“الإرهابي الأمريكي”

محمد موسى

كانت خطة “القاعدة” المُرعبة لعقاب صحيفة يولاندس الدنماركية التي نشرت الرسوم الكاريكتورية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي كان التنظيم يحيك خيوطها في عام 2009 تتلخص في التالي: التسلل إلى مبنى تلك الصحيفة في قلب العاصمة كوبنهاجن. ثم قتل موظفيها بالأسلحة النارية، بعدها جَزّ رقابهم بالسكاكين ورمي الرؤوس من خلال النوافذ، على أمل أن تنقل كاميرات العالم الحدث على الهواء. الشخص الذي كان يقف وراء تلك الخطة هو ديفيد هيدلي، أمريكي من أب باكستاني وأُمّ إيرلندية. عاش حياته مُعلقاً بين أزمات وعداوات بلد الأب، والضياع الذي عاشه في طفولته والذي قاده إلى الإدمان على المُخدرات ثم “الإيمان” والانخراط بعدها في صفوف القاعدة.

لن تصل “غزوة كوبنهاجن” إلى مرحلة التنفيذ، فالصحيفة الدنماركية ستنقل مقرها بشكل مُفاجيء إلى منطقة سريّة، وسيفشل ديفيد هيدلي في مساعيه بإيجاد مُتطوعين مُسلمين للعملية من الذين يعيشون في أوروبا نفسها، في حين لم تتمخض رحلته لبريطانيا لتجنيد بريطانيين مسلمين، إلا عن لقاء سريع في محطة باص في الشارع مع بريطاني من أصول باكستانية بدا مرعوباً كثيراً من التعامل مع هذا الإرهابي الدولي الأبيض البشرة. ديفيد هاردي نفسه سيُقبض عليه عند عودته إلى الولايات المتحدة، إذ تبين أن المخابرات الأمريكية كانت تراقبه منذ فترة. لكن هذه بداية الحكاية فقط. فماضي هيدلي سيتكشف عن تفاصيل خطيرة للغاية، منها قيادته للعملية الإرهابية في فندق قصر تاج محل في مدينة بومباي الهندية في عام 2008، والتي أدّت إلى مقتل ما يقارب المائة والخمسين شخصاً.

يُحقِّق الفيلم التسجيلي “الإرهابي الأمريكي” والذي عُرض أخيراً ضمن البرنامج التسجيلي المعروف “الخط الأول” على قناة “PBS ” الحكومية الأمريكية، في سيرة ديفيد هيدلي. الذي خرجت قصته للنور بسبب تسريبات إدوارد سنودن في عام  2013 لملايين الوثائق التي تتعلق بنشاطات غير قانونية لوكالة الأمن القومي الأمريكي. ستكون قصة هيدلي ونجاح الأمن في إيقافه قبل  أن يقوم بعمليات في أوروبا والولايات المتحدة، الذريعة التي سترد مراراً في تبريرات الإدارة الأمريكية لتبيان جدوى تجسسها على بيانات ملايين المدنيين الأمريكيين، للرد على عاصفة الغضب الشديدة التي أطلقتها فضيحة إدوارد سنودن في الحياة الأمريكية العامة. من جانبه يُحقِّق الفيلم في إخفاقات الأجهزة الأمنية الغربية، فهذه الأخيرة لم تعر اهتماماً كبيراً لكل التحذيرات التي شكلها ديفيد هيدلي للأمن في شبه القارة الهندية، وإنما انتبهت له، عندما التحق بتنظيم القاعدة قبل ثماني سنوات، وبدأ في تحضيرات لعملية إرهابية في كوبنهاجن، وخطط إرهابية أخرى في الولايات المتحدة نفسها.

يقوم بالمهمات التحقيقية في الفيلم الصحفي سيباستيان روتيلا، والذي قضى بضع سنوات في تتبع قصة هيدلي. لكن الصحفي لن يكتفي بالبحث في قصة الإرهابي الأمريكي، فيقدم في موازاة مهمته الأساسية، مُحاولات جديّة لكشف الكذب الحكومي الرسمي، وزيف ماكينة الدولة الإعلامية، وكيف تم استخدام قصة ديفيد هيدلي في تعليل سلوك الحكومة الأمريكية إبان أزمة إدوارد سنودن. في الوقت الذي أهملت أجهزة الحكومة الأمنية نفسها عشرات الإشارات عن سلوك مُريب لديفيد هيدلي، وكان من الممكن تلافي ما حدث في عام 2008 في الهند لو أنها تحركت بسرعة وأوقفته.

