“حارة اليهود”: التأرجُّح بين الصدق الفني والتاريخي

د. أمــل الجمل

هو عمل فني لا يمكن أن نصفه بالسطحي. صحيح أنه لا يتوافق مع الحقائق التاريخية، وبه مغالطات عديدة سواء فيما يتعلق بمواقف الشخصيات واتهامها بأفكار عدائية وإجرامية تم ترويجها في فترة زمنية ما، أو فيما يتعلق بالطبقة الاجتماعية الحقيقية التي عاشت في هذه الحارة، وأيضاً فيما يخص الطقوس الدينية والملابس والديكور والإكسسوار. لكن، ورغم كل ما سبق، هو مسلسل تليفزيوني نجح – في كثير من الأحيان – في خلق ونسج شخصيات بها ملامح إنسانية سواء موسومة بالخير أو الشر أو تجمع بينهما، كما كان مؤلفه موفقاً في أوقات كثيرة في خلق دراما حقيقية، وذلك رغم أنه لم يكن قادرا على فعل ذلك طوال الوقت، لذلك جاءت كثير من المشاهد موسومة بالخطابية والمباشرة وكان الحوار – في حلقات كثيرة – مجرد ترديد لآراء سياسية سبق ذكرها في الكتب والصحف والمراجع هنا أو هناك. 

بل، يُمكن القول أن “حارة اليهود” للمؤلف د. مدحت العدل هو نموذج للمسلسل الذي كان يمتلك الكثير جداً من أسباب النجاح الذي كان من الممكن له ألا يُنسى – لكنه لم يفعل – لأن تاريخ اليهود المصريين جزء من تاريخ مصر، وعندما تحكي عنهم سيتحول الحكي إلى قضايا عامة شديدة الخطورة، كما أنه عمل يتناول قضية شائكة تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فرغم معاهدة الصلح مع إسرائيل – في اتفاقية كامب ديفيد وما أعقبها من علاقات – ورغم كل محاولات التوافق والمساومات الخفية بين إسرائيل وبين أطراف عربية عديدة “من تحت المنضدة”، لكن يظل الصراع العربي الإسرائيلي قائماً متأجِّجاً على المستوى الشعبي، وتظل هناك حالة استنفار وعداء جاهزة للانفجار في أي لحظة، ليس فقط بسبب القضية الفلسطينية، ولكن أيضاً المصريون لم ولن ينسوا أبداً أن عدداً ليس بالقليل من أبنائهم استُشهدوا أو تم أسرهم أو فُقدوا على أيدي إسرائيليين في أعوام مثل 48، 56، 67، 73.

أضف إلى ما سبق، أن المسلسل في بنيته اختار توليفة درامية تغازل الجانب التجاري – وهو أمر لا يعيبه لو كان قد نجح في إتقان بنائه الدرامي بناءاً تلقائياً متفادياً التعسُّف لتحقيق وغرس ما يريد من أفكار وآراء- مثل الاستعانة بعالم الفتوّات الذي كتب عنه باستفاضة وعمق لا مثيل له نجيب محفوظ، أو توظيف شخصيات العوالم وبيوت الهوى التي أيضاً كتب عنها محفوظ وكان حسن الإمام أكثر من اشتُهر بتصويرها وإخراجها على الشاشة الفضية، ثم قلّده آخرون.

 محاكمة تاريخية للدراما؟!

لقطة من فيلم “أندريه ربليوف” لتاركوفسكي

كانت بيوت الدعارة في المسلسل من بين نقاط الهجوم على صُنّاعه، أو من بين المآخذ لا لسبب أخلاقي ولكن لسبب تاريخي، فالبعض أشار إلى أن الدعارة في مصر تم إلغاؤها رسمياً عام 1945 بينما أحداث المسلسل تبدأ منذ عام 1948. رغم ما سبق تؤكد المراجع أن الدعارة ظلت تمارس بشكل رسمي ومقنن حتى فبراير عام 1949 حينما ألغيت تراخيص تلك البيوت بالكامل.

