“شخص لطيف”: الطيبة العادية والشر المخيف

أمير العمري

يثير الفيلم الوثائقي “شخص لطيف” A Decent One (من إنتاج تليفزيون بي.بي.سي) للمخرجة فانيسا لابا، سؤالا مباشرا حول أصل الشر، هل يمكن أن يكون متأصِّلا بحكم الفطرة، لدى شخص ما، خصوصا إذّا كان من أولئك الذي نعرف تاريخهم الدموي جيدا، أي الذين مارسوا التعذيب والقتل والإبادة الجماعية، أم أن الشر قد يخفي وراءه وجها آخر طيبا أو بالأحرى، “عاديا”؟

سكرتيرة هتلر الخاصة، “تراودل يونج”، التي ظهرت في الكثير من الأفلام والبرامج الوثائقية كما كتبت مذكراتها، روت الكثير عن علاقتها بهتلر، وكانت كثيرا ما تشير إلى أن هتلر كان رقيقا مهذبا يحنو عليها مثل أب عطوف. ونحن نتذكر صور هتلر وهو يداعب الأطفال في الكثير من الأفلام التسجيلية القديمة، كما نتذكر أيضا لقطاته الملونة الشهيرة مع عشيقته “إيفا بروان”، وهو مستلقٍ في الشرفة الفسيحة بمنزله الشهير أعلى الجبال في “أوبرسالزبرج”، بحيث لا يتصور المرء قط أن هذا هو نفسه الزعيم النازي الشرس الذي أمر بشن الحروب وغزو الدول، والتنكيل بكل خصومه ومعارضيه، ومارس أقصى درجات العنف والقسوة، إلى جانب بالطبع كل ما هو منشور على نطاق واسع، عما يسمى بـ “الهولوكوست” أو معسكرات الاعتقال الجماعي التي أودع فيها اليهود وغيرهم، حيث أُبيدت أعداد كبيرة منهم.

إلا أن بطل الهولوكوست الأول ليس هتلر، بل “هاينريش هملر” رئيس جهاز الشرطة السرية (الجستابو) والقوات الخاصة (الإس.إس) التي عُرفت بقسوتها المفرطة وهيمنتها حتى على قيادات الجيش العليا. وهملر هو أحد أكثر رجال هتلر إخلاصا للأيديولوجية النازية، وكان المسؤول الأول عن إنشاء وإدارة معسكرات الاعتقال الشهيرة في داخاو وأوشفتز- بيركناو وبيرجن – بيلزن وشيلمنو وغيرها.

رجل لطيف

فيلم “رجل لطيف” (2014) هو الفيلم الوثائقي الأول الذي يُعيد فتح سجل هملر المرعب من خلال أسلوب سينمائي مؤثر وممتع على مدار ساعة ونصف الساعة، فمخرجته تستخدم مذكرات هملر الشخصية كما تستخدم مقتطفات من الرسائل المتبادلة بين هملر والمرأة التي تزوجها وكانت تكبره بسبع سنوات، وهي “مرجريتا” أو “مارجا” كما كان يطلق عليها، ومقتطفات من رسائله مع ابنته “جودرون”، وكذلك بعض الرسائل التي تبادلها مع المرأة التي اتخذها فيما بعد عشيقة له، وبعض التقاريرالتي كانت تصله عن مسار الحرب من النواحي التي تخصّه، وما كان يسجله في يومياته.

في بداية الفيلم نسمع صوت مُحقِّق أمريكي يستجوب زوجة هملر التي اعتُقلت، بتاريخ مكتوب على الشاشة هو 26 سبتمبر 1945، ويسألها عما إذا كانت هناك خزانة في منزل الأسرة، تحتوي على أوراق ووثائق، فتؤكد وجود مثل تلك الأوراق.
وعلى شاشة سوداء نقرأ معلومات تقول أن “جنود الفرقة 88 الأمريكية قاموا في 6 مايو 1954 باقتحام منزل هملر في بافاريا، واستولوا على مئات الوثائق والرسائل والصور والمذكرات، ولم يقوموا بتسليمها للسلطات العسكرية، وإن الفيلم يستند في مادته، إلى تلك الوثائق والأوراق. وعلى خلفية صورة كبيرة معلقة على الجدار داخل منزل هملر، يجلس عدد من الضباط الأمريكيين يبتسمون للكاميرا، وهم في حالة استرخاء تام، والبعض منهم يدخن الغليون”.

 في القسم الأول من الفيلم تستخدم المخرجة الكثير من الوثائق المصورة، لمنح المشاهدين لمحة عامة عن الأحوال الاجتماعية التي كانت سائدة في ألمانيا في أوائل القرن العشرين، ثم لمحة خاصة عن عائلة هملر ومولده في أكتوبر 1900، ثم تعميده بحضور أحد الأمراء الألمان، ثم مشواره الدراسي في المدارس الابتدائية، واعتلال صحته باستخدام صور فوتوغرافية لهملر في طفولته، ثم له مع شقيقه ووالدته، مع تعليق صوتي بصوت ممثل ألماني يتقمص دور والده جيرهارد، وهو الأسلوب الذي ستتبعه المخرجة على مدار الفيلم، فسوف نستمع إلى الرسائل المتبادلة بين هتلر وابنته وزوجته وعشيقته، بأصوات ممثلين يؤدون تلك الأدوار، دون تعليق صوتي تقليدي من طرف مخرجة الفيلم، يشرح ويحلل ويعلق، فهي تفضل أن تترك للمشاهدين حرية الاستنتاج من خلال ما تعرضه من صور ورسائل ومذكرات، تقوم بترتيبها معا في سياق محدد، مع التركيز على فكرة التناقض بين الشخصية “العادية” لهملر كرجل، وأب وزوج مُحبّ، يكتب رسائل عاطفية تفيض بالمشاعر وتتضمن أحيانا نكاتا، ثم كمسؤول في الدولة، أصبح يتغيب كثيرا عن زوجته، وهو الأمر الذي يصبح – كما نرى في إحدى رسائل “مارجو” إليه – مدعاة لتذمرها حينما تتساءل: “لماذا يتعين عليك الذهاب إلى الحشد مع هتلر بينما تعرف ما سيقوله مسبقا؟ ويكون جواب هملر في رسالته إليها بكل رقة: لأنني المسؤول عن تنظيم حشود واستعراضات هتلر!”

