“في مزاج للحُب”

آية عبد الحكيم

لقطة من فيلم “في مزاج للحب”

بغموض يخفي المخرج الصيني (ونج كار واي) عينيه خلف نظارته السوداء. الرجل الذي يُعدّ أشهر مخرجي الصين الحاليين، وأهم مخرجي سينما (هونج كونج)، لم يُخرج للسينما خلال سبعة وعشرين عامًا من النشاط الفني سوى عشرة أفلام فقط. لكنها عشرة أفلام صنع بها صورته الخاصة المميزة التي لا يضاهيها أحد. ربما تشبه الألوان سينما الأمريكي (ويس آندرسن)، وقد تشبه الحكايا والشخصيات تلك التي يكتبها (وودي آلان)، لكن يظل لـ (كار واي) منطقته الخاصة وحدوده التي لا يطرقها أحد.

المكان
يكتب (كار واي) كل أفلامه. ولأنه مخرج قبل أن يكون كاتبًا، فهو يكتب أفلامه بصريًا قبل أن يصوغ حكايته. يشبه ارتباطه بالمدينة ارتباط (وودي آلان) بنيويورك مثلاً. كلاهما جعل من المدينة واحداً من أبطاله، لكن (كار واي) لم يكتفِ بالمدينة فحسب، بل كان أكثر تحديداً وخصوصية واختار مواقعًا محدودة، معترفًا أنه يفكر في المكان أولاً ثم يستحضر لعقله الفكرة والشخصيات. يفكر في الإطار الذي سيقدّم أبطاله عبره قبل أن يفكر فيمن سيكون أبطاله أو ماذا سيفعلون. في فيلم (قطار تشنج كينج السريع) تُشكل محطة القطار والمطعم المجاور لها عنصراً رئيسيًا. أهم أحداث الفيلم تدور هناك، و بطليه (فاي) و(الشرطي 663) تعارفا بالمطعم.

في فيلم (في مزاجٍ للحب) يتعارف الزوجان المخدوعان السيدة (تشان) والسيد (تشاو) نتيجة سكنهما في غرفتين متجاورتين في نفس الطابق. لقاءاتهما العابرة يؤطّرها الشارع الضيق الممطر أمام مطعم الشعيرية. في فيلم (سعداء معًا) خرج من مدينته المفضلة – هونج كونج – واستكشف العالم في (بوينس آيرس). ولأنه لن يفعلها بالطريقة التقليدية، فقد ظلّ يعرض المدينة كما يراها أبطاله، بحنينهم إلى (هونج كونج) والهوس بالماضي.
قبل تصوير أفلامه يزور (كار واي) تلك الأماكن التي رسمها في مخيلته، يستكشفها ويتخيل مشاهده وأماكن وقوف ممثليه ربما حتى قبل أن يبدأ كتابة الفيلم، بل إن بعض الأماكن هي ما يمنحه الحكاية التي يريد روايتها.

الصورة

الأفلام الأولى لـ (كار واي) سادها طابع مميز هو الكاميرا المحمولة. حركة الكاميرا التي تتبع الشخصيات بانسيابية وعشوائية وتنتقل خلفهم في المساحات الضيقة وتخترق خصوصية الشخصيات بزوايا غير اعتيادية. هذا التصوير المرتجل جعل الشخصيات تبدو أكثر بساطة وقربًا من المشاهدين وأضفت على الأفلام طابع الهواة أكثر من الإحترافية المعتادة من المخرجين. مدير التصوير المفضل لـ (كار واي) هو (كريستوفر دويل) والذي أدار له تصوير سبعة من أفلامه الطويلة.

