“قتلت أُمّي”

آية عبد الحكيم

المخرج الكندي “إكزافيير دولان”

في مهرجان (كان) بالعام الماضي، أثار المخرج الكندي الشاب (إكزافيير دولان) Xavier Dolan  ضيق الكثير من النقاد بعد تصريحاته – قبيل توزيع الجوائز – عن أحقيته بغنيمة كبيرة من لجنة التحكيم، ولو من قبيل تكريم جيل المخرجين الشبان الجدد. وبعد أن حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة مناصفة مع (جان لوك جودار) أصبحت تصريحاته أكثر تعقُّلاً وإحترامًا للمفارقة المدهشة التي جمعت بين (جودار) وبين ابن الخامسة والعشرين.

لم يكن ما فعله (دولان) بالشئ المبالغ فيه، فحين عُرض أول أفلامه بالمهرجان حاز احتفاء ودهشة الجميع، فقد كان عمره حين أخرج الفيلم تسعة عشر عامًا. كما أنه لم يكتفِ بإخراج الفيلم فحسب، بل كتب قصته، أدّى دور البطولة، وشارك في إنتاجه.

وعلى مدار أربع دورات تالية شاركت أفلامه في المهرجان حتى أصبح يُشار إليه كـ (طفل كان المدلل) إلى أن أصبح هذا العام واحداً من أعضاء لجنة التحكيم مجاوراً لمخرجين كالأخوين (كوين) والمكسيكي (جيليرمو ديل تورو).

بين فيلميّ (دولان) الأول والأخير خمسة أعوام، لكنه لم يجول بعيداً عن موضوعه المفضل: “العلاقة المعقدة بين ابن وأمه”. في فيلم (I killed my Mother – قتلت أمي) هناك (أوبير) المراهق الذي يكره أمه. ليس لدينا أسباب واضحة للكراهية، حتى في الفيديوهات التي يُسجِّلها الفتى ويحكي فيها عن أمه يتحدث عن أنه ربما أحبّها كشخص عادي، بل ربما قتل من أجلها، لكنها فقط لا تصلح أن تكون أمه. ربما كان (أوبير) متأثراً بالأم المتحررة لصديقه وعشيقه (أنطون) في مواجهة أمه التقليدية، وبعلاقته الفريدة مع مدرسته التي تحاول أن ترعى موهبته في الكتابة، وتجعل منه صديقًا مقربًا لها. لكن لا شئ تفعله أمه على وجه التحديد يجعلها محط كراهيته غير المعقولة. الأم (شانتال) تربي ابنها وحدها وتواجه عصبيته ومراهقته، تتصرف بجنون أحيانًا، وبحُبّ أحيانًا أخرى. علاقة تتذبذب يوميًا تتخللها مواجهات حادة، إلى أن تعرف بالصدفة أن ابنها مثلي الجنسية. لا تشكل مثليته مشكلتها، لكنها تضيق بالطريقة التي عرفت بها. يبدو هذا كأكثر الأحداث الفاصلة بعلاقتهما إلى أن تُقرر أن تستعين بوالده لإجباره على الالتحاق بمدرسة داخلية.

في واحد من أصدق مشاهد الفيلم تتشاجر الأم مع مدير المدرسة الذي يقترح أن مشكلة ابنها سببها تربيتها له بمفردها دون سلطة ذكورية، في لحظة تتحول السيدة المهندمة التي كانت تختال في الطريق لمكتبها إلى أم ثائرة تزأر في الهاتف، تسبّ مدير المدرسة، تدافع عن موقفها كأم وحيدة تقاتل لأجل ابنها، في حين يهرب الأباء عادة من المسئولية. تغلق الهاتف وتستجمع نفسها وتعيد هندامها مجدداً.

تسعة عشر عامًا خلف الكاميرا ووراء السيناريو الذي قد لا يكون شديد الإحكام، لكنه نقل العلاقة المضطربة للشاشة بسلاسة وبساطة. منذ المشهد الأول تبدو شاعرية دولان مكثفّة بشدة: صوته وحركته المحدودة أمام الكاميرا التي تنقل اضطراب ملامحه، حركة يديه وأصابعه، ثم موسيقى أوبرالية ومشهد عادي لأمه تتناول إفطارها في هدوء، وكيف يكره هو تلك التفاصيل البسيطة المتعلقة بها، دون منطق واضح !
لكنه حين يعود ثملاً للمنزل يهرول لغرفتها، يوقظها ويحكي لها عن حبه. يستقيظ باليوم التالي ناسيًا تمامًا ماذا قال، وماذا حدث. دون أن ينظر لها يخبرها أن أيًا كان ما قاله فهو تأثير السكر والمخدر الذي تعاطاه.

