الفن .. أن تصل متأخراً وتبدأ أولاً

قيس قاسم

“أن تصل متأخراً وتبدأ أولاً”.. تعبير استخدمه الكاتب السويدي “ستيغ ديغرمان” لوصف عمل الصحافي الذي يأتي غالباً بعد وقوع الحدث، أي أنه لن يصل قبل اندلاع حريق كبير ما أو عند نشوب الحروب والكوارث لأنها تكون قد وقعت فعلاً ثم يأتي لتغطيتها وتسجيل تفاصيلها لكنه لن يستطيع  تغيير مسارها. الصحافي المجتهد هو من يصل أولاً.. و”باول هانسِن” كان على الدوام سبّاقاً في الوصول إلى الحدث وتجسيده فوتوغرافيا،ً لهذا استحق عام 2013 جائزة “صور الصحافة العالمية” التي نقل فيها إلى العالم اللحظة الدرامية الحزينة لتشييع طفلين قُتلا بالقصف الإسرائيلي على مدينة غزة، ومنها استوحى المخرج السويدي توماس نوردانستاد فكرة فيلمه الوثائقي “باول هانسِن: الفن أن تصل متأخراً أولاً ”   Paul Hansen – The Art of Being First to Arrive too late ليتقاسم معه، بكاميرته السينمائية تجربته المهنية كمصور جاب العالم ووثّق أحداثاً جساماً ببراعة فنية طاغية جعلت منه واحداً من أهم المصورين الصحفيين في عصرنا، بشهادة الكثيرين.

أراد “توماس نوردانستاد” تقديم منجز “هانسِن” ضمن سياق ظروفه التاريخية، فلجأ إلى أسلوب ذكي أعاد من خلاله تشكيل تفاصيل منجزه الفوتوغرافي، سينمائياً، فجاء عمله وكأنه إعادة صياغة جديدة للّغة هانسِن الفوتوغرافية، منقولة على الشاشة كحدث فيه الكثير من التفاصيل والعلاقات الإنسانية المتفاعلة وبهذه الطريقة ظهر البشر ومدنهم أمامنا وكأنهم صوروا بعدستين في آن: سينمائية وفوتوغرافية.
 أما الموسيقى فأرادها خاصة نابعة من الصورتين، أبدع “إيبوت لوندبيرغ” في كتابتها ليبعد عن شغله أي سهولة محتملة، كالتي نقابلها أحياناً في وثائقيات وريبورتاجات صحفية يكتفي أصحابها بتحريك عدسة كاميرتهم أمام الصورة الثابتة، تقريباً وتبعيداً، وبمصاحبة موسيقى مقتبسة من أعمال لم تكتب لها أصلاً.

المصور باول هانسن وهو يمسك بالصورة الفائزة

كُلِّف هانسِن بتغطية أحداث منطقتنا ولسنوات طويلة لصحيفة “داغينز نهيتر” المرموقة، وكان من المنطقي أن تكون غلته منها وفيرة، وبشكل خاص تلك المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فأقام لهذا السبب فترات طويلة في الأراضي المحتلة وصوَّر أهم التطورات فيها مثل؛ الانتفاضات السلمية، كأسلوب نضالي جديد، دشّنه سكان قرية “نبي صالح” في الضفة الغربية ودفعوا ثمنه غالياً.

صوره شاهد عليها، أما تسجيلات توماس نوردانستاد السينمائية فتأكيد جديد لها، نابع منها ومن الوجوه المثبتة فيها والتي أعاد الحياة إليها ثانية حين دخل القرية وقابل شخصيات سبق لكاميرة هانسِن أن التقطتها، مثل قاسم الفلسطيني الذي ما زال مُصرِّاً مع زوجته نارمين على مواصلة النضال رغم خساراتهما الكبيرة.
 ينقل الوثائقي تفاصيل المواجهات مع الجنود الإسرائيليين عبر تسجيلات قديمة (فيديو) مأخوذة من نشرات أخبار تلفزيونية إسرائيلية تفضح قساوة وهمجية جنودها في مجابهة شعب أعزل يتظاهر سلمياً فيما هم يطلقون النيران والقنابل المسيلة للدموع من أجل إلحاق أكبر قدر من الأذى بهم.

صور هانسِن تنطق بدورها وبقوة لما فيها من جوانب مضافة تُخرج الحدث من إطاره المحدد بالمواجهات، بتعمد، إلى أبعد من ذلك.. إلى الحياة نفسها لتُجسِّد ببراعة علاقة الفلسطيني بأرضه ورغبته في مواصلة العيش رغم القهر.
 الصورة المنقولة للفلاحين وهم يعملون بالقرب من أشجار الزيتون تكفي لتعميق محتوى الصور الصادمة إلى درجة يصبح من الصعب فصلها عن بعضها، وهذه واحدة من ميزات شغل السويدي هانسِن وربما تميزه الأهم، فهو يجمع بين الحدث وتفاصيله الجانبية الأقل توتراً، وهذا يلزمه معرفة طبيعة كل صراع يذهب لتغطيته ويحرص على تناول الجوانب الإنسانية التي تحيط به، فهناك على الدوام كما تنطق أعماله، لحظات فرح وسعادة عفوية هي أشدّ تعبيراً عن تشبث البشر بالحياة وكرههم للحروب والصراعات لأن وظيفة المصور في رأيه هي نقل الواقع وتجسيد الألم البشري واللاعدالة لا تكريس الانهيار الكلي والضعف النهائي. فإذا تسيدّا، الانهيار والضعف، المشهد البشري فهذا يعني أن نهاية الإنسان وتدميره المطلق باتت قريبة وهذا ما لا يقبل به الفنانون الحقيقيون.

