“الآريون”.. انتحال المرجعيات!
قيس قاسم

سينمائياً.. موضوعات العنصرية والنازيّة حيوية وستظل حيوية ما دام هناك من يُروِّج لها ويؤمن بها، لتغدو ظاهرة آنية لافتة لابد من التصدِّي لها، لكن تظل زوايا النظر إليها مختلفة وأحياناً شديدة الاختلاف إلى درجة التفُّرد كما في شريط المخرجة الألمانية الغانية الأصل “مو أسومانغ” حين أخذت مصطلح “العرق الآري” الذي تعكّز عليه النازيون لتبرير نظريتهم الخاصة بـ”التفوق العرقي” وراحت تبحث عن جذور الكلمة في أدبيات النازيين والطرق التي وصلت بها إلى رؤوس العنصريين عبر “دراسة” أشرفت عليها بنفسها وأخضعتها للتحليل دون أن تُسقط منها الجانب الشخصاني، كونها من أصول مشتركة، بل تعمدّت وضعه في الواجهة، لتستفز به “خصومها” بطريقة فيها من الجرأة والشجاعة الكثير، ولا تخلو في نفس الوقت من السخرية والطرافة، وربما لكل هذه الأسباب وتوفرّها توصلت إلى حقائق مذهلة رفعت مستوى فيلمها “الآريون” The Aryans إلى مصاف الأفلام “الأكاديمية” التي تجمع بين الروح العلمية ورغبة التوصُّل إلى الحقيقة، وبين توفّر الكفاءة المهنية وامتلاك أدوات فن بصري شديد الحساسية لا يكتفي بذكاء الفكرة بل بطريقة توصيلها أيضاً.
لتوصيل فكرة فيلمها ولتضفي عليه مزيداً من الصدقية قدّمت الأطراف الفعالة في وجودها البشري، فجدّها لوالدتها كان ضابطاً في الجيش النازي الألماني وجدّتها موظفة وكاتبة في منظمة هتلر النازية “إس.إس” أما “يا أكوما” جدها من أبيها فأفريقي من غانا ومنه أخذت لون بشرتها الأسود.
كانت فخورة بازدواجية الدماء التي تجري في عروقها ولكن هناك من كان يعاملها كعدو لهذا قررت الذهاب إليهم وسؤالهم عن سبب موقفهم العدائي منها.

كان دافعها لمقابلة النازيين الجدد والعنصريين معرفة سبب الكراهية التي يضمرونها للناس المختلفين لوناً وقيماً معهم ولماذا يميلون إلى حل خلافاتهم معهم بالعنف بدلاً من الحوار. شجاعتها قادتها إلى مقابلة يمينيين متطرفين خرجوا في مظاهرة يطالبون بطرد المهاجرين الأجانب من ألمانيا. أسئلتها استفزت بعضهم وسخريتها دفعت بعضهم للخروج عن تماسكه وإعلان موقفه العدائي منها بسبب لون بشرتها ومن الآخرين المختلفين عنهم؛ غير “الآريين”.
مرجعية النازيين الجدد والأحزاب القومية الاشتراكية الأوربية كتب وكراسات النازيين أيام صعود مدّهم الجماهيري في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، وخلال بحثها عثرت على وثيقة تلزم المنتمين إلى الحزب النازي وقتها بالتوقيع على استمارة “إثبات النسب” والتي تعني أن على الراغب في الانضمام إليهم أن يكون أولاً آرياً خالصاً، ووجدت أيضاً تفسيراً للكلمة يقول؛ “أن الآري هو الألماني، الذي تسري في عروقه دماء نقية”.
تراجع تسجيلات ووثائق وخطب لقادة نازيين كلها تؤكد على تفوق العنصر الآري على بقية الأجناس وعلى ضرورة التخلُّص من الأخطار التي تهدد رقي عرقهم. لقد وضعوا مواصفات لعرقهم منها؛ بياض البشرة وزرقة العيون والقوة.
قيامها في زيارات كثيرة إلى نوادي خاصة لها صلة بفكرة التفوق العرقي ومقابلاتها لجمهور من العامة وضّح لها حقيقة رفض المؤيدين لتلك المباديء قبولها كألمانية بينهم لأن المواصفات “الآرية” لا تنطبق عليها، وخاصة الميل إلى العنف والعسكرة.
هذا الإحساس دفعها لتوسيع نطاق تحركها، فالحوار مع النازيين مباشرة لم يُؤتِ أُكله لهذا راحت تفتش عن شخصيات أخرى تميل إلى الابتعاد عن ساحات المواجهة لكنها تغذي أفكار العنصريين.
ستجد بينهم المغالي في تطرُّفه وقناعاته إلى درجة اقتنع بعضهم فيها بها بأن الجرماني أو الآراي ليس كائناً أرضياً بل جنس متفوق جاء من الفضاء بصحون طائرة ويتمتع بقدرات ذهنية تفوق البشر، وأن الكوكب الذي كانوا يعيشون عليه قد تخاصم وحارب بقية الكواكب ولهذا هم لا يؤيدون فكرة المساواة بين الأجناس. أفكار ضحكت منها وبكت في آن. وهي نفسها ستدفعها لتغيير مسار فيلمها في منتصفه لتجاور فيه مهمة البحث التحليلي مع مناقشة السبل الكفيلة بتخليصنا من الأفكار العنصرية والنازية، فهذه لم تكن ولم تعد مجرد قناعات نظرية بل تحولت إلى ممارسات مخيفة تسببت فيما مضى بنشوب حرب كونية، واليوم يتعرض المهاجرون وغيرهم إلى اعتداءات وتهديدات مستمرة، لهذا قررت اللجوء إلى الجامعة كخطوة أولية لحل معضلة شائكة لا زال الناس يجهلونها كما بيَّنت مقابلاتها.