تقول زوجة هملر في مقدمة الفيلم، إنها لم تكن تلقي بالا إلى السياسة ولم تكن تفهم الكثير مما يحدث وهو ما تثبته المقتطفات التي بذلت المخرجة جهدا كبيرا في استخلاصها من بين مئات الوثائق والرسائل التي اشتراها والدها من الذين اشتروها بدورهم من الجنود الأمريكيين وكانت قد استقرت منذ سنوات في إسرائيل.
يعتمد الجزء الأول من الفيلم على لقطات من الأرشيف، لمظاهر الحياة في ألمانيا خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، وعلى مجموعة الصور الفوتوغرافية لهملر وأسرته، ويقرأ طفل بصوت معادل لصوت هملر، من يومياته التي كان يدونها في ذلك العمر المبكر (1910، 1913) بل ويحدد بدقة أيضا كيف حضر الأمير هاينريش إلى منزل الأسرة في الخامسة و45 دقيقة مساء، لتناول الشاي، وأنه التقط لهم صورا فوتوغرافية نرى واحدة منها يظهر فيها هملر الصغير.

بعد ذلك يستعرض الفيلم قصة التحاق هملر بالحزب النازي، وتأسيسه قوات “إس.إس” الخاصة، في البداية لحماية التجمعات النازية التي كان هتلر يلقي فيها خطاباته، ثم تعرُّفه بمارجريتا أثناء رحلة بالقطار.
وفي الجزء الثاني تعتمد المخرجة على لقطات الأرشيف وتركز على كل ما يمكن التقاطه من معلومات تترد في الرسائل المتبادلة، حول دور هملر خلال الحرب في “الهولوكوست”، وتنامي نزعاته المعادية لليهود. ومن هذه المقتطفات تلتقط المخرجة من إحدى رسائل هملر لزوجته، إشارته إلى افتتاح معسكر داخاو الذي يقول إنه “يتسع لنحو خمسة آلاف من اليهود والاشتراكيين الديمقراطيين” دون أدنى ذكر لليهود، ولا لغرف الغاز، وهو ما لا نجد له أيضا أثرا في أي من الوثائق المستخدمة في الفيلم!

المخرجة تلتقط فقط من أحد تقارير هملر، ما يذكره عن عدم كفاءة شاحنات الموت بالغاز المتسرِّب من العادم التي كان النظام يسعى لاستخدامها للتخلُّص من بعض المعتقلين على الجبهة الروسية، ولكن هملر يُصدر الأمر بالتوقف عن استخدام هذه الوسيلة لعقمها، ثم يعبر عن ازدرائه لليهود واعتبارهم أدنى من سائرالمخلوقات، حينما يقول في إحدى رسائله إنه يشعر بالتقدير للجنود الألمان الذين حرصوا خلال الحرب على عدم إلحاق الأذى بالحيوانات، ثم يستدرك ليقول إن هذا الحرص “لا ينطبق على اليهود وغيرهم من المخلوقات الأدنى من البشر”!

ازدواجية الإنسان
الفيلم يقول إن الإنسان قد يبدو في حياته الخاصة لطيفا للغاية، إلا أنه في الحياة العامة، يمكن أن يمارس أقصى درجات العنف دون أن يجد في سلوكه هذا أي تناقض. وتتخِّذ المخرجة من شخصية هملر، التي تعتبر من أكثر الشخصيات عنفا في التاريخ المكتوب وتنسب إليه عمليات الإبادة الجماعية لليهود، نموذجا تتوقف أمامه لتجسيد هذا التناقض، وهو ما يصوِّر كيف يدفع العمى الأيديولوجي صاحبه إلى تبرير أكثر أنواع العنف الجماعي، وفي رسالة لهملر كتبها قرب نهاية الحرب، يصف لزوجته كيف أنه يشعر بالرضا التام عن دوره الشخصي وعما قام به الجنود الألمان الذين يجب أن يذكرهم التاريخ كرجال شرفاء أدّوا واجبهم بشرف، وكيف أنه يشفق عليهم من آثار ما اضطروا لفعله، وأنه اقترح الترفيه عنهم بين فترة لأخرى، بوسائل مختلفة.

ولعل مما يؤخذ على الفيلم ذلك الاستخدام الدرامي لبعض الأصوات مثل أصوات القنابل والانفجارات والضحكات والموسيقى الدرامية التي تخلق تأثرات معينة، وتأتي من خارج لقطات الأرشيف المحايدة، مما قد يخلّ بمصداقية الفيلم. كذلك قد يجد البعض في استخدام الممثلين في أداء الأدوار المختلفة بأصواتهم، اعتداء على حيادية الصورة، والإيهام الكاذب بأنها أصوات الشخصيات الحقيقية، طالما أننا لا نرى الممثلين، ولا الوثائق التي يقرأون منها!
 


إعلان