“إكس ماشينا”: الصراع بين الإنسان والروبوت

أمير العمري

هناك شيء ما في الفيلم الأمريكي “إكس ماشينا” Ex Machina، وهو العمل الأول للمخرج وكاتب السيناريو ألكس غارلاند، يحيلنا إلى أفلام أخرى حلّقت في عالم المستقبل، شيدت افتراضاتها السينمائية على ما يُحقِّقه العلماء يوميا، من تقدم في مجال تكنولوجيا الكومبيوتر والتخاطب الإلكتروني، بل والقدرة على اختراع وتسيير “عقول” إلكترونية تشبه الإنسان أي “روبوت”، يتحرك وينفذ التعليمات ويقترح أيضا، ولكنه لا يملك وعيا خاصا بالطبع أو مشاعر “إنسانية”. “إكس ماشينا” قد يُذكِّرنا بأفلام فرنكنشتاين القديمة التي تُجسِّد فكرة خروج المخلوق على خالقه ومعصيته وما ينتج عن ذلك من مخاطر، كما يعيد إلى الذاكرة العقل الإلكتروني أو الروبوت “هال” في فيلم “2001.. أوديسا الفضاء” لستانلي كوبريك، الذي كان يصوِّر كيف أن الروبوت يمكن أن يفقد رشده ويتجه للتخريب والإيذاء أي يتمرّد على الإنسان الذي صنعه.

كما يبدو أن “إكس ماشينا” يستوحي أيضا من فيلم “تحت الجلد”، الذي كان يصور كيف تبدأ المرأة – الروبوت، في “التأنسن” أي تنتابها مشاعر تعاطف إنسانية، وهو نفسه ما نشاهده في فيلم “هي” Her.
غير أن “إكس ماشينا” (وهو تعبير لاتيني معناه “من الآلة”) يقطع خطوة أبعد، فهو يوحي للمشاهد في البداية بأن المشاعر الإنسانية (الحب والرغبة تحديدا) بدأت تسيطر على الفتاة – الروبوت “افا” Ava، لكننا نكتشف أنها تحايلت في استخدامها المشاعر العاطفية، نجحت في جذب بطلنا الشاب “كاليب” إليها، لكي تستخدمه في تحريرها وإخراجها إلى العالم، متخلصة من سيطرة “سيدها”، المخترع “ناثان” – الذي يعتقد أنه كما صنعها يمكنه أيضا أن يعيد برمجتها ويحولها  إلى روبوت آخر يعمل بطريقة مختلفة حسب إرادته هو.

تورُّط العقل

الفكرة أن “ناثان” الذي أصبح مليارديرا بفضل اختراعاته في مجال الكومبيوتر والإنترنت وأصبح يمتلك شركة ضخمة للبحث مثل “غوغل” Google، يجري مسابقة، بين موظفي شركته، لاختيار الأكثر ذكاء كي يستضيفه لمدة أسبوع، في قصره الحديث الذي شيده في منطقة بديعة معزولة تحيطها الغابات، لكي يستخدمه في اختبار الذكاء الصناعي للروبوت “افا” ومدى قربها من الذكاء الإنساني، وهل يمكن أن يوجد لدى الروبوت “وعي بالذات”، أي تطبيق ما يعرف بـ “اختبار تورينج”-  نسبة إلى عالم الرياضيات البريطاني الشهير “آلان تورينج”. ويستقر الأمر على الشاب الذكي “كاليب” الذي يجد نفسه مشدودا إلى “سحر” الروبوت “افا”، التي يمكنها التعبير عن مشاعر يفتقدها في حياته، ورغم وضوح مكونات جسدها المصنوع من الأسلاك والرقائق المتصلة بذاكرة الكومبيوتر، إلا أنها تتمكن من السيطرة على خيال وعقل “كاليب”، بل وتقنعه بالتآمر معها ضد “ناثان” الذي تقول له إنه شرير وكاذب، وذلك حتى تتمكن من الهرب من هذا المكان والخروج للعالم الإنساني الذي تحلم بالاختلاط به، بعد أن اكتسبت وعيا إنسانيا!

بطبيعة الحال يراقب ناثان كل حركة أو سكنة من تحركات كاليب ويسجل حواراته مع افا. وفي حوار طريف بين ناثان وكاليب يتساءل الأخير عن “قرار” ناثان صنع هذا الروبوت، فيجيبه ناثان بأن الأمر لا يتعلق بـ “قرار” بل بـ “تطور” طبيعي، أي أنه يجب أن ينظر إلى “افا” على أنها جزء من عملية التطور العلمي الطبيعي الممتد!
ينتهي الفيلم بنجاح “افا” في خطتها، ولكن يدفع الثمن كل من ناثان الذي يلقى مصرعه على يديها، وكاليب الذي تتركه حبيسا لا يمكنه الخروج من القصر. وبذلك تتفوق الآلة التي اخترعها الإنسان، بذكائها، على الإنسان مهما بلغ ذكائه، ويمكن لها أن تمتلك القدرة على التضليل والخداع والتحايل، فهي تتفوق على “ناثان” بسبب غروره وثقته الزائدة في نفسه وميله للشر، أما “كاليب” فينتهي هذه النهاية التعيسة نتيجة استسلامه السهل لإغواء “الروبوت”، وتركه العنان لمشاعره في التعاطف مع رغبة “افا” في الخروج إلى العالم.

