“الفصيل الأخير”: قصص ما بعد الحرب
قيس قاسم

من الحروب إلى الغابات البرية انتقل المصور والمخرج المتعدد المواهب “سيباستيان يونغر”، في محاولة منه لتأمّل الذات ومعرفة البلاد، ولتعزية نفسه بفقدان صديقه “تيم هيثرنجتون”، المخرج السينمائي الذي خسره في ليبيا، ودفعه موته للانسحاب والعودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، محبطاً وغير قادر على فهم العالم المحيط به، لهذا قرر القيام مع مجموعة صغيرة، مكونة من ثلاثة أشخاص؛ غوليرمو سيرفيرا، المصور الفوتوغرافي الذي رافق تيم في مهمات صحفية كثيرة وشهد اللحظة التي لفظ فيها زميله أنفاسه الأخيرة ، والمجندان داف رولز وبريندان أوبرين، يرافقهم مصور كُلِّف بتصوير رحلتهم مشياً على الأقدام من واشنطن إلى الشمال الأمريكي.
كل المشتركين فيها لهم صلة ما بموت تيم وشهود على الحروب التي خاضتها بلادهم في أفغانستان والعراق وغيرها، وكلهم يعانون من حالات انفصام حادة عن الواقع ومن صعوبات التأقلم مع أمكنتهم القديمة بعد أن عايشوا الحروب وأهوالها في الخارج ولم يعد من السهل عليهم نسيانها، ولهذا فكر سيباستيان بتنظيم تلك الرحلة البرية كنوع من العلاج النفسي ومحاولة “إعادة تأهيل” ذواتهم بعد أن تمزقت، وقرر كمخرج وضع نفسه بينهم لا أن يبتعد بمسافة عنهم ويقف خلف الكاميرا ليسجل. أراد مشاركتهم تجربة عيشهم تحت سماء مفتوحة والتعبير بحرية عن أفكارهم وسرد ما يريدونه من قصص بعفوية أثناء سيرهم على طريق طولها 500 كليو متراً تحاذي خطوط سكك حديد القطارات المتجهة إلى الشمال. طبيعة الرحلة وغايتها حددت طبيعة الشغل الوثائقي فجاء لهذا بدون سيناريو، جاء فيلمه عفوياً متقارباً مع الطبيعة ومنسجماً مع حركتهم ومع مسار رحلتهم المفتوحة.
“الفصيل الأخير” The Last Patrol فيلم طريق بامتياز، مفتوح على كل الاحتمالات والمصادفات، معتمداً في نجاحه على نباهة وحصافة مخرجه وفي حسن اختياره ما هو مناسب من تسجيلات أشرطة بلغ طولها آلاف الكيلومترات دارت خلالها أحاديث وذكريات وسُردت فيها قصص كثيرة لم تصلنا منها سوى شذرات كانت كافية للتعبير عن جوهر ما أراد توصيله سيباستيان إلينا.
قدرة الفصل بين الممثل والمخرج لا يمتلكها إلا قلة من السينمائيين المبدعين الذين يتمتعون بحس مرهف يميز بين الموقعين ولا يخلط بينهما، وربما يعود أيضاً إلى تعدد مواهب سيباستيان وتجاربه الطويلة بخاصة في مجال الوثائقي الذي خصص جزءاً غير قليل منه لزميلة الراحل تيم هيثرنجتون، فلقد جمع بين التصوير والكتابة الروائية والإخراج، ويكفي تصفح سجله الإبداعي لنعرف أن انطلاق شهرته بدأ من الكتابة حين حول المخرج ولفغانغ بيترسن عام 2000 روايته “العاصفة الكاملة” إلى فيلم سينمائي قام ببطولته جورج كلوني.

