“الفن.. أن تَقتل سياسياً”

قيس قاسم

(ابنة البوما) Puma daughter للسويدي أولف هولتنبرغ ومساعدته أوسى فارينغر اعتُبر من بين أندر وأفضل الأفلام، التي تناولت الحرب الأهلية في غواتيمالا، وأكثرها ترشحياً وفوزاً بجوائز عالمية، وبعد عشرين عاماً على إنتاج الفيلم عام 1994، وبمناسبة اقتراب الجولة الأولى من الانتخابات العامة، قرر المخرجان العودة إلى غواتيمالا ثانية من أجل تسجيل الحدث السياسي.

لم يُفكِّرا بغير هذا لكن ثمة شيء حدث هناك أجبرهما على تغيير خطتهما والشروع بعمل نفس المشروع من زاوية أخرى غير تلك التي كتبوا تفاصيلها على الورق، فإزاحة مرشحة قوية لرئاسة البلاد بطريقة دراماتيكية اعتبروها موضوعاً يستحق تناوله سينمائياً، خاصة وأن الشخصية الرئيسية فيه هم يعرفونها جيداً وكرّسوا لها مساحة جيدة في فيلمهم الأول الذي ركّز على المجازر التي ارتكبها الجيش الغواتيمالي المتحالف مع الشركات الأمريكية المتنفذّة في البلاد ضد  السكان الأصليين (الهنود الحمر)ـ وأن إزاحتها بطريقة لا أخلاقية والتي تُشبه عملية تصفية مُعدَّة بشكل بارع تضع الانتخابات والعملية السياسية في البلاد أمام أسئلة محرجة حين يتعلق الأمر بقتل السياسي سياسياً، بخباثة وفن استحق عنواناً معبراً  كـ “الفن.. أن تَقتل سياسياً”.

لا يحيل الوثائقي الحقيقة إلى نفسه بل إلى الذاكرة البصرية الجمعية الغواتيمالية والتي تستدعي بدورها خواطر عندنا حين نُصدم بمدى قوتها، فهي على عكس ما تعانيه ذاكرتنا البصرية من فقر وإهمال يبرزان بوضوح حين نشرع في أي محاولة لاستعادة تاريخنا المعاصر سينمائياً، وتتجلى المفارقة أكثر حين يتعلق الأمر ببلدان فقيرة لا يمكن مقارنة إمكاناتها الاقتصادية بما نملك. فقوة المحاججة التاريخية لـ “الفن.. أن تَقتل سياسياً” مُستمدَّة من عديد الأشرطة الوثائقية التي تناولت تاريخ غواتيمالا السياسي الحديث، وكل مقطع فيه مُحصَّن بقوة الصورة المتحركة، ولهذا مال صاحباه إلى استخدام “التعليق” المدعوم بالصورة ليغدو فيلمهم مثل حكاية بصرية يسردها صانعها السينمائي بتروي وبجعبته دوماً “الأدلة الدامغة”: الأشرطة الوثائقية.

غواتيمالا.. أفقر بلدان أمريكا الوسطى على الإطلاق وسكانها الأصليون أشدّ مواطنيها بؤساً ولهذا لا غرابة في أن تكون من بين أكثر دول أمريكا اللاتينية خطورة، فالفساد الإداري وتجارة المخدرات وحوادث القتل والسطو فيها شبه عادية، وهي كما يعرضها الوثائقي في مفتتحه تأتي كنتاج موضوعي لسوء الأوضاع الاقتصادية ولهيمنة الجيش وجنرالاته على مقاليد الحكم لفترات طويلة، ومن هنا فإن الانتخابات تكتسب أهمية استثنائية فيها، وتُمهِّد لترسيخ تقاليد ديمقراطية مع كل ما يشوبها من أخطاء، كما أن ترشيح ساندار تورس للرئاسة يعطي أملاً للفقراء،  كَون برنامجها يعتمد بالأساس على تقليل الفوارق الاجتماعية وعلى دعم المواطنين الأصليين ـ الهنود الحمر سكان الجبال والقرى النائية ـ وتوفير حد أدنى من الضمانات الاجتماعية للمواطن، وهنا يكمن سر شعبيها وقوتها إلى جانب العامل المعنوي والتاريخي كونها أول امرأة تُرشَّح لرئاسة البلاد.