لا شك في طرافة الفكرة، التي تدفعنا لطرح التساؤلات حول معنى أن نكون بشرا، وهل الشر مكتسب أم موروث، وهل يمكن أن يتحول الروبوت ذو الذكاء الصناعي إلى خطر يهدِّد الإنسان، وكيف يمكن أن يدرك المرء حقيقة مشاعره، وكيف يرتبك عند أول مواجهة حقيقية فيدرك مدى سذاجته، وأن خبرته في الحياة محدودة، بعد أن أصبح يقضي وقته كله أمام جهاز الكومبيوتر، سعيدا بقدرته على التخاطب مع أناس افتراضيين لا يعرف عنهم شيئا.

غموض الفيلم
يضفي المخرج على فيلمه طابعا من الغموض، سواء من خلال الموسيقى الإلكترونية التي توحي بالترقب والقلق المكتوم، أو حركة الكاميرا البطئية التي تتلصّص وتجوس بين الممرات، وتتطلع من خلف الحواجز الزجاجية، تتخذ أحيانا زوايا خاصة غريبة، كما نرى عندما يسقط ناثان على الأرض يعاني من آثار الإفراط في الخمر، يكتشف فقدان البطاقة الإلكترونية التي تتيح له فتح الأبواب، فيخرج كاليب من المصعد لنرى الاثنين من زاوية مرتفعة ومن خلال عدسة تجعل المنظور مضغوطا مشوها، وتجعل كاليب يبدو عملاقا أمام ناثان الملقى على الأرض في ضعف واستكانة، قبل أن يناوله كاليب البطاقة التي سرقها منه وهو ثمل مدعيا أنها سقطت منه على الأرض!

لاشك أيضا أن المكان بتصميمه الخاص وتفاصيله كما شيده مهندس الديكور، يخدم الفيلم الذي يصور المستقبل القريب، ببرودته وفضائه وكائناته الغريبة أو روبوتاته التي يخزنها ناثان داخل الدواليب. ويبدو ناثان نفسه، بملامحه الفظة وملابسه الرثة وطريقته في الحديث وإدمانه الخمر، كائنا مخيفا، على وشك الانفجار في العنف، وهو خبيث، يبطن أكثر مما يظهر، يكشف في النهاية أن اختياره لكاليب لم يكن نتيجة تفوقه في المسابقة، بل كان اختيارا مدروسا لشخصيته ونقاط ضعفه. وعلى حين يتخاطب ناثان وكاليب بشكل مباشر، رغم تناقضهما التام في الشخصية والتفكير والمشاعر، بما ينذر باشتباكهما وهو ما يحدث في مرحلة متأخرة من الفيلم، يتخاطب كاليب مع افا عبر حاجز زجاجي يفصل بينهما، ولكن علاقتهما تبدو أكثر حميمية، أو أن هذا على الأقل ما يصل إلينا قبل أن تنجلي الحبكة عن نجاح افا في خداع كاليب.

من أفضل مشاهد الفيلم مشهد الرقصة الغريبة بين ناثان وكيوكي أمام كاليب، وكيوكي هي الروبوت التي تتخذ شكل فتاة يابانية، يقول ناثان لكاليب إنها لا تعرف كلمة واحدة من الإنجليزية، لكن كاليب يعود ليراها في تسجيل مصور وهي تتحدث وتتجادل مع ناثان. ومن تلك المشاهد المتميزة أيضا مشهد كايوكي وهي تنزع قطعا من جلدها لكي نرى ما يوجد تحت الجلد من أسلاك وشرائح، وبعد ذلك مباشرة نشاهد كاليب في مشهد قد يكون حلما أو كابوسا، يستخدم شفرة الحلاقة لقطع جلد ذراعه حتى يتأكد من أنه إنسان، من لحم ودم وليس روبوت هو الآخر.
ولاشك أن من أفضل عناصر الفيلم أداء الممثلين الثلاثة الرئيسيين: أوسكار إيزاك في دور “ناثان” الذي يظهر في صورة مغايرة تماما لصورته في فيلم “لولين ديفيز” للأخوين كوين، ودونول جليسون في دور كاليب، والممثلة السويدية البديعة إليسيا فيكاندر في دور “افا”. وهناك أيضا الممثلة سونويا موزوني التي قامت بدور الروبوت كيوكي.


إعلان