“أعرافٌ جنوبية”
قيس قاسم

في عام 2009 أثارت المصوِّرة والسينمائية الأمريكية “جيليان لاوب” ضجة كبيرة في ولاية جورجيا بعد نشرها تحقيقاً مصوراً في مجلة “ذا نيويورك تايمز” كشفت فيه عن بعض مظاهر التمييز العنصري الموجودة فيها حتى اليوم، والتي تتجلّى بشكل صارخ في مراسم احتفالات خريجي طلاب ثانوياتها، حيث يمنع على الطلبة السُود المشاركة في احتفالات تخرج البِيض ولهذا يقام، كما هو الحال في مدينة “مونتغومري كاونتي”، احتفالان يفصل بينهما يوم واحد. بعد مرور عامين على نشر تقريرها “حفل تخرج منفصل” أرادت المخرجة معرفة ما الذي تغيّر في مراسم وطبيعة تلك الاحتفالات وقررت توثيقها هذة المرة بكاميرتها السينمائية بدلاً من الفوتوغرافية.
دون تخطيط منها قُسِّم فيلمها الوثائقي “أعراف جنوبية” إلى قسمين ليصبح حاله حال المجتمع الذي صوّره والمنقسم عنصرياً بين بِيض وسُود! مسار حكايته الأولى أوصلها إلى حكاية ثانية أكثر تعقيداً. فحال وصولها إلى المدينة استقبلها الغاضبون بالصراخ والهياج، وعنوة أخذ رئيس البلدية منها كاميرتها وحرموها، كما ظنوا، من وسيلتها التي فضحتهم بها، غافلين عن كاميرا ثانية، سينمائية، تولّت إكمال دور الفوتوغرافية فراحت تسجل ما أرادوا منعها من تسجيله. الحكايتان حزينتان. الأولى تخص طلاب، قضوا زمناً من عمرهم سوية. درسوا سوية ولعبوا كرة السلة سوية في ساحاتها وأكلوا وشربوا ومرحوا وتقاسموا الأحزان سوية وعلى نفس المقاعد جلسوا وفي اللحظة التي أرادوا أن يفرحوا ويحتفلوا بنجاحهم سوية رفضت العنصرية ذلك. وقفت “الأعراف الجنوبية” في وجههم. فمنذ عقود يحرص سكان المدينة البِيض على التقيّد بتقاليد ورثوها عن أجدادهم ترفض اشتراك الطلاب السُود المتخرجين للتوّ من حضور نفس الاحتفال الذي يقام في شهر مايو من كل عام لأولادهم. ووفق “الأعراف” تخصص إدارة المدينة يومين؛ واحد للطلبة البِيض والآخر للُسود في تحدِّ صارخ لقوانين البلاد التي منعت العنصرية منذ عقود.

للتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم من الظاهرة تركت جيليان لاوب كاميرتها لهم وحين عادت وشاهدت ما سجل وجدت أن السُود ومن يحب مخالطتهم والذهاب معهم إلى حفلتهم اعتبروا فصل الطلاب إهانة لآدمية الإنسان الأمريكي، كما هناك من بين الطلبة مَن لا زال على موقف أجداده، لا يجد غضاضة في الفصل العنصري. تكشف أحاديث الطلبة عن موقفين؛ واحد سهل يريد الاندماج والذهاب سوية إلى نفس الحفل والآخر يريد تكريس التمييز وإبقاء العنصر “المختلف” بعيداً عنهم في لحظات فرحهم التي أرادوها أن تكون بيضاء خالصة.
الكبار في السن هم أكثر تشدداً من الطلبة أنفسهم! لتفحُّص هذا الانطباع الذي خرجت به بعد عدة مقابلات مع عدد من طلبة وسكان المدينة الجنوبية المنغلقة قررت القيام بجولة في مدن أصغر منها مثل مدينة “ماونت فيرتون”، فكلما توغل المرء في الجنوب الأمريكي أكثر وجد العنصرية وأعرافها أكثر رسوخاً وتبجحاً.
