“عمدة البلدية الصيني”

 

قيس قاسم

توصيف مهرجان “سندانس” العالمي للوثائقي الصيني “عمدة البلدية الصيني” كأحد أهم الأفلام ��لسياسية لهذا العام دقيق جداً، وبخاصة إلصاق صفة السياسي به، لأنه حقاً حاول الاقتراب من منطقة يصعب الوصول اليها وذات صلة بالتركيبة الهرمية للحزب الشيوعي الصيني وطريقة إدارته للبلاد التي ما عادت “شيوعية” مثلما أراد لها زعيمها التاريخي ماو تسي تونغ، ولم تصبح “رأسمالية” خالصة بعد، مع أن كل توجهاتها تشير إلى انعطاف نحو هذا الاتجاه، أي أنها تقف اليوم على مفترق طرق بين اتجاهين فكريين وبين خيارين يتأرجح بينهما الإنسان الصيني وحتى قيادته السياسية التي غالباً ما تلجأ إلى أنصاف الحلول لتتجنب الظهور بمظهر تحرص على إخفائه فيما كل الدلالات تفضح ميلها إليه.
 هذا التوصيف لسياسية الشريط يسهل قوله، أما كيف تم توثيقه وتجسيده سينمائياً فتلك معضلة حقيقية دونها الإحجام وترك الفكرة جانباً، لكن المخرج الصيني الألمعي “زهو هاو” له رأي آخر عَبَر عنه من خلال استلهامه فكرة وثائقي لا تعالج بالضرورة حالة الحزب الشيوعي الصيني، بل تدخل إليها عبر رسم “بورتريه” لأحد رجاله، تميَّزه يُبرِّر اختياره، وبهذا يجنب نفسه الخوض في العموميات وربما لا يخرج منها إلا بـ “كليشيهات” إيديولوجية كما رأيناها في عديد من الوثائقيات الغربية عن الصين ونظامها السياسي الجديد.

على جينغ يانبو، عمدة بلدية “داتونغ”، وقع الاختيار لخصال فيه ستكون هي نفسها ما يمنح الفيلم قيمته السردية ويُبرِّر خياره الذي سيُلزمه بمتابعة حياة رجل لا يعرف السكون، لا يكلّ ولا يملّ. من أجل تحقيق حلمه ومشاريعه الطموحة لا يأبه كثيراً بالمحيطين به ولا يصغي إلا إلى الصوت الذي في داخله. رجل تكرهه أول الأمر لأنه يبدو لك مثل  مخلوق آلي لا مشاعر عنده لا يعرف سوى العمل. أما مشروعه، الذي من خلاله سيدخل الوثائقي بطريقة غير مباشرة إلى عالم الحزب الشيوعي الصيني وطريقة إدارته للبلاد، فكان إحياء مدينة “داتونغ”، عاصمة الصين قبل حوالي 1600 عاماً، عبر بناء جديد لسورها القديم ليصبح وجهة سياحية نشطة تعوضها عن الركود الاقتصادي التي تمر به اليوم.

 مدينة “داتونغ” التي نُصب قبل سنوات قليلة عمدة عليها، تُعدّ من أكثر مدن الصين تلوثاً بسبب مناجم الفحم التي فيها وعمليات استخراجه التي يعتمد سكانها في معشيتهم عليها. مشروع إعادة بنائها يتطلب ترحيل نصف مليون من مواطنيها إلى خارج حدود مساحة المدينة القديمة التي يزمع العمدة إعادة الاعتبار إليها كصرح ثقافي بتكلفة عالية تزيد على عدة مليارات من الدولارات وبموافقة الحزب الشيوعي الصيني.
عملية ترحيل الناس من بيوتهم تُجلي حقائق جديدة يراكمها الوثائقي لرصيده الباحث عن رسم صورة للعمدة والحياة في الصين اليوم من منظور شديد الخصوصية، عنوانه التصادم المتوقع بين الرافضين مغادرة بيوتهم، التي عاشوا فيها عقوداً قبل مجيء العمدة جينغ يانبو بفكرته الطموحة، وبين نظام البلديات والأقاليم.

