في مدرسة اللاجئين السويسرية

محمد موسى

لعام كامل، رافقت المُخرجة “آنا تومان” صفاً للاجئين في مدرسة خاصة في مدينة بازل السويسرية، لتُقدِّم بعدها خلاصة تلك التجربة في الفيلم التسجيلي “البلاد الجديدة”. من بين طلاب الصف، من قطع وحده رحلة اللجوء الخطرة من البلد الأُمّ إلى الدولة الأوروبية، فيما رافق الآخرون أهلهم في رحلات شاقة طويلة. يشترك الطلاب في مدة إقامتهم القصيرة في سويسرا التي لا تتعدّى العام الواحد أو العامين، كما لا تزيد أعمارهم عن الخامسة عشر، ليكون العام الذي وثقّه الفيلم التسجيلي مفصلياً في حياة هؤلاء، فعليهم في نهايته أن يختاروا بين مُواصلة التعليم، أو الاتجاه إلى سوق العمل. أي يتوجب عليهم أن يُقرِّروا مُجدداً وجهة حياتهم في بلد مازلوا يجهلون عنه الكثير، ولا يجيدوا لغته.

تسعى كاميرا المُخرجة السويسرية أن تبقى في الخلفية طوال فترة مُرافقتها لشخصياتها، لتسجِّل دون أن تلفت انتباهاً كبيراً تفاصيل الحياة اليومية لصف الطلاب الأجانب. تبدو هذه المُقاربة واعية  بصعوبة تجربة المدرسة على الطلاب، وأن الحضور المُكثف للكاميرا وفريق العمل من شأنه أن يزيد من إرباك حياتهم، المُشتّتة أصلاً. لذلك يبتعد الفيلم التسجيلي عن اللقاءات المباشرة مع الطلاب أو مدرسِّيهم على حد سواء، ويكتفي بتسجيل ما يحدث في الصف من تفاصيل، بعضها له علاقة بصعوبات التعليم واللغة، والبعض الآخر عن علاقة الطلاب بماضيهم العنيف، والذي يطلّ برأسه بين الفينة والأخرى في حياتهم الجديدة.

يُركِّز الفيلم على طالبين: أحدهما من أفغانستان. فتى اقترضت عائلته أموالاً ضخمة حتى يتمكّن من بلوغ سويسرا، وفتاة من أصول بوسنية، تركت صربيا حيث كانت تعيش بعد وفاة الأم، بحثاً عن حياة جديدة. سيمرّ الفيلم أيضاً على قصص طلاب آخرين، خاصة في مُقدمته، التي عرفت بطلاب الصف، أو أثناء تسجيله كتابتهم لخريطة حياتهم القصيرة على لوحة الصف في تمرين نفسي شائع، والتي بدت بعضها مليئة بالتفاصيل والمطبات وأحياناً الكوارث، رغم عمرهم القصير.

إلى جانب الطلاب، يحوُز معلم التلاميذ على اهتمام جيد، يبدأ ضئيلاً ليتصاعد تدريجياً مع تواصل زمن الفيلم. هو سويسري تجاوز منتصف عمره، يبدو للوهلة الأولى معلماً يفتقد الإلهام يؤدي وظيفته وحسب. خلال وقت الفيلم، يتكشف الجانب الإنساني الحساس في شخصية المعلم، وحرصه على طلابه. رغم أنه اعترف في حوار مع أحد زملائه بصعوبات ما يقوم به، وعجزه أحياناً عن العثور على حلول لمعضلات تلاميذه المُعقدة، التي لا تشبه ما اعتاد عليه. فهو يعجز عن مساعدة طالب مُهدّد بالطرد من البلد، لأن الأجهزة المختصّة رفضت منحه اللجوء، أو طالب آخر عاجز عن الدراسة في مركز اللجوء المُزدحم حيث يعيش.

يتنقل الفيلم بين شخصيتيه الرئيستين، واللتين توفِّران تنوعاً يحتاجه هذا النوع من السينما التسجيلية. فالفتاة البوسنية الأصل تمثل نساء أجنبيات ذكيات، يحتجن الوقت فقط لإيجاد طريقهن في البلدان الجديدة. فهي ستتغلب على مشاكل اللغة الجديدة الصعبة في فترة قياسية، وتعثر على العمل المناسب، وينتظرها على الأرجح مستقبلاً مشرقاً. أما الأفغاني فهو الآخر وجد حياته في سويسرا، إذ اتجّه إلى العمل في معمل صغير لسداد دين العائلة، وينتظره هو الآخر مُستقبلاً أميناً في سويسرا، بعد أن حصل على موافقة الحكومة للإقامة المُؤقتة وحتى البتّ النهائي في قرار لجوئه.

تختزل المخرجة فترة العام الذي رافقت فيه الطلاب إلى ساعة ونيف من اللحظات والمُعايشات المؤثرة في مجملها، وبالأخص تلك التي سجلت علاقة الطلاب بماضيهم العنيف في النصف الأول من الفيلم. فيما يبدو هذا الأخير في نصفه الثاني وكأنه تخلص من سطوة ذلك الماضي، وانشغل بتحديات الحاضر واستحقاقاته، وإن كان ه��ا الماضي لم يختفِ تماماً من المشهد، لكن تحول إلى ثقل غير مرئي، اختارت المخرجة ألا تُركز عليه كثيراً، وهي تسجل يوميات طلابها في نصف عامهم الأخير.

ينضم الفيلم إلى عشرات الأفلام التسجيلية والروائية التي قاربت قضية اللاجئين والمهاجرين في العقد الأخير. إذ هي اليوم من كل نوع وفئة. في المقابل يُعَّد هذا الفيلم إنجازاً لافتاً، بسبب طبيعة الموضوع الذي يقدمه، والفئة العمرية التي يركز عليها، إضافة إلى الفترة الطويلة التي قضتها المخرجة في تتبُّع مصائر شخصياتها. كل هذا إضافة إلى المستوى الفنيّ الجيد الذي غلب على الفيلم، جعل هذا الأخير يحظى باهتمام مهرجانات سينمائية عدة، إذ عُرض في أكثر من عشرة مهرجانات سينمائية أوروبية في الأشهر المنصرمة، منها مهرجان برلين السينمائي.


إعلان