في كل مرة يذهب باول ليصوِّر حدثاً ما كالحرب أو الكوارث الطبيعية، يعود متأثراً بما شاهد ووثق. كلامه عن تأثره وانفعالاته وانعكاساتها على حياته الزوجية والعائلية في السويد يفتح مجالاً أمام الوثائقي ليدنو منه أكثر ويتعرف على طريقة تفكيره ونظرته إلى العالم وفهمه لوظيفته كمصور صحفي ينتقل على الدوام بين عالمين مخلفين: واحد مستقر وهادىء وآخر مشحون بالعنف والتوتر.
 مكاشفات المصور الفوتوغرافي للمخرج السينمائي تضيء جوانب شخصية ومهنية غاية في الأهمية تغني بدورها محتوى عمل وثائقي أُريد له أن يُشبع فضول مشاهديه في التعرُّف على فنان وصحافي نقل العالم إليهم لكنه ظلّ بعيداً عن أنظارهم، فهو على الدوام  يقف خلف الكاميرا لا أمامها كما هو اليوم. يبوح هانسِن بحقيقة علاقته بغزة ومدن الضفة الغربية وأهلها معتبراً  نقله لما يجري فيها واجباً أخلاقياً لا مهنياً فحسب، على كثرة ما يولِّيه من حرص شديد على توازن عمله، ما سيدفع الوثائقي إلى زيارتها ولأكثر من مرة ليُجسِّد هذه العلاقة سينمائياً.

في مشهد مؤثر يجمع فيه “توماس نوردانستاد” والدة الطفلين الشهيدين والمصور، الذي التقط صورته الرائعة لحظة توديعهما إلى مثواهما الأخير، في مكان واحد، في بيتها. كلمات الشكر التي قالتها له تُفطر القلب، فهي على بساطتها، اعتبرت ما قام به خدمة لها ولكل أهل غزة، لأن الصورة وبعد أن عرفها العالم ستُبقي ذكرى ولديّها حية.
 يعيد التسجيلي بدوره تفاصيل الحادثة ويصور كيف قصفت الطائرات الإسرائيلية بيتها وقتلت أطفالاً كانوا في داخله لا ذنب لهم!. يعترف هانسِن أن حرب صيف 2014 كانت الأصعب عليه لأن مشاهد الأطفال القتلى قد أثرّت فيه كثيراً، وأن همة الناس في تقديم المساعدة للجرحى في ظل انعدام وجود سيارات الإسعاف والرعاية الطبية تكشف عن روح تضامنية لا يمكن شرحها لبشر يعيشون خارج إطار الصور التي يلتقطها، ومع هذا تبقى هي الوسيلة القوية، وربما في أحيان كثيرة الوحيدة، ليعرف العالم ما الذي يجري هناك وأي جرائم شنيعة تُرتكب.

يُقلَب “توماس نوردانستاد” ألبوم هانسِن ليذهب معه، وعبر ما صوّر، في رحلاته المهنية لمدن ودول مثل؛ أوكرانيا، كينيا، ماليزيا، بيروت، هايتي، كابول، الكونغو وغيرها الكثير، وليخرج بعدها بتعميم يُعزِّز فكرة أن العذاب البشري دائم والحاجة إلى توثيقه/ تصويره دائمة أيضاً، لكن يبقى هناك بين الصور ما هو أثير على قلب ملتقطها لقوة تعابيرها ولطبيعة الشخوص الظاهرين فيها، والإحساس الفني الملازم لها مثل؛ صورة الطفلة الأفغانية وهي تلعب بطابة ملونة وسط مكان بائس يظهر فيه أطفال يرتجّون من البرد وأخرى لصبية باكستانية تقيم في مخيم “يالوزاي” تعابير وجهها تحكي عن دواخلها المليئة بالأسئلة.

صور يحكي عنها بحب، نابع من قوة المفارقة التي تحدثها في داخله، فأطفاله يذهبون إلى مدارس جيدة التأثيث ويلبسون ملابس دافئة فيما أطفال مثلهم وفي مناطق أخرى من العالم يعانون من فقر وجوع، والموت يهددهم كل لحظة. المقارنة .. عند هانسِن الدافع والمحرك لنشاطه المهني والفني وكل صورة يلتقطها إنما يضع نفسه في الطرف الثاني منها، وليس خارجها، وهذا ما أدركه صانع الوثائقي السينمائي “توماس نوردانستاد” حين راح يعرض الكثير منها ومعها كان يعرض تسجيلاته الخاصة بها ليكمل بها قصة فنان صنعها فيما حاول هو صنع صورته السينمائية بأعلى تجلياتها.


إعلان