“واترلو: المعركة الأخيرة”
قيس قاسم
يستعيد الفرنسي “هوغ لانو” الذكرى المئتين لمعركة واترلو الشهيرة بعمل ملحمي تاريخي أساس متنه الحكائي رسائل شخصية كتبها جنود شاركوا فيها، أما وقائعها الدرامية فأراد تجسيدها تمثيلاً، ليُحقِّق تزاوجاً أسلوبياً بين الوثائقي والروائي، يوفِّر لنفسه وعبره مساحة كافية لعرض رؤياه لحدث غيَّر كثيراً في أوروبا وأعاد رسم خارطتها الجغرافية والسياسية وحفّز مفكريها على إعادة النظر في تاريخها وقراءته من منظور مختلف، على أساس نتائج معركة وضعت خاتمتها القارة أمام استحقاقات جديدة أُعيدت صياغتها بلغة ما بعد “انهيار إمبراطورية نابليون”.
بدوره أراد “واترلو: المعركة الأخيرة” WATERLOO عصرنة الحدث سينمائياً ومنحه بُعداً واقعياً وللمشاركين فيه لحماً ودماً، فيصبحون، وبعد قرنين من الزمان، رواة معركة قلما تجسدت في شريط وثائقي يقترب في قوة شغله من أفلام روائية ملحمية سبق وأن تناولت تلك العلامة التاريخية.
الاستثمار الأمثل لتقنيات الحاسوب واحدة من مميزات الوثائقي الفرنسي البلجيكي المشترك، وبها تمكن من وضع مخطط افتراضي قارب فيه الوقائع التاريخية وجسّد بالرسوم المتحركة والتوضيحية تفاصيل تحرُّك الجيوش على الخرائط الإلكترونية، كما ساعدت على عرض أدوار نابليون وقادة التحالف المضاد له في المعركة، وشرح أساليبهم الحربية وخبراتهم العسكرية وقدراتهم على وضع الخطط وتغييرها حسب ما تُمليه نتائج العمليات الحربية على الأرض.
أما دور المؤرخين والمحللين المختصين بالحروب الأوروبية فسيكون مكملاً للجهد التقني ويشغل حيزاً من عمل أُريد به الخروج باستنتاجات وخلاصات لها صلة بموروثاته الثقافية.
فـ “واترلو” وحسب قراءة هوغ، أسست لنوع من القيَّم العسكرية والسياسية قبلت التطبيق في مراحل تاريخية لاحقة من بينها؛ فعالية “التحالفات المشتركة” ضد خصم واحد. وعلى المستوى البشري فالمعركة في النهاية وبغض النظر عن نتائجها، هي تجسيد ساطع لهمجية الإنسان وقسوته، والرسائل التي كتبها الجنود لأهلهم وأحبتهم تبيَّن مقدار الألم الذي كانوا يعانون منه.
اتبّع الوثائقي أسلوب السرد التاريخي الذي وزعّه على مسارين: الأول حاول فيه الإحاطة بشخصية نابليون وخصمه الإنكليزي الدوق “ويلنغتون” بوصفهما القائدان العسكريان اللذان سيحسمان المعركة على الأرض، أما المسار الثاني فأريد له أن يكون سرداً مكثفّاً لتفاصيل المعركة خلال أسبوع واحد تقريباً، وزعّها على خمس وقفات وخاتمة، الأولى ابتدأها بـ”المنفى الأول”.
في هذا الفصل يرسم الوثائقي حالة فرنسا عام 1814، أي قبل عام على معركة واترلو، حيث بدت خائرة القوى، وقد خسرت بسبب حروب نابليون في أوروبا وهوسه بالسيطرة والمجد، أكثر من مليون إنسان. المراجعون التاريخيون يصفون في تقييماتهم؛ نابليون كرجل لا يعرف التراجع. يصرّ على بلوغ الأهداف التي يضعها لنفسه، ما خلق له على الدوام أعداءً كثر في أوروبا، وعجّل في تشكيل تحالفات عسكرية مضادة له تسببت في خساراته، وأدت بدورها إلى بروز صراعات داخلية على السلطة انتهت بنفيه إلى جزيرة “ألبا” القريبة من السواحل الإيطالية، وإبعاد الملك لويس الثامن عشر عن الحكم لمدة مئة يوم عاد بعدها مع عودة نابليون من منفاه، ووصوله على رأس قوة من الجيش إلى باريس عام 1815، أثارت معها مخاوف خصومه الذين راحوا يتقاربون فيما بينهم ليشكِّلوا حلفاً قوياً ضده، ضم الإنكليز والبروسيين والهولنديين وغيرهم من الأوروبيين.
على الطرف الثاني يقدم الخبراء التاريخيين نبذة عن القائد الإنكليزي “ويلنغتون” وميله إلى الانطواء والحذر وبروده القاتل على عكس نابليون الانفعالي. وعلى الجانب الآخر يترك للرسائل والجنود فرصة التعريف بأنفسهم والدوافع الشخصية التي قادتهم للمشاركة في الحرب. يبدو بؤس العامة جلياً مقابل الرغبة المطلقة عند ملوك أوروبا في انتزاع أكبر مساحة من البلدان الأخرى والاستحواذ على ثروات غيرهم.
كل ذلك كان مجسداً بالصورة وبشحصيات محددة الملامح تعرّفنا من خلالها على مرحلة مهمة من تاريخ أوروبا التي بدت في الوقفة الأولى شديدة التفكُّك ميالة لحل خلافاتها بالعنف، أما فرنسا فمعزولة ومحاصرة من الشمال بالإنكليز والبروسيين ومن الشرق بالروس والنمساويين وبالبرتغاليين والإسبان من الجنوب. ستُشكِّل المعركة البلجيكية الخطوة الثانية نحو هزيمة نابليون، لأنه اختار هضبة “واترلو” كساحة لمعركته، يهاجم منها خصومه ويفتت بضربة خاطفة وحدتهم.
