“ريم وأخواتها”: انحياز أنثوي في زمن القهر

قيس قاسم

أغلب أعمال المخرجة اللبنانية ليلى عساف ـ تينغروث، تدور حول المرأة، ما يحمل في طياته دلالات اهتمام بل وحتى انحيازات أنثوية تجلت بوضوح في أولى تجاربها الروائية؛ “عصبة الحرية” 1994، ثم ظل ملازماً لمنجزها الوثائقي اللاحق كما لاحظنا في  “دور رئيسي” 2002،  “ليس كأختي” 2008 ، “جزيرة النساء”2013، وفي هذا العام “ليلى وأخواتها”. وتلازماً مع أصولها العربية أولت ثيمة المرأة العربية اهتماماً لافتاً في وثائقياتها وتكاد “ريم” السورية تأخذ القسط الأكبر من شغلها لأسباب كثيرة، بينها؛ طبيعة العلاقة الإنسانية التي ربطتها بها منذ أن التقتها طفلة في شوارع بيروت قبل عشرين عاماً. عن هذه العلاقة قالت في إحدى المقابلات الصحفية معها، أنها وجدت في الطفلة “ريم” معناً للحرية بل ربما هي تجسيداً لها، وهذا ما شجعها على ترشيحها لأداء الدور الرئيسي في فيلمها “عصبة الحرية” الذي يدور حول أطفال الشوارع في لبنان أواسط التسعينيات. لقد وجدت فيها العفوية والشطارة وتجسيداً لبؤس المهاجرين من سوريا إلى لبنان. من يومها لم تنقطع العلاقة بين المخرجة وممثلتها الموهوبة رغم انحراف مسار حياة “ريم” السريع من التمثيل إلى ربة بيت تزوجت في الثالثة عشر من عمرها وفي سن العشرين أصبحت أُماً لثلاثة أطفال.

من خلال “ريم” دخلت ليلى عساف إلى عائلة كركتلي في قرية “تلكلخ” السورية، وتابعت مسار تحولاتها عبر ملاصقة زمنية طويلة تداخلت فيها الصداقة والسينما. حافظت عساف خلالها على تلك الإزدواجية ولم تفرط بها وظهر هذا بتعمد منها في فيلميها “ليس كأختي” و”ريم وأخواتها” حين أصرت على سرد تفاصيل حياة نسائها، بصوتها، والحرص على إظهار درجة الترابط الشخصي بينها وبينهن عبر حوارتها المباشرة معهن، ومن هنا جاءت الحميمية النادرة في العملين اللذين يكمل بعضهما الآخر.
مع أن الفيلمين متصلين لكن ثمة فرق في روحيهما؛ فالأول طغت عليه الحيوية ونهايته متفائلة تبشر بمستقبل أفضل أو لنقل أكثر تفاؤلاً، انطلق في مساره من تجربة أخت ريم الأصغر داليدا ورفضها الزواج من ابن عمها وإصرارها على الاقتران بشاب مسيحي لبناني عاشت معه قصة حب وحياة عائلية طيبة، في خروج غير مألوف عن عادات العوائل السورية المهاجرة إلى لبنان.

كان التركيز وقتها منصباً على تجربتي ريم وداليدا فيما كانت أدوار بقية العائلة المكونة بمجموعها من 8 بنات وولدين إلى جانب الأم والأب، ثانوية، يظهر بعضهم عند الحاجة في مقاطع ثم يختفون في أخرى، تماماً مثل الحياة نفسها التي يظهر الناس على مسرحها مرات ثم يتوارون دون أن يجلبوا انتباهاً لانسحابهم. كانت المقارنة حينها تكفي لكشف عيوب العادات والتقاليد وصعوبة الحياة في لبنان بالنسبة لكُثر من السوريين المقيمين في قرى قريبة من الحدود اللبنانية.  فـ”تلكلخ” لا تفصلها عن مدينة طرابلس اللبنانية سوى خمسين كيلو متراً. مسافة لقصرها أغوت على الدوام السوريين الطامحين بحياة أفضل في الجانب الآخر من الحدود لعبورها. هاجر والد ريم إلى لبنان وعمل بأجر يومي بسيط، ولفقره سكن في بيوت بائسة وعاش أطفاله معه في فقر مدقع.