لقطة من فيلم “ليالي التوت الأزرق”

يؤكد (كار واي) على أن التفاهم بينهما وصل لدرجة لم يعد يحتاج معها لشرح الصورة التي يريدها. يكتفي بمنح (دويل) الزاوية التي يريد تصويرها، ويقوم الأخير بالمهمة. لم يكن الأمر سهلاً في البداية، فـ (دويل) يعترف أنه لا يمكنه إعادة تصوير فيلم مثل (قطار تشنج كينج السريع) اليوم لأنه تطلب منه جرأة لن يقدم عليها الآن.
وإن كان من السهل تمييز أفلام المخرج (ويس آندرسن) بألوانه والسيمترية التي يعتز بها، فألوان (كار واي) لا تقل تميزاً عنها. مزيج الألوان الزاهية المدهشة الذي يفاجئك بعد النصف ساعة الأولى من فيلم (سعداء معًا) والتي ��وّرت بالأبيض والأسود، يؤكد على قدرته على تقديم عمل فني متميز بعيداً عن ألوانه وأجواءه المعتادة.

الموسيقى
إضافة إلى عامل المكان، فإن (كار واي) يهوى تجميع الأغاني التي تنال إعجابه ثم يفكر بعدها في كيفية توظيفها في أفلامه. يفعل الشئ ذاته مع المقطوعات الموسيقى، ومقاطع الأوبرا. الأكثر من ذلك أنه يستخدم ذات الموسيقى أثناء التصوير ليخلق نفس حالة الفيلم بين الممثلين، بل وحتى مدير تصويره، مفسراً الأمر بأنه بذلك يوضح له السرعة التي يريد أن تتحرك بها الكاميرا.
ورغم تنوع الأغاني التي يختارها لأفلامه، لكنها يبدو أكثر ميلاً لموسيقى الجاز بصفة خاصة. في فيلم (قطار تشنج كينج السريع) تُشكل أغنية (حلم كاليفورنيا) بطلاً رئيسيًا لحكاية الثنائي (فاي) و (الشرطي 663) وإطاراً لا يقل أهمية عن شقته الصغيرة التي تذهب (فاي) لتنظيفها وتعيد بث الحياة فيها دون علمه، بعد أن حطمت صديقته السابقة قلبه ورحلت.

في فيلم (ليالي التوت الأزرق) اختار (كار واي) مطربة جاز لبطولة فيلمه. قد لا تكون البطولة المطلقة لـ (نورا جونز)، لكنها بطلة واحدة من الحكايات الثلاث، والخيط الذي ربط الحكايتين الأخرتين.
أما المرات النادرة التي استعان فيها بمؤلف موسيقى فكانت مقطوعات سبق وسمعها بأفلامٍ أخرى، فاختار  مقطوعة ألفها (شيجيرو إمبياشي) لفيلمٍ آخر وأعاد تقديمها هو في عددٍ من أفلامه.

السرد
إذا استثنينا تلك الأفلام الخاصة التي تعنى بحكاية واضحة وخط زمني واحد ذو أحداث معينة، فإن بقية أفلام (كار واي) تعنى بصورة أساسية بالأشخاص، لا حبكات تقليدية، لا بدايات واضحة، ولا نهايات محددة. ولأن كل حكاية منها لا مساحة فيها لمعرفة الكثير عن شخصياته فإن الأفضل دومًا أن يقوم أبطاله بسرد الحكايات.

المخرج الصيني وونج كار واي

سهّل هذا السرد التقرب أكثر من أرواح أبطاله الهائمة، حتى أنه قدّم بطلاً أبكمًا في فيلم (الملائكة المتساقطة)، يسرد حكايته بحميمية وصدق مدهشين. لكنه عاد وقدّم في فيلم (في مزاجٍ للحب) حكاية واحدة طويلة بأقل قدر ممكن من الحوارات ودون حاجة الأبطال لقصّها، حتى أن أحد النقاد قال عن الفيلم “لم أكن أظن أبداً أنني يمكن أن أتأثر إلى هذا الحدّ بفيلم لا يتضمّن قصة”. كان بالفيلم قصة، لكن اعتماد (كار واي) على السرد بصريًا قد يطغى على ما في حكايته من أحداث.
وخروجًا عن المألوف والمتوقع منه تخلى (كار واي) عن تيمته السردية المعتادة، فكتب وأخرج فيلمين مختلفين تمامًا. في (رماد الزمن) قدّم فيلمًا تاريخيًا، وفي (المُعلّم الأكبر) حقق حلمه في إخراج فيلم عن الفنون القتالية الصينية التقليدية. فيلمين ابتعدا عن قصصه القصيرة وأبطاله التائهين، لكن لزما شاعريته وألوانه المبهرة.