لا يمنحك (دولان) مبرراً للكراهية أو لإضطراب العلاقة. ولا نهاية مُرضية لهذا الثنائي، وحتى عنوان الفيلم (قتلت أمي) لا يمثل فعلاً حقيقيًا للقتل، لكنها الرغبة التي تدور بعقل المراهق الحانق على أمه، الكاره لأبيه الذي لا دور له بحياته إلا حين يجبره على الالتحاق بمدرسة داخلية ليتجنب صداماته مع أمه.
قُدم الفيلم على أنه “سيرة نصف ذاتية” لـ (دولان) الذي اعترف أن بالفيلم الكثير من حقيقته، وحين سئُل عن رأي والدته بالفيلم أجاب “كانت تشعر بالخجل، وأجابتني (أحببته، أضحكني، وأبكاني) ولم نتحدث بالأمر ثانية”.

وكأن ( دولان) يُعيد للأم إعتبارها، حتى أنه اختار نفس الممثلة (آن دورفال) Anne Dorval لتؤدِّي دور الأم في فيلمه الأخير (Mommy – أمي)، لكنه اتخذ جانبها من الرواية. فهذه المرة ننتقل للأم (دايان) التي تحب ابنها (ستيف)، الفتى الخارج عن السيطرة تمامًا. هي أرملة أربعينية ترتدي ملابسها كمراهقة، تحاول أن تعيش الحياة كأخفّ ما تستطيع، لكن ابنها المصاب بفرط النشاط، والذي أخرجته لتوها من إصلاحية للشباب بعد حادثة شغب، يُثقل من حياتها كثيراً. الشجار الحادّ الذي يصل لحد العنف، ثم التدليل والحب والغناء والرقص برومانسية على صوت (سيلين ديون)، ثم المزيد من الشجار.

( دولان) يشخصن الأمر كثيراً بكادرات ضيقة وعدسة محيّرة تجعل الفيلم في معظمه أقرب لصورة (بورتريه) إلا في مشهد أو اثنين تتسّع الشاشة بانطلاق يماثل التحرر الذي يشعر بيه (ستيف) وهو يتحرك بحرية فوق زلّاجته، ترافقه والدته وجارته (كايلا) على دراجتيهما. (كايلا) هي الجارة الطيبة، المدرسة المتلعثمة التي تحاول أن تساعد الفتى في دروسه وخلال عمل أمه في تنظيف المنازل، لكنها في واحد من أكثر مشاهد الفيلم حدة، تكشف عن جانب هش لـ (ستيف) الطفل الباكي الممزق بين طبيعة مرضه، وبين فطرته كفتى يحب والدته ويفتقد والده ولا يملك ما يفعله ليخفف من دراما حياتيهما، وعن قوة كامنة داخلها تتحدّى صورة المرأة المتلعثمة الخجول التي لا يتوقع أحد ثورتها أو عنفها !
ثلاث شخصيات كُتبت بحرفية عالية، وقُدمت بأداء ثلاثي تنافس أصحابه على الإبداع، فخرج الفيلم صادقًا، صادمًا، وكأفضل ما صنع أصحابه.

يصنع (دولان) نهاياته القاسية بأكبر قدر من الشاعرية: موسيقى كلاسيكية هادئة، أو أغانٍ يحبها أبطاله، تصوير بطئ و شعور طاغٍ بأنهم في حلم، ثم تصطدم بالنهاية المباغتة.
ليست النهايات وحدها هي مايميز (دولان)، لكن شاعريته السينمائية تبدو في الكثير من مشاهده، حتى أنك وبرغم النضج الفني والفارق الواضح بين الفيلمين، يمكنك تمييز بصمته الخاصة في كليهما في حركة الكاميرا الهادئة المصاحبة للموسيقى أو الأغاني التي يختارها بعناية، وفي الكادرات القريبة من ملامح شخصياته لتبدو كل ارتجافة شفة، وكل اختلاجة عصب واضحة للعين. كذلك ألوانه المبهرة، وخيالات أبطاله بين ركض (أوبير) خلف أمه في إحدى الغابات، وبين أحلام (دايان) بشابٍ هادئ وناجح، وسنوات أقل بؤسًا وصعوبة في تربيته.

قد لا يكون لـ (إكزافيير دولان) بصمته العميقة على السينما بعد، لكن كل ما يقدمه المخرج الشاب يُنبئ بمستقبل قوي وأعمال سينمائية ستُخلّد في أذهان المهتمين بالسينما، وربما يكون عمله المقبل مدخله لمشاهدين أبعد من المهتمين بمهرجانات السينما المنغلقة على جمهورها، وبداية حقيقية ليُرسِّخ وجوده بين صناع السينما.


إعلان