وفي حقل الوثائقي من خلال عمله كمساعد مخرج مع تيم هيثرنجتون ورائعته “ريستريبو” المرشحة لجوائز الأوسكار عام 2010 عن فئة أفضل فيلم وثائقي، ثم عمله الاستذكاري عام 2013 “أي طريق تبدأ منه جبهة القتال” ـ حياة وزمن تيم هيثرنجتون” و”كورنغال” الذي تلاه بعام، ثم أخيرا “الفصيل الأخير”. سجل يؤهله للسيطرة على عمل غير خاضع للضوابط لكنه مسكون بالبوح والأفكار والصدق، وما على المخرج العارف بأدواته سوى إخضاع تلك المواصفات إلى شروط العمل السينمائي ليُخرج منها شريطاً لا يشعر المتلقي خلاله بانفلات مساره الدرامي أو تشظِّي أفكاره، سيما وأنه يعتمد على الكلام بالدرجة الأولى بل أنه تأسّس عليه.
أراد “الفصيل الأخير” أن يظلّ عسكرياً، لا بسبب كون بعض أبطاله قد شاركوا فعلاً في حروب أو لأن بعضهم قد عايشها من خلال مهنته كصحافي أو سينمائي، بل بسبب طبيعة الطريق الذي حدّدوه لأنفسهم والمرتبط بخطوط سكك الحديد التي يمنع القانون عبور المشاة عليها حرصاً على أرواحهم، ولهذا كان عليهم التخفِّي عن أنظار دوريات الشرطة وسائقي القطارات الملزمين بالتبليغ عن كل من يحاول العبور على السكك الحديدية، وعليه ظهروا في حذرهم كما لو أنهم “فصيل عسكري” يقوم بمهمات سرية على خطوط العدو الخلفية.
تشبيه فيه من الصحة والظرافة، وهاتان الصفتان ستلازمان أكثر القصص المستذكرة. فالصدق نابع من تجربة شخصية والظرافة نابعة من روح التجربة التي يراد بها الابتعاد عن الهموم ونسيانها، غير أن عنصراً جديداً أضيف اليها أعطى للوثائقي حيوية مطلوبة وانسجاماً مع فكرة التجمع الذي يراد منها معرفة الذات والبلاد المسببة للحروب وآلامها.
سيوجِّه المتجولون حيثما حلوا سؤالاً للناس عن رأيهم بوطنهم. أجوبتهم على شدة تنوعها تعطي فكرة عن أمريكا وكيف ينظر ناسها إليها. في سياق الحوارات سيتجلى منحى فلسفي لم يعلن عنه الشريط في البداية، ولكنه مع الوقت ووفقاً للحوارات المستمرة بين أفراد “الفصيل” ستبرز عناوين فرعية يمكن حصرها وفق قراءة كل واحد منا لها.

الموت.. ربما هو العنوان الأبرز. فالحروب تحصد الأرواح ولهذا كان حديث المجندين مركزاً على الإحساس به لحظة مواجهته، وجلّ قصصهم كانت عن أشد المشاهد تجسيداً للموت والتي تستدعي التفكير به من منظور فلسفي حينما ينجو الإنسان منه. واحدة من مشتركات الذاهبين في الرحلة قناعتهم بأن الخوف من الموت يتبدد بالتجربة وأن الانفعالات الشديدة كفيلة بركن التفكير به جانباً وهذا ما يفسر رغبة بعضهم بالعودة ثانية إلى الجيش والمشاركة في حروبه.
لم يقتصر الأمر على الجنود بل على المصورين الحربيين، فقوة الاحتكاك بالموت والاقتراب منه فيها من الإثارة ما لا يتوفر في الحياة العادية ولهذا يصعب عليهم بعد عودتهم الانسجام مع سلاسة الحياة العادية.
المكان القديم.. سيغدو غريباً ومن هنا يأتي الانفصال عن الواقع والحياة الزوجية.. لم تعد فيها، بالنسبة إليهم، تلك الحميمية.. وصيروة العائلة لم تعد تغوِ الجنود العائدين، لأن الموت يقطع تسلسل الحياة نفسها، أما الشيء المتبقي منها فهي الفترات المعاشة قبل دخولهم العسكرية أو خوضهم المعارك وفيها يكمن الدافع القوي للهروب إلى الأمام.