 أمام هذه الشخصية القومية وجد صانعا الوثائقي نفسيهما مشدوديّن لمتابعة تحركاتها وانتظار نتائج ما ستؤول إليه حملتها الانتخابية، خاصة وأن غريمها ومنافسها المحافظ “أوتو بيريز مولينا” يتمتع هو الآخر بموقع تنافسي قوي ويحظى بمساندة الجيش، ويمتلك علاوة على كل هذا رصيداً مالياً ضخما استثمر قسطاً كبيراً منه للدعاية والترويج لشخصه. هكذا بدا المشهد الانتخابي العام طبيعياً لولا بروز أخبار سبقت بداية التصويت بأسابيع قليلة أخرجته عن سياقه، ما استدعى الوثائقي لترك كاميراته جانباً، لبعض الوقت، والبحث عن دلالات وصول هذان المرشحان دون سواهما ولماذا بدأت صورة المرشحة بالاهتزاز إعلامياً؟

احتاجت غواتيمالا لتصل إلى اللحظة التي يخرج فيها الناس لانتخاب رئسيهم ديمقراطياً أكثر من ستة وثلاثين عاماً، شهدت خلالها البلاد حروباً أهلية وصراعات مسلحة راح ضحيتها آلاف من البشر. ووفق ما يُقدمه الوثائقي السويدي، من مقاطع قصيرة مأخوذة من أفلام وثائقية وليست برامج تلفزيونية إلا ما ندر، فقد شهدت فترة الثمانينات صعود الجنرال “أفراين ريوس مونت” بدعم مباشر من الرئيس الأمريكي ريغان، رافقه تصاعد الاحتجاجات وبروز القوى الشعبية المسلحة التي اتخذّت من الجبال وقرى الهنود الأصليين مركزاً لها.  لقد أراد الجنرال تجفيف منابع دعم المسلحين فقاد حملة دموية شعارها “جففوا المياه حتى لا تستطيع الأسماك السباحة” هذا الشعار سيُترجَم إلى مجازر رهيبة هُدرت فيها أرواح أكثر من ربع مليون إنسان جلهم من الفقراء والفلاحين المُعدمين.

يُثَبت الوثائقي الدور الذي لعبته الناشطة “ريغو بيرتا مينتشو” في كشف جرائم الجيش والمجازر الجماعية ومطالبتها بتقديم الجناة إلى المحاكم. مطالبات انضمت إليها حركات وأحزاب سياسية بعد أن نبّهت العالم لما يجري في البلاد، وعلى وقعها مُنحت الناشطة جائزة نوبل للسلام ودفعت الجنرالات إلى الانحناء أمام العاصفة وتوقيع اتفاق عام 1996 لرفع الحيف عن الضحايا وإقرار سياسة أقل تشدداً تُوجَّت مفاعيلها الاجتماعية بعد سنوات بوصول الاشتراكي الديمقراطي
ألفارو كولوم” عام 2007 إلى الرئاسة حاملاً برامج إصلاحية طموحة. إلى جانب الرئيس ظهرت سيدة نشطة اسمها “ساندار تورس” تولّت تنفيذ البرنامج بحماس لافت، ثم وبعد مدة تزوجت من الرئيس، وهنا واحدة من العقد التي أراد حلّها الوثائقي وبرّر بها عودته إلى الماضي لأن مسألة زواجها ستظهر خلال الانتخابات كعقبة كبيرة تحول دون وصولها إلى دفة الحكم، بل ستمنعها من المشاركة فيها. بشكل مذهل رسم الوثائقي خارطته التاريخية ومراجعاته ولهذا صار سهلاً عليه الذهاب إلى التاريخ والعودة منه إلى اللحظة الآنية التي توقف عندها دون قطع حاد، ما أعطاه سلاسة سردية غاية في الإمتاع وحثّ على المتابعة، فتاريخ هذا البلد وفق الوثائقي المعني به بحاجة إلى إعادة قراءة بصرية وهي متوفرة بفضل الكم الكبير من التسجيلات وبفضل مهارة إخراجية يُحسدان عليها.

