“بعيدا عن الرجال”.. رحلة تسليم قاتل تتحول لصراع بين الشرق والغرب
يستند فيلم “بعيدا عن الرجال” (Loin des Hommes) للمخرج “ديفيد أولهوفن” بخطوطه العامة على قصة قصيرة للكاتب “ألبير كامو”، فما زال الكاتب الفرنسي المولود في الجزائر إشكاليا، بسبب ما تطرحه بعض كتاباته عن المنطقة التي ولد فيها من جدل حول علاقة الشرق بالغرب.
يأخذ الفيلم العلاقة غير المُخطط لها التي تربط بين أوروبي وعربي، وقد جاءت بها القصة القصيرة نقطة انطلاق، ليصوغ من حولها بناء لفيلم لن يرتكز فقط على هذه العلاقة التي جاءت غير متوازنة بمقدار الاهتمام الذي مُنح لطرفيها، إذ بدا الفيلم معنيا بشكل أساسي بالأوروبي، بمُثله وقيمه وأزماته، في حين شكّلت الشخصية العربية ما يُشبه العثرة أو الحمل الثقيل الذي يُلقى على حياة الشخصية الأوروبية ليُعكِّر هدوءها، وليفرض عليها التعامل معها.
لن تكون الشخصية العربية هي الرئيسية الوحيدة في هذا الفيلم، فهناك شخصية أخرى شديدة الجدليّة والراهنية، وستترك أثرا مُهما في الفيلم.
“دارو”.. جندي الحرب العالمية يصبح مدرسا في الجزائر
يلعب الممثل الأمريكي “فيغو مورتنسن” دور “دارو”، وهو إسباني مولود في الجزائر، وقد اختار -بعد اشتراكه في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء- الاعتكافَ والتدريس في مدرسة صغيرة تقع في منطقة جبلية جزائرية مُنعزلة، طلابها من الأطفال العرب الفقراء الذين يأتون من القرى المجاورة.
سرعان ما يصل عنف العالم الخارجي إلى المدرسة الصغيرة، فالشرطة الفرنسية هناك ستطلب من “دارو” مرافقة رجل عربي اسمه محمد قتل قريبا له إلى المدينة، وتسليمه للسلطات هناك بسبب انشغال الشرطة بالثورة الشعبية المسلحة العنيفة التي كانت قد بدأت قبل فترة قصيرة.
عندما تبدأ رحلة الرجلين، يتحول الفيلم وقتها إلى فيلم طريق يعبر فيه البطلان خلال جغرافيا جبلية قاسية (صُوِّر الفيلم بالمغرب)، ومناطق تحولت لساحات قتال مُسلح بين الثوار الجزائريين والفرنسيين. ولن تكون الرحلة جغرافية فقط بل تاريخية أيضا، ويتكشّف من خلالها الكثير عن البطل الأوروبي والفئة التي يمثلها، وكيف أن حياته كانت تسير في طريق مسدود، ووجودها في تلك المنطقة من العالم في طريقه إلى التلاشي.
“ولدتُ مثلك في هذه البلاد”.. مواجهة رفاق الحرب
رغم أن السؤال حول ما ستؤول إليه الرحلة البرية سيكون حاضرا طوال وقت الفيلم، فإن الفيلم فيلم مناخات وأجواء وتفاصيل صغيرة وشخصيات ثانوية، تتقاطع دروبها مع أبطال الرحلة، وتحصل على أهمية خاصة تتجاوز الرحلة نفسها، كما هو الحال غالبا في أفلام الطريق السينمائية، لكن دون أن تضيع وجهة الفيلم النهائية.
ولعل أكثر مشاهد الفيلم درامية وقسوة هو ذلك اللقاء العنيف الذي يحدث بالصدفة بين زعيم مجموعة للثوار وبين البطل الأوروبي، فقد قاتلا الألمان معا في الحرب العالمية الثانية، وها هما يجدان أنفسهما اليوم على طرفي القتال الدائر في البلد. فعندما تقبض مجموعة الثوار على “دارو” ومحمد ينطلق نقاش مُثير للغاية بين البطل الأوروبي وصديقه القديم، فيبدأ شخصيا وعذبا، إذ يستذكر الرجلان أيام الحرب تلك، لكنه يتلبّد عندما يصل الحديث إلى ما يجري اليوم.