هكذا كانت حياة العائلة وأقاربهم وهذا ما دفعهم إلى الزواج فيما بينهم والتواصل أيضاً، إلا داليدا، فهي الوحيدة التي اختارت حياتها بنفسها في حين خضعت ريم لرغبة عائلتها فتزوجت وقبلت بقسمتها. بعد سنوات على إنتاج فيلم “ليس كأختي” نشبت الحرب السورية وعادت قصة ريم وأهلها ثانية تلحّ على ليلى عساف لأنها كانت تسمع عنهم نتفاً قليلة من أخبار عرفت من خلالها أن أفراداً من العائلة قد رجع إلى سوريا وعاش فيها فيما ظل الأب هناك بصحبة زوجته، أما كيف صارت أحوالهم بالضبط  بعد الحرب الطاحنة، فهذا ما دفعها لحمل كاميرتها ومصاحبة فريق عملها إلى قرية عكروم اللبنانية.
 أرادت صاحبة الوثائقي معرفة مصائر الصبايا وفق التغير السياسي الجديد وارتباطه بالقيّم والعادات القديمة ليأتي فيلمها مختلفاً عن الأول من حيث المضمون، لأن أسلوبة وبناءه الدرامي ظلّ معتمداً على الأصل (الخامة) التي احتفظت بها ونفعتها كثيراً في تعريف مشاهدها بالجزء السابق من حكاية “ريم وأخواتها”.

تضفي الحرب قتامة على حياة العائلة التي تجسد تفاصيل حيوات بناتها ومصائرهن حالة التمزق الاجتماعي والسياسي السوري والذي لم يظهر في “ليس كأختي” بهذا الوضوح والحدة اللتان يظهران فيها في الشريط الأخير. الهم العام غلب على الشخصي، وآلام الحرب طغت على سواها من آلام مبرحة ما تركت ريم وأخواتها يوماً. اليوم يشعرون بوحشة أشد  بعد تركهم ضيعتهم وبيتهم في الطرف الثاني من الحدود، رغم أنهم قد جربوا الغربة من قبل. كانت الهجرة وقتها خياراً أما اليوم فهم مجبرون عليها. لقد احترقت بيوتهم بسبب الصراع الطائفي الذي يُلمحون إليه بتحفظ فيما الإعلان عن صراعهم السياسي مع السلطة يأتي غالباً بنبرة أشد علواً.
الحنين إلى أيام القرية الجميلة ولحظات الصفاء التي عاشوها فيها تذكرهم بها بإلحاح حالتهم البائسة وإقامتهم في مخازن مهجورة أو شقق استأجرتها لهم  بعض المنظمات الإنسانية العالمية من أهلها، الذين ضاقوا بوجودهم بينهم فقرروا تركها.

ستواجه عائلة ريم نوعاً من التمييز، لم ينتبهوا إلى وجوده من قبل، سببه الصراع السياسي المحتدم داخل طرابلس اللبنانية إضافة إلى قلة حيلتهم المادية ومعاملة الآخرين لهم كشحاذين يعتاشون على موائدهم. خلافات الأخوات المتزوجات مع أزواجهن في تصاعد فالغربة والحرب تتركان آثاراً سيئة في نفوس الرجال العاطلين عن العمل وتفرز نفوسهم المثقلة بالهموم والإهانات سمومها على الزوجات المهانات والأطفال المهملين.
مصائر حزينة وحياة بائسة لم يقررن شكلها ولم يرغبن يوماً في عيشها لهذا تظل الحسرة على المكان الأول هي المُنجي الوحيد فيما تكشف خامات تصوير تلك الفترة عن بؤس لكنه أقل إيلاماً من ويلات الحرب التي حصدت حياة أقارب وأحبّه، والتهمت نارها بيوت كانت تؤيهم يوماً بدلاً من جدران مهترئة ومخازن لا تصلح للعيش الآدمي تزدحم أجسادهم داخلها، وفوق كل هذا أزواج لا يترددون عن ضربهن وإهانتهن والتضييق على تحركاتهن ليحولوا حياتهن إلى سجن في بلاد غريبة.