يكشف التصادم والرفض فوضى الإدارة، فمعظم ساكني تلك الأحياء لا يمكلون تصاريح بناء وبالتالي هم وفق القانون سكان غير شرعيين لمساكن عشوائية بنوها بأنفسهم وسكتت قيادة البلدية عليهم دهراً، واليوم ودون سابق إنذار يواجهون حقائق جديدة تضعهم في الضد من مشروع العمدة الذي خطط لنقلهم إلى شقق سكنية حديثة تعوضهم عن بيوتهم الفقيرة.
طوال الفيلم هناك دوماً شيء من العلاقة التناحرية بين سكان المدينة وعمدتهم، فهو بقدر ما يبدو صارماً فيه شيء من الرأفة ورغبة في إزالة الحيف عن الناس، بالمقابل هو شديد مع بيروقراطية الدولة وموظفيها، الذين يبدون بالمقارنة به وبنشاطه المحموم والمخلص لقيم يؤمن بها، كسالى وعديمي الضمير لا يهمهم سوى المراكز والتملُّق لمرؤوسيهم حفاظاً على امتيازات تؤمِّنها لهم مراكزهم الحزبية.

هذا كله واضح في الفيلم وعلى طول مدته التي تقارب الساعة والنصف ولكن ثمة إحساس يخالج متابعه بأن أمراً ما سيحدث غير ذلك الذي نراه. أمر كامن تحت السطح وهناك أيادي خفية تنتظر اللحظة التي تضغط  فيها على الزر حتى يحدث الانفجار/ المفاجأة.
 خلال تجواله، في سيارته الفارهة والتي وضع على مقدمتها تمثال صغير للقائد التاريخي ماو تسي تونغ، كشاهد على أزمنة جديدة ربما ما كان يرغب في رؤيتها، أو هكذا يوحي وجوده في كل مرة تقترب عدسة الكاميرا منه، تجري أشياء كثيرة كلها ذات صلة بنشاط العمدة وسباقه مع الزمن من أجل تحقيق حلم اعتبره شخصياً وربط معنى حياته بإنجازه.

حب للمجد وعصامية مستمدّة من قيم الحزب ورغبة في تحقيق مشاريع تجارية من صلب التحول الرأسمالي، تناقضات تفاعلت كلها في شخصية رجل يعكس وجوده وإلى حد بعيد الصين وحزبها وتوجهها الآني، وكنتاج لها يواجه الناس الرجل وعلى الدوام بأسئلة قلقة يريدون بها معرفة ما الذي سيربحونه من مشروع سياحي، ولماذا لا يجري التركيز بدلا من ذلك على بناء مصانع جديدة والاهتمام بتطوير الزراعة التي تركها الناس منذ عقود.
 أسئلة ملتاعة يتوقف الرجل عندها وتجبره على تأمل أفكاره ملياً. واحدة من جماليات شغل “زهو هاو” تُجنِّبه الحوارات المباشرة واستعباده كلياً للمعلِّق واستبدال وسائل التوضيح بجمل مختصرة مكتوبة بآلة طابعة ومراهنته الكاملة على التصوير كوسيلة تعبير لها الأولوية المطلقة عنده.
كما لا يمكن تجاهل طريقة تنفيذ المشاهد التي صُوِّرت غالبيتها بعدسات مفتوحة على سعتها وانسجامها الدائم المدهش مع الأخرى التي تُقرِّب الوجوه وتنقل تعابيرها كما هي وبما تحمل من دلالات عميقة جعلت من “عمدة البلدية الصيني” تحفة بصرية صينية تنافس في قوة تعبيرها السينمات الاحترافية المرموقة كالهوليوودية وشبيهاتها.

في منتصفه يراقب الفيلم موقف قيادة الحزب من ممثلها في البلدية ومساعدتها له بقرارات فوقية على تمديد فترة وظيفته في اجتماع منظمة الإقليم الدوري والطلب من مندوبيه التصويت لصالحه بالإجماع، ما يوحى بدعمهم المطلق للمشروع وصاحبه، فاندفع بدوره في عمل لا يُصدّق أن إنساناً عادياً قادرا على إنجازه، ومع هذا مثّلت البيروقراطية والفساد الإداري عقبات خلقت له مزيداً من المشاكل. فالشقق الجديدة البديلة لم تكن بالمواصفات التي تعاقدت البلدية مع الشركات المنفذة لها، ما يكشف خرقاً لمبادىء الحزب وتغيُراً في قيّمه التي طالما افتخر بها؛ كالصرامة والتضحية والتواضع.