 وحتى لو كان قانون الإلغاء السابق قد تم عام 1945 ليس هذا مشكلة مستعصية وخطيرة تهدم البنيان الدرامي للعمل، فالأهم – في رأي كاتبة هذه السطور – أنه لا يجوز إقامة “محاكمة مطلقة” للعمل الفني تاريخياً حتى لو كان عملاً يستند إلى التاريخ، بمعنى أنه حتى لو كانت بيوت الهوى قد أغلقت قبل الفترة التي يتحدث عنها المسلسل ليست لدي مشكلة في ذلك طالما نجح العمل في نقل روح العصر بصدق وأمانة دون تزييف، وهناك فارق كبير بين التزييف وإعادة التفسير، وهنا أستعيد تجربة للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، ليس بهدف المقارنة بين المستوى الفني للمسلسل والفيلم، لأن ذلك أبعد ما يكون، والفارق بينهما شاسع ولا يوجد أصلاً وجه للشبه، فالشريط السينمائي لتاركوفسكي هو عمل فني أصيل يمكن وصفه بأنه Master Piece، أما ذلك المسلسل فإلى جانب كونه عملاً تليفزيونياً فهو أيضاً تجاري وليس عملاً أصيلاً رغم أي ميزات تُنسب له. أما الاستدعاء لفيلم تاركوفسكي هنا فمناسبته الحديث عن محاكمة الوقائع الدرامية تاريخياً.

كان فيلم “أندريه روبلوف” يدور حول شخصية رسّام الأيقونات العبقري أندريه روبليوف الذي عاش من ستينيات القرن الرابع عشر إلى ثلاثينات القرن الخامس عشر. كان المخرج الروسي تاركوفسكي يختار وينتقي ويرصد وقائع درامية تحمل بداخلها شحنة عاطفية ونفسية، ثم يضع كلا منها بجوار بعضها البعض كالفسيفساء ليخلق تاريخه الفني الخاص جداً. لقد مارس فعل الاختيار وسط مرحلة تاريخية كاملة ممتدة في الزمن ربما تتجاوز المائتي سنة، مرحلة مرّت عليها أجيال من أسلافه، ثم أخذ ينتقي من كل فترة منها وقائع متناثرة عامداً إلى ضغطها وتكثيفها بقوة في لوحة سينمائية شديدة الفنية، لوحة واحدة تدور أحداثها جميعاً في ثلاثة وعشرين عاماً فقط من حياة (روبليوف). ومنها مثلاً رسومات أثبت المؤرخون أنها تعود لمائة عام بعد وفاة روبلوف، أو وقائع مثل صناعة الناقوس وفقأ أعين الفنانين المهرة بعد تشييدهم عملا فنيا رائعا حتى لا يُعيدوا بناء مثيل له وهى وقائع جاءت في فترات تاريخية لاحقة، والتي رجّح كُثر من كتاب التاريخ أن تاركوفسكي ربما استعان بها من حكايات شعبية لبلدان أخرى غير روسيا. 

هنا تثور علامات الاستفهام حول الصدق الفني والصدق التاريخي، عن قضية الموازنات بين متطلبّات الإبداع الفني وبين الصدق التاريخي. ففي تقديري أنه لا يجوز أن نُصادر على أحقية الفنان في ضغط الأحداث وتكثيفها، بالتركيز على بعضها وإغفال البعض الآخر، في إعادة قراءة وتفسير الوقائع التاريخية من أجل تقديم تفسير آخر يختلف عن السائد والمألوف، طالما أنه لم يلجأ إلي تزييف الوقائع المثبتة تاريخياً، وطالما أنه لم يُدحض ويُحطِّم إطار الصورة الحقيقية للإنسان وللتاريخ.
لذلك في رأيي أن الصدق الفني يُحتم خيانة الصدق التاريخي في بعض الأحيان.. لأن الصدق ليس المقصود به هنا صدق الوقائع، لكنه صدق المشاعر وصدق قيم معينة تتجلى بوضوح في الزمن النفسي الذي يحكي عن الدراما الداخلية لهذا الإنسان – كما في حالة (أندريه روبليوف) مثلاً – ذلك الصدق الذي يجعلنا قادرين على رؤية عالم الإنسان الداخلي الهائل والقوي.

صحيح، لم يلتزم تاركوفسكي بصدق التاريخ وتسلسل الوقائع، لكنه لم يخن شخصياته وخصوصاً (روبليوف) الذي كان يُجسِّد في أيقوناته مُثلاً مضيئة حول الوحدة والحب. وحول ذلك يشير تاركوفسكي قائلاً:(1)”أحد أهداف عملنا كان إعادة بناء العالم الواقعي للقرن الخامس عشر للجمهور المعاصر، فمن أجل الوصول إلى حقيقة وصدق الرصد المباشر أو بالأصح الحقيقة الفسيولوجية كان علينا أن نبتعد عن صدق الأركيولوجيا والإثنوغرافية،(2) فقد عاشت الأيقونة عبر العصور، عاشت في الماضي وهى تعيش اليوم لتربط بين أناس القرن الخامس عشر وأناس القرن العشرين.” لذلك فإن لوحة روبليوف الثالوث الأقدس قد يُنظر إليها كأيقونة أو قطعة أثرية رائعة وفريدة تُعبر عن فترة تاريخية ما، أو تُعبر عن أسلوب الرسم في ذلك العهد، لكن تاركوفسكي(3) يستخدمها باحثاً عن المعنى الإنساني، والروحي لها وفيها، بحثاً عن الزمن النفسي وليس فقط التاريخي. وهو بذلك يتوجّه إلى معنى حي قابل للإدراك من قِبَل مَنْ يعيشون في القرن العشرين.  