وفي واحد من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرا، يتفجّر غضب “دارو” عندما يشير إليه صديقه السابق بـ”أنتم” بدل “نحن”، فيرد بعتاب مُغلف بالحزن الكبير والغضب: لكنني ولدت مثلك في هذه البلاد، ولا أعرف سواها، ودافعت عنها عندما تطلّب الأمر.
مشاهد العنف.. صناعة التفاصيل الدرامية المبتكرة
لا جدال أن الفيلم مُحمل بالأسئلة والإحالات المحرِّضة التي قدِّمت ضمن قصة من الماضي حيكت تفاصيلها الجمالية والدرامية بتمكُّن لافت.
يبدو أسلوب المخرج أصيلا إلى حد كبير، ولا يمكن العثور في الفيلم على مراجع وتأثيرات سينمائية سابقة واضحة، خاصة في مشاهد العنف التي قدّمها، وجاءت مبتكرة بشكل لافت، بعيدة عن التركيبة المألوفة التي تقدمها السينما أحيانا.
ومنها المشهد الذي يقع في الربع الأول من الفيلم، عندما حاولت مجموعة من أقارب الرجل الذي قتله محمد القبض عليه في بيت “دارو”، وما تبع ذلك من مشاهد طويلة بدت بلا نهاية عن مواجهة مسلحة مرهقة بعدد محدود جدا من الانتقالات التوليفية، أو المشاهد التي أظهرت قساوة الرحلة على القدمين عبر طبيعة جبلية، وما تخلّلها من عنف جاء أيضا مُفاجئا وأصيلا في تركيبته وشديد القسوة.
تعايش الثقافات.. مناخ الفيلم بين الحنين والقنوط
يتراوح مناخ الفيلم بين الحنين والقنوط، الحنين إلى زمن سابق كان التعايش فيه ممكنا بين قوميات وديانات مُختلفة في مناطق هي اليوم متجانسة عرقيا إلى حد كبير، ويغلب عليها اللون الواحد. والقنوط بأن التعايش ذاك وصل إلى نهاية عنيفة لأسباب عدة، منها الاستعمار الظالم الذي أظهره الفيلم قوة قاسية لا ترحم، وأخرى تتعلق بطبيعة العلاقة بين الشرق والغرب التي ما زالت تشغل المُجتمعات نفسها.
والقضية الأخيرة هي التي تجعل هذا الفيلم شديد الراهنية، فإذا كان الفيلم قدم إلى العالم وقتها من وجهة نظر أوروبية، فإنه ينتهي بمجموعة كبيرة من الأسئلة، مشككا بالروايات التاريخية المعروفة، ومحرِّضا على قراءة جديدة جذرية.
“فيغو مورتنسن”.. ممثل يجيد أدوار الرجال المتخفّين
يواصل “فيغو مورتنسن” بهذا الفيلم سلسلة الأدوار الكبيرة التي اعتادها الجمهور من هذا الممثل والنجم شديد الخصوصية في السنوات الماضية، بل يُمكن الجزم أن فيلم “بعيدا عن الرجال” سيكون فيلما مُختلفا بدونه.
يجيد “مورتنسن” دائما لعب أدوار الرجال الذين يخفون ماضيا عنيفا، أو الشخصيات ذات الطبقات المتعددة، ويمنح بحضوره الخاص شخصية “دارو” العمقَ الإنساني والحكمةَ المهمين، فهما يمكّنان من العودة لتلك الفترة الزمنية الإشكالية بأقل شيء ممكن من الأحكام السابقة، وتقبل المسارات التي تأخذها الشخصية.
هذا الممثل والفنان التشكيلي وُلد من تزاوج ثقافات متعددة، ويتكلم بعدة لغات، وقد تحول إلى الممثل الأثير لمخرجين خاصين، مثل المخرج الشهير “ديفيد كرونينبيرغ”، وهو يرتفع بشخصية “دارو” عن زمنها التاريخي المحدد، لتخاطب بفاعلية جمهورا من عصر آخر، كما منح الفيلمَ ذلك الأسى الكبير الذي طبع روحه، إذ بدا العمل وكأنه توديع جديد لنهاية الشرق المُتعدد الأعراق والهويات.