أمير العمري
كان الحصان الأسود في قسم “نظرة ما” بمهرجان كان السينمائي هذا العام، الفيلم الإثيوبي “المعزة” LAMB للمخرج الشاب ياريد زليكي. هذا أحد الأعمال السينمائية النادرة التي تأتي من ذلك البلد، خاصة من مخرج يُمثِّل جيلا جديدا من السينمائيين الدارسين الذين يسيرون على نهج المعلم الكبير هايلا جيريما، الذي يعدّ “الأب الروحي” للسينمائيين الإثيوبيين. درس ياريد الإخراج وكتابة السيناريو في جامعة نيويورك، وكتب وأخرج وأنتج عددا من الأفلام القصيرة والتسجيلية، كما عمل مساعدا للمخرج جوشوا ليتل في فيلمه التسجيلي “القوة الغاضبة للشعر”.
فيلم “المعزة” يدور في الريف الإثيوبي، حيث تنتقل الصور بين تدرّجات الطبيعة، من الجفاف إلى الخضرة، ومن الفقر إلى الأسواق التي تمتليء بالأشقياء واللصوص والمرابين الذين يستغلون ظروف من في حاجة إلى المال، من عالم الأطفال إلى عالم الكبار، من المرأة المغلوبة على أمرها، إلى الرجل الذي يمارس القهر عليها وعلى الطفل الذي ساقته الظروف القاسية للوقوع بين أيدي من لا يرى منه نفعا، بل تراه يضيف عبئا جديدا إلى تلك الأسرة التي تعيش على الستر.
بطل الفيلم “افرايم”، هو صبي في التاسعة من عمره، وهو يُجسِّد دورا غير تقليدي للصبي التقليدي في أفلام العالم الثالث، فهو أبعد ما يكون عن التماثل مع صورة الرجل، المغوار، العنيف، بل هو أقرب إلى الضعف الذي يُنسَب عادة إلى الفتاة / المرأة. وقد وجد نفسه مرغما على الانتقال، من العيش في كنف والده بعد وفاة أمه متأثرة بالجفاف والمجاعة في منطقة فقيرة قاحلة من الريف الإثيوبي، إلى منطقة أخرى لكي يعيش فيها مع عمه وزوجته وابنته ومعهم تعيش الجدة العجوز أيضا. لكنه يصطحب معه عنزته التي تربطه بها علاقة صداقة وثيقة، ويطلق عليها “شوني”، فالمنطقة التي تعيش فيها أسرة العم خضراء تتمتع بوفرة الماء، ومع ذلك تبدو الحياة فيها خالية من المعنى، ويعاني العم من البطالة أيضا.
افرايم يقيم علاقة صداقة مع ابنة العم “تسيون” التي تبدو هي الأخرى متمردة على ما ترغب أسرتها أن تفرضه عليها، فهي ترفض الزواج وتستغرق يوميا في قراءة الصحف والمجلات والإطلّاع على ما يجري في العالم. لا يرضى افرايم بتلك المعاملة الشرسة التي يلقاها من العم “سولومون”، الذي يريد أن “يجعل منه رجلا” طبقا لمفهومه الخاص للرجولة، أي أن يجعله خشنا، صلبا، يتشبّه بسلوكيات الرجال، بينما يميل الصبي بفطرته إلى البقاء في المنزل بقرب النساء، يمارس هوايته في طهي الأطعمة الشهية. وهو يرغب في ادّخار مبلغ من المال يكفي لتدبير ثمن تذكرة الحافلة لكي يعود إلى بلدته، فيقوم بيع بعض الأطعمة التي يصنعها في سوق البلدة، ويدخر مبلغا من المال لكن اللصوص من الأولاد الأشقياء يستولون عليه بعد أن يوسعونه ضربا.
سولومون، الذي سئم المعزة “شوني” التي تستهلك دون أن تأتي للأسرة بفائدة ملموسة، يعلن أنه يعتزم ذبحها في العيد توفيرا للنفقات. ويبحث افرايم بالتعاون مع تسيون عن وسيلة لإنقاذها، ولكن يتعين على افرايم الحصول على المال لتقديمه لمن يتولى رعايتها، فيصنع بعض المأكولات التي يبيعها في السوق لتدبير ما يكفي من المال يعطيه لمن يعهد إليهم بالإشراف على رعاية شوني.
يتسبّب تصرفه هذا في أن ينال مزيدا من العقاب من جانب سولومون، رغم تعاطف النساء في البيت. وينتهي الأمر بأن تنتقل شوني إلى رعاية راعية ماشية شابة، حيث تندمج مع باقي الحيوانات التي ترعاها، لدرجة أن شوني ترفض العودة مع صديقها القديم افرايم عندما يريد أن يصطحبها معه أخيرا في رحلة العودة بنهاية الفيلم.
سياق فني
يقدم الفيلم قصة بسيطة، إنسانية، مصاغة في سياق جذاب، ولكن من خلال ثنايا القصة يلقي الكاتب- المخرج، بعدد من الإسقاطات السياسية والاجتماعية التي تشير إلى مسؤولية السلطات عن إهمال سكان الريف وانتشار البطالة فيما بينهم، وبقاء السكان في تلك المناطق خاضعين لقيم إقطاعية متخلفة، ويبرز شخصية الطفل وابنة عمه “تسيون” باعتبارهما نموذجين لجيل جديد يبحث عن التحقق، متخلصا من تقاليد الماضي العتيقة المهيمنة. غير أن ما يميز الفيلم أنه يتخلص من المباشرة والوعظ السياسي ويلجأ إلى الشعر في نسج ملامح العلاقة بين افرايم وباقي الحيوانات والدواجن في المنطقة.. إننا نرى أولا كيف يراقب الفروخ الصغيرة وهي تختبيء تحت جناح الدجاجة، وكيف ينجح في عمل “كمين” للدجاجة لكي يذهب لبيعها في السوق، ونشاهد علاقته الوثيقة بالمعزة “شوني”، كيف تتبعه أينما ذهب، وكيف تستجيب لندائه، وكيف تتناول الطعام من يده، وتستسلم لمداعباته كأنما هذه العلاقة ترمز إلى الحب والحنان اللذين افتقدهما في أمه الراحلة ووالده الذي يغادر في بداية الفيلم إلى أديس أبابا للبحث عن عمل.
الصورة السينمائية هنا خلابة، مؤثرة، بفضل مدير التصوير الكندي- الفرنسي جوسي داشايس الذي يوفق في فهم طبيعة المنطقة التي أدار فيها التصوير، كما يبرع في اختيار الزوايا وأحجام اللقطات (مركزا على اللقطات القريبة والعامة) مقتصدا في حركة الكاميرا، من دون أن يفقد السيطرة على اتساع المجال بل يحرض على المحافظة على كل تفاصيل المكان التي تثري الصورة، خاصة مع كل ذلك الجمال الطبيعي النادر. ويستخدم المخرج شريطا صوتيا بليغا مليئا بالموسيقى والأغاني الشعبية التي تتحدث عن الحنين.
جدير بالذكر أن أن كاتبة السيناريو الفرنسية جيرالدين باجار اشتركت مع ياريد زليكي في كتابة سيناريو الفيلم، وأنتج الفيلم بالتعاون بين شركات من فرنسا وألمانيا والنرويج، لكنه يظل أساسا، فيلما إثيوبيا قدمت المساهمة الأكبر في تمويله وإنتاجه شركة إثيوبية تأسست منذ عامين لدعم التجارب السينمائية الأولى للمخرجين الشباب في إثيوبيا.