يستعيد الفيلم حياة هيدلي، فيبدأ من ولادته في باكستان، لأب عسكري وأُمّ أمريكية. عاشت العائلة الصغيرة في البلد الآسيوي حتى طلاق الوالدين وعودة الأُمّ إلى الولايات المتحدة. قضى هيدلي سنوات طفولته في مدرسة خاصة. ستطبع صراعات المنطقة الآسيوية بين الهند وباكستان سنوات الفتى الأولى وتترك ندوبها الغائرة في شخصيته. وفي تلك السنوات سيولد كرهه الشديد للهند. في الثامنة عشر يقرر هيدلي الالتحاق بوالدته في الولايات المتحدة، لكنه سيغرق هناك سريعاً في الإدمان على المخدرات. ليُودع في السجن لتهريبه المُخدرات ولم يبلغ الخامسة والعشرين من العمر. في الثلاثينات من العمر سيعود ديفيد هيدلي إلى باكستان ليلتحق بمنظمة مُتطرفة تتغذى على تأجيج الصراع مع الهند. عندها غير اسمه الباكستاني إلى اسم غربي، وبدا أنه وجد طريق حياته أخيرا كمُجاهد في الحرب الكونية ضد القوى الغربية ومن يُمثلها.

لا يحمل ديفيد هيدلي جلادة المقاتلين الشرسين أو تَحمّل أصحاب العقائد الراسخة، فهو يستسلم في كل مواجهة مع الأمن. فعلها بعد تفجيرات عام 2001 في نيويورك، عندما قبضت عليه الشرطة الأمريكية للاشتباه بعلاقاته مع منظمات إسلامية مُتطرفة، وفي عام 2009 عندما قُبض عليه في شيكاغو. تزوج هيدلي وطلق عدة مرة، ولم يعرف الاستقرار في باكستان أو الولايات المتحدة، كما بدا عاجزا عن التخلص من تركة سنواته الأولى في باكستان. هو لذلك يكاد يكون شخصية محيّرة، فهو يجمع بين العزيمة والجبن. كما ساهمت سحنته في ترسيخ لغز شخصيته، إذ إن عينيه تحملان لونين مختلفتين، واحدة بلون بني غامق والأخرى زرقاء، وكأن واحدة لأصوله الشرقية والأخرى للغربية.

يُخصص الفيلم مساحة زمنية مهمة للعملية الإرهابية في بومباي عام 2008، والتي ساهم هيدلي في الإعداد لها بشكل مباشر ويقضي اليوم السجن لدوره فيها (نال عليها عقوبة السجن لخمسة وثلاثين عاماً يقضيها في الهند). إذ ذهب إلى هناك لتفقد الأمكنة التي ستضربها الجماعات المُتطرفة ومنها معبد يهودي. الفيلم يثير أسئلة عن أداء المُخابرات الغربية والتي حصلت على أغلب المُراسلات المُشفرة التي أجراها ديفيد هيدلي مع مُنظمته المُتطرفة في باكستان. يُدين الفيلم التقاعس الغربي للتحرك في قضية لا تشمل مواطنيها. في الوقت الذي دافع بعض العاملين السابقين في أجهزة أمنية غربية، بأن متابعة أو فك رموز كل الرسائل الإلكترونية أو المُكالمات الهاتفية هو أمر مستحيل عملياً، لذلك تقع الأخطاء الكبيرة أحياناً.

يَتوفر للفيلم العديد من الوثائق والمشاهد الأرشيفية النادرة، منها ما كشفه إدوارد سنودن، فيما لم يُوضِّح الفيلم كيف حصل على الفيلم الذي صوره ديفيد هيدلي بنفسه، عندما استأجر دراجة هوائية وتوجه قريبا جداً من مبنى جريدة يولاندس في العاصمة كوبنهاجن. أو تلك التي صورتها الكاميرات الأمنية له في غرفة التحقيق في مدينة شيكاغو في عام 2009. كما يرتكز الفيلم على خبرة وحَصافة الصحفي سيباستيان روتيلا الذي قدم تحقيقاً بطبقات مُتعددة وبسلاسة أسلوبية لافتة، تنقّل فيه بين سيرة إرهابي أمريكي، لكنه أدان أيضا مُخابرات دول غربية مُتقدمة وقفت متفرجة على النزاعات الدموية لدول أخرى.


إعلان