وجودها في المدينة الصغيرة سيقودها إلى حكاية ثانية أكثر تراجيدية من الأولى وأشدّ إيلاماً. حكاية “معقدة” معالجتها سينمائياً تطلّبت صبراً وبصيرة لمعضلة إنسانية لا يمكن إيجازها بأحكام سريعة، فالفصل العنصري في الجنوب الأمريكي اليوم ليس هو نفسه الذي كان خلال الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب، وليست أشكاله نفسها التي كانت قائمة عشية اتخاذ الرئيس الأمريكي لينكولن قراره التاريخي بإنهاء العبودية وإصداره قانون “التحرُّر”، ولا هي نفسها التي جاءت بعد نضالات السود وقادتهم في ستينيات القرن الماضي وحققوا من خلالها مكاسب أُلغيت بموجبها سياسة التمييز العلني ضد السود.
هي اليوم وبسبب كل ذلك مبطنّة يصعب معاينتها بسهولة حين تطبّق على تجارب ذاتية ومنفردة، كالتي اصطدمت المخرجة الأمريكية بواحدة منها وأجبرتها على ملاحقة تفاصيلها ما استوجب مكوثها سنوات هناك تسجل وتوثق مجريات الجريمة التي راح ضحيتها شاب أسود قُتل بسلاح رجل عجوز أبيض، لتُخرج بعدها خلاصات دعمها الواقع.

على فحوى المكالمة المسجلة بين نورمان نيسميث وموظفة خط الطواريء تبني جليان قصتها الثانية، وتنطلق منها لملاحقة تداعياتها بعد أن اعترف العجوز الأبيض خلالها بإطلاقه النار على شاب أسْود يدعى جوستين باترسون وأرداه قتيلاً. تفاصيل الجريمة يسردها كل طرف من الطرفين بطريقة مختلفة فالقاتل قال أنه وجد ابنته ذات الـ 18 ربيعاً وصديقتها التي تصغرها في السن مع “زنجيين” داخل منزله في أوضاع “غير مناسبة” وبعد شجار معهما دفعاه على الأريكة فسحب بندقيته وأثناء هربهما وجّهها ضد أحدهم وأصابه بعيار ناري. رواية الأهل تقول إن ابنة الرجل واسمها دانييلا قد دعت صديقها القديم باترسون مع أخيه الأصغر شفون إلى بيتها الأمر الذي لم يتحمّله والدها فأراد قتلهما بتعمد.
القصة في إطارها العام ذات بعد عنصري ولكن تفاصيلها المتبقية تربك هذا الحكم وتدعه عرضة للتأويل لأن دانييلا فتاة سوداء وليست بيضاء كما يذهب التفكير قبل كشف التفاصيل: لقد تبنّى نورمان ابنة أخته من رجل أسود بعد أن تركتها عنده وغادرت البلدة. اعتنى بها وعاملها كما لو كانت من صلبه. تفصيل لا يمكن تجاهله في معادلة القتل، مع أن ما يجاوره من حقائق تدعم ميل الرجل العنصري واحتقاره لغير البيض من منطلق داخلي نما معه منذ نعومة أظافره وآمن به.
كما سيكشف البحث المضني للوثائقي عن العمق النفسي للميول العنصرية لسكان مدينة “ماونت فيرتون” والأعراف التي تتحكّم في سلوكهم اليومي. في جانب ثانٍ يُظهر الوثائقي معاناة أهل القتيل عبر تسجيله لمشاعرهم وأحزانهم على شاب كان في مقتبل العمر حين قُتل لـ “ذنب” في كل المقاييس الغربية لا يستحق أن يقتل عليه وبسبب علاقة عابرة، ذات طابع طفولي متهور، اعترفت ابنة الجاني بها.
ترك موته التراجيدي زوجته وولده يسيران مثل بقية عائلته على درب الآلام الذي سار عليه ملايين الزنوج من قبل. هكذا يرسم الوثائقي صورة العائلة المنكوبة ومن خلالها يعود إلى ماضي البلدة وإلى عذابات العِرق التي لم تنتهِ بعد، مستغلاً قرار المحقِّقين بإطلاق سراح القاتل لحين موعد انعقاد محاكمته، ليُسجِّل شهادات بعض السكان من ذوي الأصول الأفرو – أمريكية.