سيكتشف اليمينيون ورغم كل الأموال التي كرسوها لحملتهم الانتخابية، أن شعبية تورس قوية جداً وستذهب أغلبية الأصوات إليها، ما استدعى التركيز على نقاط قوتها فراحوا يشوهونها ويصورونها كمستغلة ومُبذِّرة للمال العام وينتقدون في نفس الوقت سياستها مدعين أن المساعدة الاجتماعية (قرابة أربعين دولارأ أمريكياً شهرياً) للفقراء تُنهك اقتصاد الدولة وتهدر أموال دافعي الضرائب، كما أن الجرائم وانتشار المخدرات بحاجة إلى “قبضة حديدية” لا تتوفر إلا بالمعارض مولينا. بدوره يناقش الوثائقي المعطيات فيظهر زيف ادعاء المرشح اليميني، فالأموال البسيطة ساعدت الفقراء ولم تحلّ مشاكلهم كلها وأن أوجه صرفها غير مشكوك فيها. فهل ستتوقف الحملة ضدها عند هذا الحد؟ 
لقد أثار خصوم تورس مسألة زواجها كنقطة قانونية تمنع من ترشيحها. فالدستور وقانون الانتخابات يمنع ترشيح الرئيس لدورتين هو وأقاربه، وفي هذه الحالة لا يحق لزوجته الترشيح. سيلعب خصومها على هذه الورقة وستتصاعد تأثيراتها لدرجة تدفعها إلى إعلان طلاقها من زوجها حتى تُسقط عليهم حجتهم. يدخل الوثائقي من الخاصرة الرخوة للحدث الدراماتيكي ويسجل عذابات الزوجين والآثار النفسية التي تركها الطلاق عليهم إيفاءاً وانسجاماً مع قناعتهما، ومع هذا لم يتوقف الخصوم وقرروا “قتل” المنافسة سياسياً، فراحوا يشددون في وسائل الإعلام المملوكة لهم على بطلان الخطوة كون الطلاق جاء لأغراض سياسية تكتيكية، فحرّكوا آلاتهم السلطوية وأقنعوا قضاة المحكمة المدنية بإصدار قرار بطلان الزواج.

التنافس وأساليب اليمين غير الشرعية لإسقاط منافستهم ستوفر للوثائق فرصة نادرة ليكشف من خلالها سراً مذهلاً يتعلق بالمرشح القوي: أوتو بيريز مولينا. لقد عاد إلى التسجيلات والوثائق ووجد ريبورتاجاً مسجلاً يظهر فيه المنافس ورئيس الـ “الحزب الوطني” وهو يرتدي الزي العسكري ويحمل رتبة ملازم في إحدى القرى المبادة واضعاً جزمته فوق جثة ثائر قتيل من الهنود الأصليين، ويتحدث إلى الصحافي عن عمليات تجفيف منابع “الثوار الحمر” التي بدأت عام 1982. لقد كشف عن دوره كقائد للحملة العسكرية ضد الثوار وعن دعم الشركات الأمريكية العملاقة له في حملته العسكرية. قبل الرجوع إلى الشارع المكتظ بالناخبين يمضي الوثائقي في البحث عن دور هذه الشركات في السياسة الداخلية، فيظهر أنها الحاكم الفعلي للبلاد وهي من تُعيِّن الجنرالات وتخطط أدوارهم وبعد ثلاثين عاماً سيظهر أن المرشح الرئاسي قد نفّذ مشروعاً خلال خدمته العسكرية قلّل بموجبه الرقابة الحدودية على مُهربِّي المخدرات، وأن التجارة التي كانت مزدهرة في المكسيك انتقل قسم كبير منها إلى غواتيمالا وأن التعاون بين الجيش وأباطرة المخدرات أثمر عن شراكة تُؤمِّن المال للجيش وقادته وإلى الأحزاب المتوافقة معهم.

 لقد أسّسوا لفساد وصل إلى القضاء وكانت المرشحة الاشتراكية ضحيته. فقد أقرت المحكمة الدستورية زواجها ولكن سرعان ما تراجعت وحكمت بعدم شرعيته ما استدعى فريق عمل تورس التوجه إلى محكمة دول أمريكا الوسطى ليظهر من داخلها الدور المؤثر للشركات الأمريكية على أعضائها الذين تنكروا لدورهم وأعلنوا أن هذه المسألة ليست من اختصاصهم، فأصابت ساندرا تورس بمقتل! لقد خسرت حق الترشيح وفاز الضابط المسؤول عن أكبر المجازر ضد الغواتماليين بالرئاسة.

يراجع بعدها الوثائقي حكايته (إعادة الشريط إلى البداية) ويتوقف عند السياسية الخاسرة وهي تودع مؤيديها وتحثّهم على المضي في طريقهم الصحيح. وعلى الجانب الآخر يراجع مسيرة الرئيس الجديد منذ شبابه كيميني متطرف وكضابط متعاون مع الشركات الأمريكية وممثل عن مصالحها في الب��اد، إلى اللحظة التي وضع فيها خطته لإسقاط منافسته، أو لنقل مجاراة مع الوثائقي، إلى اللحظة التي قتلها سياسياً بفن ينشد إظهار الدناءة لا الجمال.
 


إعلان