العابرون
أكثر ما يميز حكايات (كار واي) المرئية هو شخصياته العابرة. تلك الشخصيات العادية بعلاقاتها المعقدة. صداقات عابرة تبدأ وتنتهي فجأة. علاقات حب استنزافية قاسية، وأخرى بائسة يائسة بلا أمل.
في أول أفلامه (أيام التوحش) تنشأ الصداقة تدريجيًا بين (سو لي) وضابط الشرطة الذي يعثر عليها ترتجف تحت منزل حبيبها السابق. في اليوم التالي تنتظره هي لتخبره أنها تريد الكلام. لا يمكنه أن يساعدها بشأن حبيبها، لكنهم يترافقان في التجول ليلاً والحكي. ينتظرها كل ليلة بجوار الهاتف العمومي، لكنها يومًا ما تذهب ولا تعود. هكذا تنتهي صداقتهما. لاحقًا يكمل (كار واي) ما بدأه وتتحول (سو لي) إلى السيدة (تشان) في فيلم (في مزاجٍ للحب).

وفي بداية فيلمه (قطار تشنج كينج السريع) يمر (الشرطي 223) بجوار امرأة غامضة بشعر أشقر مستعار، ويعود ويصادفها في أحد البارات ليلاً بعد أن تعهد لنفسه بأن يقع في حب أول امرأة تدخل البار. هكذا يلتقي أبطاله، وهكذا يقعون في الحب، وقد لا يكون هناك حاجة لمعرفة أسماءهم !
يمكن لأبطاله أن يكونا قاتل مأجور ومساعدته التي ترتب له عمليات القتل، وتنظف له مسكنه دون أن يصادف أحدهما الآخر، لكنها تقع في حبه. لم يلتقيا أو يتحادثا قط، لكن تحدّثا بالإشارات التي يتركها أحدهما للآخر، وعرف كلٌ منهما عن الآخر ما يكفي. وقد تنشأ صداقة بين جارين في غرفتي فندق يتبادلان رسائل طرفٍ ثالث عبر فجوة في الحائط. أو قصة حب بين نادل في مقهى في نيويورك وفتاة مكسورة القلب تقرر أن تجوب البلد لتجبر كسرها. أو حتى بين مسافر في قطارٍ خيالي بين المستقبل والماضي وآليّة تقوم على خدمته. لا يحتاج لمبررات أو توضيح. ولا تشعر معه بغرابة ما يقدمه أو لامنطقيته !

يقدم (كار واي) حكاياته وأبطاله بالطريقة الشاعرية التي يجيدها، ولأنه صاحب الحكايا ومخرجها وصاحب موسيقاها – وإن لم يؤلفها – تصبح كل عناصر فيلمه مكتملة بين يديه، فيخرج لنا صوراً وقصصًا لم نعتدها في السينما، والمؤكد أنها تخالف كل ما قد شاهدناه في سينما الصين التقليدية التاريخية أو القتالية. يجعله هذا واحداً من أهم مخرجي (آسيا) وأجدرهم بالمتابعة والمشاهدة والإستمتاع.

**

أفلام وونج كار واي:

As Tears Go By  (1988) – عندما تذرف الدموع
Days of Being Wild (1991) – أيام التوحش
Ashes of Time (1994) – رماد الزمن
Chungking Express (1994) – قطار تشنج كينج السريع
Fallen Angels (1995) – الملائكة المتساقطة
Happy Together (1997) – سعداء معًا
In the Mood for Love (2000) – في مزاجٍ للحب
2046 (2004)
(2007) My Blueberry Nights – ليالي التوت الأزرق
(2013) The Grandmaster – المُعلّم الأكبر


إعلان