العالم الغرائبي لكوريا الشمالية

محمد موسى

إذا صدّقنا ما تقول به التحقيقيات التلفزيونية الغربية عن الحياة في كوريا الشمالية (وليست هناك أسباب وجيهة تجعلنا نُشكِّك أو نُنكر الحقائق والخلاصات التي وصلت إليها تلك التحقيقات)، فإن البلد الآسيوي ذاك هو واحد من أكثر بلدان العالم غرابة، بل يُمكن أن يكون أكثرها شذوذاً وتطرُّفاً. ليس فقط لأن الحكومة الشيوعية هناك حوّلت البلد إلى سجن كبير، يكون الدخول أو الخروج منه يُعادل المُعجزة الصغيرة، بل تكاد كل تفصيلة للحياة فيه تخالف السائد والطبيعة الإنسانية السويّة. هذا رغم أن التحقيقيات والأفلام التسجيلية الغربية قد لمست سطح الحقائق فقط عندما تسنّى لبعضها دخول البلد، وهي الزيارات التي رافقتها دائماً إجراءات أمنية غاية في التشديد والصرامة.

لا يختلف الفيلم التسجيلي التلفزيوني “كوريا الشمالية الحقيقية”، والذي أنتجه البرنامج التحقيقي التلفزيوني البلجيكي “فرانكس” (يعرض على قناة كنفاس الحكومية البلجيكية ويعدّ المنصة الأهم لعرض الأفلام التسجيلية في القنوات التلفزيونية الناطقة بلغة الفلامنج في البلد)، عن التحقيقيات الشحيحة الأخرى عن البلد. فالحصول على تصاريح التصوير تستغرق عدة أشهر. والتصوير داخل كوريا الشمالية يخضع لرقابة دقيقة، كما سيرافق الفريق التلفزيوني الصغير عضوين أمنيين، يراقبان بعضهما إضافة لتسجيل حركات فريق التصوير البلجيكي، فالأمن الكوري لا يترك الكثير للصدف، لذلك تراه يأخذ احتياطات مشددة للتجسُّس على مواطنيه وبنفس الجديّة التي يراقب بها الزوار الأجانب للبلد.

تمرّ المراسلة التلفزيونية البلجيكية على إجراءات اليوم الأول من زيارتها لكوريا الشمالية. فتليفونها الدولي لا يعمل في البلد، الذي يمنع مواطنيه من الاتصّال بالعالم الخارجي، كما أن الإنترنت هو ترف مُتوفِّر للقلة من المخلصين للنظام هناك. وعندما يحاول الفريق التلفزيوني إقناع الحكومة الكورية الشمالية تفعيل إمكانية الاتصال الدولي، توافق هذه على مضض، لكنها تمنع في المقابل عنهم إمكانية الاتصال العادي داخل كوريا الشمالية.

أما برنامج الزيارة التسجيلية التلفزيونية البلجيكية فلقد تم إخضاعه لدراسة أمنية مُفصّلة، فلم يكن مُمكنا للفريق التجول أو التصوير دون إذن الفريق الأمني المرافق. كما أن هناك محطات معينة يجب أن يمرّ بها الفريق التلفزيوني شاء أم أبى، مثل النصب التذكاري للزعيم الراحل كيم جونج إيل، كما لم يكن مُمكناً إجراء لقاءات مع ناس عابرين في الشارع دون تحضيرات مُسبقة، والأخيرة لم تمرّ دون أخطاء من الفريق الأمني المرافق، الذي عاتب بشدة موظفة في مؤسسة رياضية لأنها ذكرت قيمة البطاقة الخاصة للدخول إلى تلك المؤسسة، وهو الأمر الذي يريد النظام إخفائه عن العالم الخارجي.

غني عن القول إنه كلما تعاظمت التعقيدات الأمنية أو تطرّفت طبيعة الصور التي رغبت الحكومة الكورية الشمالية في إبرازها، تتأكد غرابة الحياة في البلد المعزول. فالزيارة التي أعدّتها الحكومة لعائلة شابة، ستكشف بين السطور، أن هناك الكثير الذي تحاول الحكومة إخفائه عن العالم، فلم يكن ممكناً مثلاً تصوير السوبر ماركت أو السوق الشعبي الذي تتسوق فيه العائلة، ذلك أن الحديث عن الطعام يُعدّ من المحرمات في كوريا الشمالية، البلد الذي لازال يعاني من آثار مجاعة مدمِّرة، ضربته في منتصف التسعينات، ولم يصل منها للعالم الخارجي إلا القليل فقط. الزيارة تلك ستنتهي عندما تصِل المسؤولة الأمنية للبناية التي تعيش فيها العائلة (هناك مسؤول أمني في كل بناية سكنية هناك).

ولعل أكثر دقائق الفيلم التلفزيوني كشفاً، تلك التي تصوِّر زيارة الفريق البلجيكي للمناطق الريفية، إذ صورت الكاميرات سرا الحياة الفقيرة للغاية هناك، والتي تُعتبر أيضاً من المُحرمات التي يجب ألا تصِل للعالم، فالصور هناك تختلف جذرياً عن الشوارع الفارهة التي يريد النظام هناك أن يُكرِّسها كصورة عامة للبلد الشيوعي، وتختلف  تماماً عن المستشفى الفخم، والذي كان فارغاً وقت زيارة الفيلم التسجيلي، ولا يُعرَف هوية زبائنه. لا تختلف صورة الكوريين الشماليين الذين يعيشون في الأرياف، كثيراً عما نراه في صور المجاعات والكوراث الكبيرة التي كانت تحدث في القرن الماضي، وتختزل تلك الصور ما يجري في البلد الذي يتصدر الأخبار غالباً بسبب غرابة سلوك حكامه، وليس لفداحة الأزمات التي يعيشها القسم الأكبر من سكانه.

في الغالب، يكون المعيار النقدي للأفلام التي تصوَّر في ظروف بالغة الصعوبة، هو مدى تمكنها من كشف تفاصيل جديدة عن الأمكنة التي تصور فيها واقترابها من حياة الناس العاديين هناك، وتمكن صانعيها من الإحاطة بما يجري حولهم، إذ يتحول هؤلاء إلى الشهود الوحيدين لما يصادفهم، وتغدو شهاداتهم على نفس القدر من الأهمية، للمواد الفيلمية التي يصوروها هناك. تقود الصحفية التي تقف وراء فيلم “كوريا الشمالية الحقيقية”،، المشاهدين صوتياً عبر زمن الفيلم، راوية تجربتها، وكاشفة عن انطباعاتها عندما كانت هناك، وكيف كانت تشعر أن ما تراه أحياناً هو في معظمه مسرحيات أُعِدت للإعلام الأجنبي.


إعلان