صورة مؤلمة لريم وأخواتها والبوح بأسرارهن إلى عساف وكاميرتها تفطر القلب. “البوح” ربما سيكون أهم تميّز لشغل ليلى عساف بل هو منقذه فبدونه لا يتعدى فيلمها أن يكون تسجيلاً لمقاطع في حياة شابات سوريات ليس فيهن استثناءً ما يدفع صانع الوثائقي للتوجه إليهن واتخاذهن شخصيات مركزية له.
 قُدرة الفتيات على الوقوف أمام الكاميرا يكشف عن موهبة كامنة في داخلهن، اكتشفتها المخرجة اللبنانية حالما وقعت عيناها على أختهم الكبيرة ريم في شوارع بيروت. هذه الخصلة الكامنة فيهن جعلت من شريط “ريم وأخواتها” عملاً مؤثراً وأعطته آنيته المتزامنة مع الحرب السورية قيمة استثنائية بينَّت الصراعات الطائفية التي تمرّ بها البلاد والاحتدام السياسي الذي أفرز صراعاً مسلحاً شدّد العداوات وعزّز روح الانتقام والخوف من الآخر وهذا ما عَقد حياة السوريين، والمجسم المصغر لها، هذه المرة، العائلة المهاجرة التي بدأت تتمزق فتعكس بدورها التمزق العام للبلاد.
 فالأب وسط هذا الخراب يبدو لا مبالياً اختار متعه الشخصية بديلاً يهرب عبره من بؤسه وبؤس حيوات بناته، وعلاقته المتحللة مع زوجته تعلن افتراقاً روحياً وجسدياً.

في واحدة من المشاهد المؤثرة تترك عساف فيه كاميرتها مفتوحة لتسجل حواراً مؤلماً بين الزوجة المخلصة والأم الشجاعة المكابرة، التي ما تركت بناتها يوماً رغم ضعفها، وبين زوجها، يُلَخص وحده حدة التناقض في رؤية الواقع المعاش ودرجة تحمل مسؤولية كل واحد منهم لمواجهته.
سيبدو الانحياز واضحا لأنثوية مطعونة وتفهما إلى حد ما لذكورية مجتمع تغذيه العادات والحروب وقسوة الحياة. الغريب أن الضحكة لم تفارق ريم يوماً وحتى أخواتها بقين محتفظات بروح متسامحة ينتظرن اللحظة التي تأتي لتفرج عن كوامن طيبة تحب الحياة وتبغض الحرب تتلخص، في لحظة الصفاء النادرة، بعبارات وأمنيات بالعودة يوماً والجلوس بفرح في باحة البيت القديم وتحت ظل أشجاره الوافرة الظلال.

كم تمنيّن لو عاد الزمن عشرين عاماً إلى الوراء لاخترن وقتها الشباب، الذين وقعوا في حبهن أيام المراهقة، أزواجا،ً ولصمّمن على الذهاب إلى المدارس حتى إكمال دراستهن ولرفضن بعناد الهجرة. 
أما إذا استعصى حصول كل ذلك، وهو ما حدث فالزمن لن يعود إلى الوراء،  “فعلى الأقل المضي في عيش الحياة على تعاستها والاستمرار في إنجاب الأطفال للتعويض عما خسرته البلاد من بشر”. أمنية قالتها واحدة من الأخوات بعفوية  تجمدت إثرها كل الشفاه وتوقفت الكاميرا عن تسجيلها لقوة الألم الكامن فيها!


إعلان