سيضيف المؤرخون والتخطيطات والرسومات التوضيحية حقائق يمكن عليها بناء تصور واضح لطبيعة نابليون وغطرسته مقابل وجود قادة لا يقّلون دهاءً ومعرفة عسكرية عنه وهذا ما تجاهله وقلّل من قيمته فأصابه غروره بمقتل. ثمة عوامل اجتمعت دفعة واحدة وأدت إلى هزيمة نابليون من بينها ضعفه الجسدي والذهني، فقد كشف الوثائقي عن إصابته بمرض سرطان المعدة وهذا ما يفسر تعبه وضعف تركيزه، كما أن المطر والبرد قد أنهكا قواته وأضعف معنوياتهم، وتكشف الرسائل الدوافع الحقيقية لتطوع الجنود ورغبتهم في ترك ساحة الحرب ندماً.
كان الفقر والجوع من بين الأسباب القوية التي دفعت الرجال إلى الحرب لا دفاعاً عن مجد فرنسا، فيما ظلّت شخصية القائد القوي مصدر إلهام لهم، على الأقل في ساعات المواجهة الحاسمة. علاقة الجيش بقائدهم وعلاقتهم بالمجتمع تتسرّب تفاصيلها من الرسائل ومن الحوارات المبنيّة عليها، والمفارقة النابعة منها؛ إن حالة الجنود النفسية والمعنوية في “التحالف” ليست أفضل من الفرنسيين رغم تفوقهم العددي وتموضعهم في مواقع أفضل تحصيناً وأقل عرضة لقسوة الطقس.
يدخل الزمن كعنصر حاسم في تحديد معنويات الجيوش ويكشف نهب الجنود الفرنسيين لبيوت الفلاحين البلجيكيين والهولنديين، خلال فترة الانتظار الطويلة لانطلاق إشارة بدء الحرب، عن سلوك مشترك لكل الجيوش الغازية ومؤشِّر على تفككها المعنوي، وهذا ما أدركه التحالف المعادي لنابليون، فأطال مدة انتظارها في العراء معوِّلاً على نفاذ صبرها لتتقدم نحوه باندفاع يائس، وهذا ما حصل بالفعل.
على المستوى الفني والجمالي يُعدّ تصوير مشاهد “واترلو: المعركة الأخيرة” وتصميم معاركها والتحام الجيوش فيها، إنجازاً يُحسب لوثائقي أبعد اللغو جانباً وراهن على الصورة وتعبيراتها القوية فحشد لها آلاف الممثلين “الكومبارس” وصمّم أمكنة مقاربة للموجودة في الواقع ومنها خرجت مشاهد رائعة جسّدت أهوال الحرب، وكان أشدها وقعاً على النفس تلك المشاهد التي صورت المراكز الطبية حيث كانت تجري فيها عمليات بتر الأجزاء المصابة على نطاق واسع لعدم توفر أدوية كافية توقف حالات تقيّح الجروح وتفسخ الأنسجة التالفة.
رسائل الجنود تفضح مخاوفهم من الوصول إلى ذلك المكان مفضلين الموت عليه، لأنهم كانوا في دواخلهم يخشون العجز وبالتالي العيش بذل ومهانة كشحاذين أو عاطلين عن العمل ما بعد الحرب. أما الموت فكان يحصد الأرواح كما يحلو له لأن ساحة معركة واترلو كانت ضيقة لا تتعدى بضعة كيلومترات التحم وسطها مئات الآلاف من الجنود وطوقّتها المدافع من كل الجهات، وحسب إحدى الرسائل التي كتبها جندي فرنسي “كانت الأجساد تتمزق والدماء تسيل دون توقف وكانت المسافة الفاصلة بيننا وبين الموت لا تتعدى الأمتار القليلة”.
حصيلة واترلو ثقيلة فعدا هزيمة نابليون ونهاية أسطورته، قُتل فيها أكثر من عشرة آلاف جندي وجُرح خلالها قرابة ثلاثين ألف إنسان وماتت آلاف الخيول في أيام قليل، ومع هذا فإن وقفة تأملية يقترحها الوثائقي لما بعد الهزيمة تدعو إلى التفكير بل وإلى الاستغراب، فالذاكرة الجمعية الفرنسية وحتى الأوروبية، كما يتوصل الوثائقي، تحتفظ حتى اليوم بنابليون، كقائد تاريخي وتكن له الإعجاب والإحترام الكبيريّن! فيما قلة من الناس يتذكرون القائد الذي دحره: “ويلنغتون”، على غير عادة التاريخ الذي يكتبه المنتصرون!
ثمة تعاطف عام مصدره الإحساس الرومانسي الطاغي عند الناس حين يصل أبطالهم إلى نهاياتهم التراجيدية كما في مسرحيات شكسبير، فهناك وعلى الدوام تعاطف مع القائد المهزوم وتجاهل “متعمد” لأفعاله وجرائمه، وبهذا المعنى فمنجز “هوغ لانو” يقدم نظرة أبعد من السائدة عن نابليون ودوره التاريخي، وما يعرضه من رسائل قديمة يثير بدوره الدهشة ويعيد التذكير بقوة الأعمال التسجيلية وقدرتها على استحضار التاريخ بأسلوبها الخاص المشوق. ما كُتب وقيل عن المعركة كثير لكن مشاهدة شريط “واترلو: المعركة الأخيرة” لها طعم مختلف لأن صانعه لم يكتفِ بوصف الوقائع بل أراد تشريح المعركة تاريخياً بمِبضَع السينمائي الحاذق، لهذا جاء صنيعه مقنعاً وشديد الجمال.