شهادات كبار السن منهم والذين عايشوا التمييز العنصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي دُعِّمت بالوثائق والصور فجاءت قوية ومؤثرة. لم يختفِ التمييز بين السُود والبِيض في هذا الجزء من البلاد لقد خفّ قليلاً لكن ما زال في نفوس البيض قوياً، وستثبت وقائع محاكمة الجاني على ذلك. تمتّع جيليان لاوب بديناميكية المصورة الحذقة دفعها إلى استغلال تزامن وجودها مع موعد انتخاب “شريف” البلدة والذي صادف أن كان من بين المتنافسين عليها شرطي أسود مشهود له بالنزاهة والحكمة يدعى كالفين برونز. من خلاله ومن خلال ابنته الشابة سنتعرف على طبيعة النظام الانتخابي والقوة الحقيقية المؤثرة فيه، وستصب الاستنتاجات النهائية المستخلصة منها في مصب واقع “النظام العنصري الأمريكي” ضد السُود. يرجع الوثائقي إلى المحكمة التي اكتفت بالحكم على الجاني بالسجن لمدة سنة واحدة فقط، وسيرتفع معها الشعور بالظلم عند عائلة القتيل وسنسمع عبارة “لو كان أسْوداً لحكم عليه بالسجن مدى الحياة” تتردد أكثر من مرة.
في التفاتة نبهة يجمع الوثائقي نبذة عن المحامية التي دافعت عن القاتل وفريقها ليكشف من خلالها صلة عائلتها بالعصابات العنصرية وقوة إيمانها بها، وسيضيف تبجُّحها بأن قرار المحكمة قد أُخذت فيه بالاعتبار قوة صلات نورمان بالمسؤولين السياسيين وبقية المتنفذين في المدينة والذين لا يخفون رفضهم النظر بمستوى واحد إلى الأسْوَد والأبيض ويعلنون انحيازهم إلى “أعرافهم” الجنوبية.
سيتجلى ذلك الإحساس والإيمان بمفارقة صارخة حين يعلن القاتل عن قناعته الكاملة بتفوق الأبيض وعدم رضاه على الحكم المخفف الذي صدر ضده على فعل يراه عادياً وينبغي على كل رجل أبيض حين يدخل بيته شاب أسوَد أن يفعله. إلى كل تلك العتمة المسيطرة على المدينة تضيف خسارة “الشريف” الأسود الانتخابات عاملاً جديداً إلى معادلة “الأعراق” المتجذرة. فمع كل ما يملك من كفاءات خسر وخرج محبطاً مقابل شرطي لا يتمتع بأقل من نصف ما يتمتع هو به من إمكانات مهنية. قبل خروجها من المدينة الغارقة في عنصريتها رغم وجود رئيس أمريكي أسود يحكم البيت الأبيض، تذهب جيليان إلى الشرطي الخاسر لتسمع منه انطباعاته عن النتيجة. لم يتفوّه بالكثير بل اكتفى بالقول “لن يصدق الناس في نيويورك وغيرها من المدن الكبيرة ما يجري هناك. وإذا أرادوا معرفة الحقيقة فليأتوا ويشاهدوا بأم أعينهم ما نتعرّض له من تمييز”.
لم يرغب “أعراف جنوبية” بخاتمة لا تعكس كل الحقيقة فعادت إلى المحتفلين بتخرجهم والتقت شباباً من اللّونين قرروا الفرح سوية أو كما أعلن بعضهم العيش تحت سقف واحد رغم كل الحقد الدفين الكامن في النفوس. وعلى جانب ثانٍ هناك من قرر ترك المدينة والعيش في مكان آخر أكثر سعة ونظافة مثل ابنة الشرطي الخاسر. خياران يفضحان حالة انقسام مجتمعي حادة ربما تفسَّر لو أردنا قراءة الفيلم بمدلولاته الواقعية لماذا تشهد اليوم مدن أمريكية مثل فيرغسون وبالتيمور حراكاً جماهيراً تصادمياً مضامينه تعكس رفضاً قوياً لممارسات عنصرية تشبه إلى حد كبير تلك التي تجري في مدن الجنوب الأمريكي والتي صارت جزءاً من أعرافها المقيتة!