المخرج “زهو هاو”

على المستوى الشخصي يظهر العمدة كآلة لا يأبه لعائلته فنرى زوجته تلاحقه وتطالبه بالتخفيف من اندفاعه وتكريس جزءاً من وقته لأطفاله ولها، وعلى مستوى صلاته الإنسانية فلا تعدو أن تكون ضمن إطار عمل مكلف به حزبياً وعليه التعامل معها، ومع هذا فقد أسّس لنفسه سمعة طيبة يستحقها اختلف الناس حولها.

فالبعض اعتبر تفانيه هوساً ورغبة في إقران ظهور المملكة الصينية القديمة باسمه والبعض وجد فيه رجلاً يريد الخير للبلدية التي لم يكن منها لأنه منتسب إليها من مدينة ثانية. ستُظهر هذه الحقيقة خلّلاً في إدارة الحزب لكوادره لأنه لم يعد يثق بالقيادات المحلية فيلجأ إلى تغييرها باستمرار ويُنسبها إلى أماكن بعيدة عن مسقط رأسها ما خلق حالة من التنافر بين المهمة ومُنفذِّها لكونها تعتمد بالأساس على اللاثقة لا على الكفاءة وتحمل المسؤولية وهذا ما صرح به العمدة مرة للكاميرا التي ما فارقته لحظة ونسى كلياً وجودها.
 ربما كلامه وحتى قبل أن يُعرض في الفيلم قد سبب له مشكلة أو لنقل عبّر بعفوية عن علاقة غير سوية بينه وبين قيادة الحزب في بكين، لأنه أراد إنجاز عملاً غير ممكن الإنجاز في تصورهم، فقبلوا به ثم تملصّوا منه حين قارب على النجاح تعكزا فيما يبدو على ظهور شكاوى وتذمر منه بين سكان المدينة القديمة! وفي اللحظة التي اقترب فيها من تحقيق حلمه أصدر الحزب قراراً بنقله إلى بلدية أخرى وطلب من بديله المعين إيقاف ما تم إنجازه تاركين مليارات الدولارات نهباً للرياح. لقد تم هدر كل ما بناه الرجل طيلة سنوات على حساب صحته وعلاقته بعائلته.

لقد حلّت اللحظة التي طالما شعرنا بها وبالأيادي الخفية التي قررت الضغط على الزر كي تحدث المفاجأة التي ستُسبب بدورها مفاجآت أخرى ليس أقلها خروج مظاهرات واسعة في المدينة تطالب بإعادته إلى وظيفته وإكمال ما قارب الإنجاز.
 دموع الرجل لحظة وداعه للمدينة ستغفر له كل قساوته وستجلب التعاطف معه بدلاً من الكراهية التي ولدّها اندفاعه وقلة تعبيره عن مشاعره طيلة الوقت، لكنها في الوقت ذاته عبّرت عن خيبة أمله الشخصية بالحزب الذي آمن بأفكاره بقدر إيمانه بالتوجّه الرأسمالي الذي يعرف حجم تغلغله في أساسات دولته العظيمة. في اللحظة التي كان المتظاهرون فيها يتصادمون مع رجال الشرطة ينتقل الوثائقي إلى بيوت الفقراء العشوائية ليلة أعياد رأس السنة الصينية ليصوِّر ساكينها وهم في أشد لحظات حياتهم حيرة.
 فهم لا يعرفون هل كان الرجل يعمل من أجل مدينتهم وهل كان قرار الحزب بوقف مشروع طموح كلف المليارات من الدولارات دون إكماله صحيحاً، وهل جرى كل هذا من أجل مصلحتهم؟ لقد شعروا وهم يهمّون في الإعداد لاستقبال العام الجديد بأنهم يقفون وسط الطريق بين عام سيىء مرّ عليهم وآخر لا يعرفون ما الذي سيحلّ بهم وببلدتهم التي علّق الحزب مشروع بناء سورها القديم دون تفسير وتركها غارقة في رماد فحمها المتطاير.   
 


إعلان