المفاجأة الصاعقة جاءت من أستاذ التاريخ القديم في جامعة كليز البروفسور “جوزيف فيزينهوفر” الذي نسف كل ادعاءات النازيين حين أحال المصطلح إلى أصله اللغوي والذي استخدمه علماء اللغة في تحديد مجموعة اللغات المنتسبة إلى المنطقة الآرية وحدودها الجغرافية محصورة بين إيران والهند. وعليه فصفة “آري” تنطبق على الهنود والإيرانيين لا على الجرمانيين.
أما كيف وصل الى أوروبا فهذه كانت المفاجأة الثانية في شريط انتظر طويلاً حتى يصل إلى الذروة. لقد استعار عرّاب الأديب والكاتب العنصري الفرنسي “الكونت جوزيف أرثر دو غوبينو” هذا المصطلح اللغوي في أواسط القرن التاسع عشر وأسقطه على أفكاره العنصرية وقناعته القوية بتفوق أجناس بشرية على أخرى وأطلقها على مجموعة أوروبية لا تمت بصلة إلى الكلمة وأصلها.
فالألمان ما هم بآريين ولا علاقة لهم لا من بعيد ولا من قريب بهم، وأن كلمة آري استخدمها سكان تلك المناطق للدلالة على المكان. فالمملكة الإيرانية (حوالي 2500 سنة قبل الميلاد) تعني وفق المصطلح: المملكة التي تنتمي إلى الأراضي الآيرية.
يتعمق الوثائقي في بحثه لينفي كل صلة بين الآرية والنازية وأن كل البحوث الأثرية والتاريخية لم تثبت ولم تجد أي أثر يؤكد وجود مثل هذا الشعب أو العرق في ألمانيا أو في أوروبا كلها، وهذا ما سيدفع الوثائقي للذهاب إلى شمال إيران ومقابلة الآريين الأصليين ومعرفة طريقة تفكيرهم وهل هم عنصريون حقاً.
سألت “مو” في طريقها إلى المملكة الآرية القديمة بعض سكان القرية القريبة منها عن أصلهم، فأكدّوا لها آريتهم بعفوية وبدون فخر مصطنع ثم وبعد توضيح مهمتها لهم وجدتهم أشد كراهية منها لفكرة التفوق والعنصرية ووصفوا هتلر بـ”المجنون” بعد عدة مقابلات ثبت لها قوة الصلة بين مملكة داريوس وبين الجغرافية التي تحيطها، كما قدّم لها الأكاديميون الإيرانيون عشرات المراجع التاريخية والكتب والمخطوطات وأطلعوها على آثار شاخصة تؤكد ما قاله البروفسور الألماني، مما زاد من إحساسها بالغضب الممزوج بالسخرية فقررت المضي إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمقابلة بعض المنتمين لمنظمة “كو كلوس كلان” العنصرية ومحاورة توم ميتزغير أحد أكثر المنادين بتفوق العنصر الآري.
يقوم توم بمفرده بإدارة إذاعة محلية ينشر خلالها الدعاية العنصرية وكراهية الأجناس الأخرى، وأثناء مقابلته كشف عن جهل بالأفكار التي يبثّها وأنه يتاجر بها، فالعنصرية على حد وصفه “تجارة رابحة”.
تُدقِّق المخرجة “مو” في العبارة وتتأكد من صحتها فالترويج للمنظمات العنصرية مثل “القوة البيضاء” وغيرها يمرّ عبر طباعة وبيع القمصان وبيع الأسلحة وكثير من مستلزمات الدعاية التي تدرّ أرباحاً تدخل جيوب قادة تلك المنظمات.
لم تُثمر زيارتها للولايات المتحدة الأمريكية حلولاً ناجحة ولم تفتح مقابلاتها أفقاً لحل جدّي للمشكلة فعادت إلى ألمانيا بناءً على طلب شاب كان يفكر بترك المنظمة العنصرية التي انتمى إليها واليوم يشعر بالندم والخوف من عواقب تركها.
في انعطافة حادة تنشأ علاقة إنسانية بين المخرجة والشاب تتطور إلى قناعة بأن الحل يكمن في مدى قدرتنا نحن المناهضين للعنصرية على مقاومتها ومساعدة الراغبين في الخروج منها، كالشاب الألماني الذي تغيّر كثيراً وخلال أشهر قضاها يحاور “مو” في قضايا كثيرة إلى أن اقتنع بالتخلُّص نهائياً من الأفكار العنصرية ما جعل النهاية تبدو سعيدة، لكنها لن تلغي المشاهد المعتمة التي سبقتها والتي عاد الوثائقي للتذكير بها في محاولة لتقديم صورة متكاملة لمشكلة ما زالت بدون حل بل هي في تفاقم بسبب الجهل الذي حاول الوثائقي كسره بالحقائق الدامغة حول “الآريين” وأصولهم البعيدة كل البعد عن العنصرية.