بين “الرئيس والديكتاتور”
ندى الأزهري

لم يكن غرض الفيلم الوثائقي” الرئيس والديكتاتور” الذي عرضته المحطة الفرنسية الثالثة “فرانس 3” الحديث عن الحرب في ليبيا وملابساتها، كان هدفه يتجاوز ذلك إلى فك شفرة العلاقة المعقدة بين العقيد الراحل معمر القذافي والرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي.
علاقة عبثية جمعت بين اثنين لديهما منافع مشتركة، متذبذبة بين دنو وابتعاد ومديح و كره، علاقة غريبة جعلت بين ليلة وضحاها عدوا معلنا للغرب ضيفا مكرما على إحدى أهم العواصم الأوروبية.
المخرج الفرنسي أنطوان فيكتين المختص بليبيا يعود بعد ” القذافي عدونا المفضل” فيلمه الأول الذي حققه عام 2010 و ” القذافي حي أم ميت” فيلمه الثاني، في فيلم ثالث عنوانه ” الرئيس والديكتاتور” ليسرد بذكاء العلاقة الغريبة التي شابهت أحيانا لعبة القط والفأر بما شابها من تصفية حسابات و التباسات و خيانات بين القذافي و الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي على مدى سنوات عدة، و ارتكز هذا الوثائقي على علامات في درب تلك العلاقة كانت بمثابة محطات حاسمة في مسيرتها.
اعتمد المخرج أسلوب الراوي، فكان صوت نسائي هادئ يسرد حكاية البطلين بنبرة لا تخلو من السخرية، على وتيرة واحدة تصيب بالضيق أحيانا، وُدعمت الحكاية بصور من الأرشيف و بلقاءات مع شخصيات معاصرة للرجلين وعلى علاقة مباشرة معهما مثل أحمد قذاف الدم قريب ومستشار القذافي وزهرة منصور مستشارته و المسؤولة عن الأمازونيات، وسفير فرنسا في ليبيا ووزراء ومستشارون لساركوزي.
استُهل السرد بـ “اللقاء”، فالعلاقة بين الزعيمين بدأت في طرابلس عام 2005 عندما كان ساركوزي وزيرا للداخلية في عهد جاك شيراك، حينها شعر كل منهما بأهمية الآخر.. له! لقد كان طموح العقيد بتتويجه على إفريقيا وتصحيح السياسة الفرنسية فيها يتوافق مع سعي ساركوزي بالوصول للرئاسة الفرنسية في عام 2007.
اجتهد المخرج ليجمع من الأرشيف كل العبارات التي تلفّظ بها الرئيس السابق قبل أن يصبح رئيسا ليقابلها في ربط متمكن مع تصرفاته وليُظهر التناقض الصارخ أحيانا بين القول والفعل كتصريحه في حملته “لا أريد أن أتعاون مع أي ديكتاتور”، كذلك تركيزه على حقوق الإنسان لدرجة تعيين وزيرة دولة لها. بعد وصول ساركوزي للرئاسة حلّ “شهر العسل” بين الرجلين. فكان تحرير الممرضات البلغاريات المتهمات في ليبيا بنقل فيروس السيدا للأطفال على يد سيسيليا زوجة الرئيس الفرنسي، بداية عهد من الصداقة. هنا، لم يقدم الفيلم جديدا في تأكيده ما سبق ونشر حول ” قطف” ساركوزي لجهود كان يقوم بها الاتحاد الأوروبي، لكن رأي الجهة الليبية كان أكثر إثارة إذ صرّح مستشار القذافي قذاف الدم في الفيلم “نحن عرب كما تعرفون، هذا يحسب له (إرسال زوجته كمفاوضة) كان من الصعب رفض طلب امرأة ..” كما أكد صراحة على رغبة ليبيا آنذاك بمنح ساركوزي ” أوراق دعم” كي يدعمهم بالمقابل “بمشروعهم الإفريقي”.