إذن بتطبيق ذلك على “حارة اليهود” فلا يهم كثيراً أن نتوقف أمام الحقيقة التاريخية بأن سكان الحارة لم يكونوا تجارا للأقمشة أو من أصحاب محلات الصاغة كما جاء في العمل، أو لأن التاريخ يُثبِّت أن أغلبهم كانوا عمالاً وحرفيين. ليس مهماً أيضاً أن تجعلهم الدراما جميعهم من الفقراء كما كانوا في الحقيقة، لأن مؤلف العمل هنا أراد تكثيف الأماكن والتعبير عن شرائح متنوعة اجتماعياً.
لكن الأهم بالنسبة لي أنه لم يضع اليهود جميعهم في كفة واحدة، لم يتعامل مع اليهود على أنهم جميعاً صهاينة، يهمني أنه قدّم منهم نماذج وطنية شريفة غارقة في حب مصر من خلال شخصية ليلى ووالدها هارون، فالتاريخ يُثبت أن العديد من اليهود كان لهم دور كبير ووطني في محاربة الاحتلال وأنهم ندّدوا بالصهيونية وأقاموا مؤسسات ورابطات وحركات لمكافحتها، أن من بينهم شخصيات وطنية انتقدت سياسات الملك، ورفضت التطبيع ومعاهدة السلام. 

إذن، مرة ثانية، ورغم أهمية تحرِّي صدق الحقائق التاريخية، وتحرِّي الدقة والأمانة في تناولها والتي تتطلب البحث في المراجع، في الصور، في أحاديث الشخصيات، في الوثائق والمخطوطات، في مراجعة العمارة الخاصة بتلك الفترة وما تبقى منها، وفي أي مرجع آخر يمكن أن توفره التكنولوجيا الحديثة وما أكثرها، مع ذلك عندما أناقش الصدق الفني لعمل مثل “حارة اليهود” لن ألغي قيمة العمل بسبب بعض المبالغة في تصوير تعذيب شخصية ليلى وكأنه إعادة خلق لأسطورة جميلة بوحيرد، ولن أتوقف طويلاً أمام خطأ مثل أن “المسلسل تدور أحداثه عام 1948، وقد بدأت الحلقة الأولى بغارة جوية، رغم أن الغارات الجوية على مصر انتهت بانتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.”، لن أتوقف أمام أن “الفنانة هالة صدقي تقوم بدور صاحبة أحد بيوت البغاء المرخصة، رغم أن بيوت البغاء قد أغلقت نهائيا، بموجب قانون إلغاء البغاء عام 45  أو حتى عام 49.

لن أتوقف طويلاً أمام خلط المسلسل بين اليهود الربانيين واليهود القرائين، وعدمه دقته في طقوس الصلاة في المعبد، لن أتوقف كثيراً أمام مقولة أنهم “كانوا جميعاً يعيشون تحت خط الفقر، ولم تكن مداخل العمارات في الحارة بهذا الاتسّاع والفخامة، ولم تكن منازلهم بهذا الاتساع، ولم يكن في مقدرتهم شراء هذا الأثاث الوثير، ولا أن الثلاجات الكهربائية لم تكن متاحة للجميع وبالأحرى في حارة اليهود، ولا أن ملابس اليهوديات ربما كانت قصيرة ولكن الفتحة في الفستان أو «الجيب» لم تكن لنصف الفخذ، أو لم تكن تساير أحدث صيحات الموضة حينذاك كما صورهم المسلسل”

أيضاً لن يزعجني كثيراً أن “المسلسل الذي تدور أحداثه عام 1948، وقفت الفنانة ريهام عبدالغفور أمام المرآة وغنت «يا مسافر وناسي هواك»، تلك الأغنية التي غنتها الفنانة الراحلة ليلى مراد في فيلم «شاطئ الغرام» إنتاج عام 1950”.
    صحيح أن كل ما سبق من أخطاء تخصم درجات من جودة وكفاءة العمل الفني، وتنتقص منه، ومن صدقيته، ومن التماهي مع أبطاله، لكنها في النهاية ليست أخطاء جسيمة، ولن تستطيع أن تهدمه أو تجعلنا ننظر إليه بعين الريبة والشك المطلق. على الأرجح سنتعامل معها على أن الأمر به تقصير وكسل في خلق عمل فني ضخم، أو ربما نفسره على أنه عمل يفتقد الطموح الكبير، أو ينقصه الموهبة المعادلة للطموح الصادق.

