من أهمية بقية الأجزاء، فالتمثال الصغير هو جزء من نصب ملحمي يُعدّ أول عمل “ثلاثي الأبعاد” في التاريخ يصور تسعة محاربين ورد ذكرهم في ملحمة “مهابهارتا” الشهيرة ومن هنا جاءت أهمية التماثيل واكتسبت قيمتها التاريخية والحضارية.
لقد قطع اللصوص أوصال المحاربين كما تُقطع الأشجار ونقلوها إلى الخارج فيما ظلّت بعض بقايا السيقان والأقدام ثابتة في مكانها والتي ستتحول لاحقاً إلى دليل على عودة التماثيل المسروقة إلى المعبد الكمبودي الهمجور الآن كلياً من زواره.
سيربط الوثائقي سرقة التماثيل بحقبة السبعينيات وبالحرب الأمريكية الفيتنامية حيث جرت خلالها عمليات نهب واسعة من قبل المحتلين أو السكان المحليين الجائعين، الذين وجدوا في الآثار مصدراً وحيداً لعيشهم في زمن المجاعة، كما وجد ثوار الخمير الحمر والفيتناميون الشماليون في بيعها مصدراً لتأمين السلاح لهم في مواجهة الأمريكان، إلى جانب ما وفرّه سقوط الحكومة الكمبودية الموالية للأمريكان من حرية التحرك دون مراقبة على طول الحدود النهرية والبرية التي باتت مفتوحة للمهربين واللصوص. يعرض الوثائقي الألماني الفرنسي المشترك تسجيلات قديمة لعمليات قصف مدينة “فنوم بنه” وأدغالها ويتوصل من خلالها إلى حقيقة أن التماثيل التسعة قد سُرقت عام 1972 بالتحديد، أي قبل أكثر من أربعة عقود على تاريخ ظهورها الحالي، وأن أحد البريطانيين من جامعي التحف والذي أسّس لنفسه اسماً نظيفاً في كمبوديا كانت له صلة مباشرة في عمليات تهريب “المحاربين” إلى بريطانيا أولاً. يتوقف “ولفغانغ” عند بقية الآثار المدمرة لسرقة آثار شعب الخمير ومن بينها خسارة أبنائه لموروثهم الثقافي وأيضاً للسياحة المعتاشين عليها. فمنذ أن جُرِّدت المعابد من تحفها النادرة توقف السياح عن زيارتها فازداد فقر سكانها على ما هم عليه من فقر.

كما أن بعض المعابد نفسها قد انهارت بالكامل وتساقط حجرها لأن اللصوص كانوا يحفرون دوائر واسعة حول التماثيل التي ينوون سرقتها ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى أضعاف حاملات بناء المعبد فتسقط كلها. خسارات وأضرار لا يعبأ بها اللصوص وفوق كل ذلك لا يُقَدمون إلى المحاكم ولا يُدانون فيها لأن المحتلّ الفرنسي قد أصدر قوانين مسبقة تحميهم. مفارقة ستصطدم بها المحامية “ديفيز” حين سيواجهها محامو دفاع المزاد النيويوركي بدساتير المحتلّ الفرنسي لكمبوديا والتي تنصّ على أن المعابد وسط الغابات لا تعود ملكيتها لأحد ولا حتى للدولة نفسها فهي ملك مشاع. نص يفتح باب السرقة على سعته ويفتح الشهية على نهب الآثار، وتكشف عن استهتار المحتل بحقوق الشعوب الخاضعة له. هنا يُدخل الوثائقي الرائع قصة مثيرة لها صلة بفكرته الأساسية عن الكاتب الفرنسي الشهير “أندريه مالرو” وزوجته اللذان دخلا كمبوديا في بداية العشرينيات و”أخذا” تماثيل منها بطريقة تعكس العقلية الاستعمارية والنظرة الدونية لأملاك الغير بوصفها أملاكاً مشرعة لهم. “لقد أراد مالرو سرقة تماثيل من المعابد وبيعها وقد كان له ما أراد” على حد تعبير زوجته التي لم تجد غضاضة في فعلتهما مثل الحكومة الفرنسية التي ستتوج فعلة كاتبها وبعد عقود بتعيينه وزيراً لثقافتها رغم إدانة الحكومة الكمبودية وسجنها له ثلاث سنوات بعد أن ألقت عليه القبض متلبساً بسرقته!
يَنْضم الوثائقي إلى صفوف المدافعين عن الإرث الإنساني ويسجل تفاصيل نشاطهم الذي اشتدّ بعد بروز قضية التمثال على نطاق واسع وسيدعم جهودهم، بوسيلته كفن سينمائي مسؤول أخلاقياً عن تقديم الحقيقة، حين يكشف بعض خفايا سرقة “المحاربين” عبر مقابلات أجراها مع البريطاني الملقب بـ “جامع التحف” والذي سيعترف بعلمه بالعملية التي جرت عام 1972 ووصول التماثيل إلى احدى العوائل الغنية في بريطانيا عن طريق بانكوك وبيعها فيما بعد إلى عوائل أوروبية أخرى حتى تصل إلى مزاد نيويورك.
بدورهم سيُثبت علماء آثار تعاطفوا مع المنهوبين الصلة القوية بين التماثيل والأجزاء الناقصة منها والباقية في موطنها ما سيدفع “سوتَبيز” للتراجع عن بيع التمثال بعد أن شعر بخطورة وضعه واحتمال كشف بقية سرقاته كما فعل الوثائقي حين راح يتابع بقية المحاربين في متحف “متروبوليتان” الأمريكي للفنون وإجبار إدراته على إرجاعها إلى موطنها الأصلي وبهذا، وبقوة حججه البصرية، فتح الوثائقي ممراً للراغبين السير فيه لاسترجاع كنوزهم الثقافية والحضارية من سُرّاقها.