بدأت” الالتباسات” في العلاقة بعد سنتين مع عودة الرئيس الفرنسي لليبيا وبصحبته وزيرة الدولة لحقوق الإنسان راما ياد. تقدم تلك في شهادتها للفيلم وصفا للقذافي بعبارات لا نسمعها عادة في نشرت الأخبار من نوع ” شعر لامع مبلل لا أدري بم؟ ربما بالزيت! نظارات شمسية سوداء وخريطة بلاستيكية لإفريقيا معلقة على صدره..”. كذلك كشفت الوزيرة الشابة خفايا الكلام الذي يدور في الكواليس فأشارت أن القذافي سألها” أنت وزيرة، كيف وعمرك ثلاثون سنة؟!” فردت على ما ذكرت ” كان عمرك 27 حين قمت بالانقلاب”.. لم تُسمع الجملة ولكن سُمعت ضحكة العقيد وبان امتعاض ساركوزي.
أما “القطيعة” فأتت بعد الزيارة السوريالية للعقيد إلى باريس بما أثارته من غضب وانتقادات لاذعة في الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية، كذلك لدى عامة الفرنسيين الذين صدمهم فرد السجادة الحمراء لزعيم معروف بانتهاكاته لحقوق الإنسان وبدعمه للإرهاب إضافة إلى ما سببته الزيارة من إجراءات أمنية لاتطاق.
كان الحديث عن تلك الزيارة وخلفياتها من أمتع فقرات الفيلم، من موعد وصول القذافي في “اليوم العالمي لحقوق الإنسان” إلى حجب التظاهرات المعارضة له بعيدا عن ناظريه، مرورا بنزواته من تمديد للزيارة مخالفة للقواعد الدبلوماسية و سياحته في باريس وإعلان رغبته “المستحيلة التحقيق” بالتجول في قوارب نهر السين لرؤية معالم المدينة الساحرة مع ما يشكله ذلك من ارتباك أمني، وصولا إلى تصريحه في محاضرة نظمها في الأونيسكو في باريس “لماذا يزايدون علينا بحقوق الإنسان؟ قبل أن يتكلموا عنها ليتأكدوا من الإنسان في بلدانهم، هل لديه حقوق؟”. كان هذا التصريح “مسك الختام” الذي أثار ثائرة و الفرنسيين ما اضطر ساركوزي للقول في مؤتمر صحفي بنبرة ناصحة ” لقد أخبرته ( للقذافي) كم عليه التقدم في درب حقوق الإنسان..”. بدأت بعدها رحلة ” الانتقام” المعروفة بين الاثنين، فبحسب قذاف الدم كان العقيد “واضحا” فيما ساركوزي تعامل معه “بغدر” و” نفاق”.
يبين الفيلم ظروف التدخل الفرنسي في ليبيا كاشفا عن المخاطرة الكبرى التي قام بها ساركوزي أولا باستقبال أعضاء المجلس الانتقالي دون معرفة خلفياتهم، ثم سعيه للحصول على قرار من الأمم المتحدة للتدخل العسكري. وهنا يتساءل قذاف الدم عن وجود “مخطط للتخلص من القذافي”، إذ لم يبعث أحد للتفاوض أو للتوسط .
الفيلم انتقاد لسياسة ساركوزي أكثر منه لسياسة فرنسا الخارجية، إذ غابت تماما عنه شخصيات مثل رئيس الحكومة الفرنسية، كما ظهر المعنيان بالأمر أي وزير الخارجية ووزيرة الدولة لحقوق الإنسان منتقدين ما جرى وكأن الرئيس قد تجاوزهما.

يبدي الفيلم شخصية العقيد عن قرب سواء عبر سماع بعض من تعليقاته، أو من خلال أحاديث ضيوفه الذين وصفوا نظراته الضبابية الغائبة تماما ومواقفه من أحاديثهم كأن يظل صامتا بعد كلام أو لا يرد بعد سؤال.. أيضا يبدو ذكائه في تعامله مع الآخرين في عدة مواقف تحسب لصالحه، كإخفائه للغضب كما حصل في مقابلته مع التلفزيون الفرنسي بعد الزوبعة التي أثارتها زيارته في كافة وسائل الإعلام والهجوم اللاذع الذي انصبّ عليه وعلى نزواته وانصياع الحكم لها. لقد ظهر متماسكا مع شيء من الازدراء في ردوده. وفي جواب على سؤال المحاور” كيف تردون على هذا الجدال الذي أثارته زيارتكم لفرنسا؟” رد ببرود “لا أطّلع على الصحف وليس لدي تلفزيون!!” أما عن تصريح ساركوزي حول طلبه من العقيد “التقدم على طريق حقوق الإنسان” فقد كان تكذيب القذافي قاتلا “لا، لا، نحن لم نشر إلى هذا الموضوع إطلاقا نحن أصدقاء ومحبون ومتعاونون..!”
في الحقيقة كانت القطيعة قد تمت. لقد ركزت مشاهد ذكية في الفيلم على التوقيع النهائي للعقود مع فرنسا حيث لم يتبادل الرئيسان أية نظرة. عقود لم تماطل ليبيا فيها فحسب بل لم تنفذها، ولم تكتف بذلك فمنذ ذلك اليوم باتت حصة المصالح الفرنسية في ليبيا أقل من الفترة السابقة لوصول ساركوزي للحكم. لقد اعتقدوا في ليبيا أن ساركوزي أخذ على محمل الجد مشروعهم الإفريقي ولكنهم عرفوا أنه يريد دورا تاريخيا هو صانعه.
قصة لم تعط بعد كل أسرارها وما زالت العدالة الفرنسية تحقق في أمر الأموال التي ادعى “الديكتاتور”، كما وصفه الفيلم طوال الوقت، منحها لساركوزي من أجل حملته الانتخابية.