  التزييف والتشويه الحقيقي
   أما ما يُؤخذ فكرياً على صناع المسلسل فيمكنني، على الأقل في هذا المقال المطول، أن أتوقف أمام أمرين؛ الأول أستعين فيه برأي المناضل اليساري “ألبير آرييه” في أحد حواراته والذي أكد فيه أنه صحيح أن الخصومة الرئيسية لليهود كانت مع الإخوان المسلمين – كما صورها المسلسل – ولكن أيضاً الخوف من أمن الدولة والذي أغفله المسلسل تماماً، إلى جانب العداء والاستياء الشعبي على نطاق واسع.  
   أما الأمر الثاني فيتمثل في تشويه سيرة الشيوعيين عبر جُمل – حتى لو كانت قصيرة – لا يمكن تجاهلها إطلاقاً، فعندما يتساءل هارون عن سبب التحوُّل في تعصب ابنه وكرهه لأهل الحارة خصوصاً المسلمين ودعوته لأسرته بضرورة الهجرة إلى إسرائيل خوفاً من تكرار محارق الغاز، هنا تجيبه ابنته ليلى – التي صورها المسلسل على أنها شخصية شديدة الوطنية تخضع لكل سبل التعذيب حتى لا تخون مصر – “بأن أخيها بالتأكيد وقع تحت تأثير شلة من الشيوعيين”.

وطبعاً البعض من مهاجمي المسلسل فسروها على أن الشيوعيين المقصودين هنا هم من اليهود، ومع إن مؤلف العمل تركها عامة جامعة مانعة، وهو توصيف بالمناسبة كانت الجهات الأمنية تستخدمه وتنشره بين الناس وأفراد الشعب لتشويه سمعة اليساريين المناضلين ضد الاحتلال وضد المرض والفقر والقهر والظلم الاجتماعي، توصيف كانت الجهات الأمنية تستخدمه لخلق صورة ذهنية نمطية عنهم لوصمهم بأنهم شخصيات فاسدة منحلة ضد الدين والأخلاق، فما هو رأي كاتب سيناريو “حارة اليهود” فيما كتب على لسان بطلته شديدة الوطنية؟!
    لكن فرضا أن مؤلف المسلسل كان يقصد بجملته السابقة “الشيوعيين من اليهود”، فنحن نسأله عن “شحاتة هارون” – المحامي الذي أحضر له والده أزهريا يُعلمّه قواعد النحو والصرف – ألم يكن يهوديا شيوعياً مصريا حتى آخر عمره، وظلّ يصف “إسرائيل بأنها خرافة ضد التاريخ وضد قانون الطبيعة”، ألم يكن يوسف درويش يهودياً شيوعياً، ألم يكن ألبير آرييه يهودياً شيوعيا؟! وماذا عن هنري كورييل الذي طُرد من مصر وقُتل بسبب مناهضته للصهيونية ومساندته للشعوب المستعمرة كما في فلسطين والجزائر، ألم يكن كورييل يهودياً شيوعياً. ألم يكن هناك نحو 300 يهودي شيوعي في منظمة “إسكرا”؟!

هنا، وبعد ما سبق، أتوقف وأتساءل: هل فعل د. مدحت العدل ذلك التشويه عن عمد أم جهل؟! فإن كان يعلم فتلك مصيبة وإن كان لا يعلم فالمصيبة أكبر، أما إذا أجاب بأن الشخصية الدرامية هي التي تقول ذلك فلماذا لم يخلق شخصية أخرى ترد عليها خطأها، أو تتبنى وجهة النظر الأخرى ليتحرى المصداقية التاريخية ولا يُزيِّف التاريخ فيكون مثل من يخدمون السلطة الغاشمة في كل عهد من العهود، لأنه هناك فرق كبير بين إعادة تفسير التاريخ وبين تزييفه وتشويهه.

___________________________

(1)  تاركوفسكي، النحت في الزمن.

(2)  الأركيولوجيا هى علم الآثار، والإثنوغرافية أي العلم الذي يبحث وضع الأعراق والأجناس البشرية وثقافتها (أو الأنثربولوجيا الوضعية، أي علم الإنسان).

(3)  تاركوفسكي، النحت في الزمن. 

 


إعلان