قصصهم عن علاقتهم بعائلاتهم وبشكل خاص بـ “الأب” تظهر عقد مستعصية، فالكثير منهم يعاني من مشاكل جدية فيها وبسببها فضلوا الذهاب بعيداً خارج الحدود ليشاركوا في صراعات عسكرية تعكس إلى درجة كبيرة رغبة الانتقام العنيف من الماضي، فجلهم تعرض للتبويخ الجسدي وعانوا من الفشل الاجتماعي أو أدمنوا الكحول والمخدرات. الجامع الإضافي بين الأربعة وخامسهم كلب سبيستيان، الذي ربط فوق رقبته كاميرا صغيرة صورت تفاصيل تنقّلاتهم ومشيهم على مستويات منخفضة أضافت جمالاً إلى الصورة الرائعة التي زخر بها الوثائقي، خوفهم الدائم من الخارج وبحثهم عن أشباه لهم رغم اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والفكرية.
يكرس “الفصيل الأخير” وقتاً للحديث عن الناس المقربين منهم وبخاصة المرأة والأصدقاء وزملاء المهنة، ويضيف سيباستيان إليها “مقبلات” خارجية آتية من الناس الذين يحاورهم أثناء مسيرتهم وأغلبها يكشف عن شعور طاغٍ بالعزلة وحنين إلى تفوق قومي جامع لم يعد متوفراً اليوم.
تدخل الطبيعة كعنصر ملطِّف لقتامة الصورة، ويغدو الانسجام معها تعويضاً حقيقياً للنائمين تحت سمائها. فالليالي الممطرة والنار المشتعلة تغوي بالبوح ويكشف الارتياح إليها ميلاً كامناً فيهم للهروب من “الحضارة” إلى أحضان الطبيعة والتفكير وسطها باستقلالية متخلصة من تأثيرات الإعلام والسياسة.
رسمت المجموعة عبر أحاديثها المتقطعة صوراً لبلاد جميلة، تلد بشراً لا يجدون فيها مناخاً سوياً للمضي فيها بسلام لأن هناك وعلى الدوام حروباً وصراعات وعنفاً مستشري لشدته يختلقون حروباً وأعداءً جدد، ليُبدِّدوا من خلالها تأزمات أمة صاروا يشعرون بتفكك روابطها، فالمرور بالمدن الصغيرة يشي بصراعات قائمة لم تنتهِ بين السود والبيض، وفوارق متسعة بين الأغنياء والفقراء وفقدان لضمانات اجتماعية تجعل الناس يلهثون وراء المال، فيما يسجل العابرون للمدن تصالحاً ذاتياً وسلاماً لم يعرفوه منذ أن عادوا إلى بلادهم غرباء.
يتوقف “الفصيل الأخير” ومع اقتراب أبطاله من الوصول إلى خط نهاية رحلتهم في مدينة هاريبورغ، عند مفاهيم سائدة كالرجولة.. التي يتشبث الأمريكان بها وكأنها خصلتهم الوحيدة التي تميزهم عن بقية الرجال في العالم والتي تدفعهم كثيراً إلى تبرير ظواهر العنف التي يمارسونها دون انقطاع. ستفضي الأحاديث الأخيرة إلى توافق لم يكن عندهم في البداية، فالادّعاء الظاهر بحب الحرب كشف عن كراهية لها بعد التجربة، لكن الخوف من الطعن برجولتهم جعلهم دوماً يكتمون خوفهم أو الإعلان صراحة عن ميلهم لعيش حياة هادئة المرأة فيها عنصراً أساسياً.
وتكشف القصص الكثيرة عن حاجتهم إلى مجتمع منفتح يقبلهم كما هم ولا يفرض شروطه عليهم، فالحرية التي يتمتعون بها مشروطة بمواقف مصالح سياسية واقتصادية لا تهتم بهم بل همهما الأكبر خلق بؤر توتر وحروب في مناطق مختلفة من العالم، ولهذا تراجع بعضهم عن فكرة الذهاب ثانية للحرب والتفكير بدلاً منها بتنظيم رحلة ثانية يكتشفون خلالها ذواتهم ومساحات جديدة من بلادهم.