رحلة تحقيقية على “طريق الحرير”

محمد موسى

قرّر ستيفان بلوميرت، مُراسل التلفزيون البلجيكي في الصين، أن ينهي فترة خدمته الطويلة هناك برحلة برية، يتبع فيها آثار طريق الحرير التاريخي الشهير، مُنطلقاً من العاصمة الصينية بكين، على أن يكون بلد المُراسل الأُمّ بلجيكا، المحطة النهائية من الرحلة. سيمرّ المراسل مع ابنه الشاب على عشرين دولة، قاطعاً ما يُعادل عشرين ألف كيلومتر في رحلة تتقصّد أن تُبَيّن دور الصين الراهن في العالم، وتسأل أسئلة عن حال الشعوب المجاورة للبلد الآسيوي العملاق، وكيف يبدو اليوم الطريق الذي كان يوما ما حلقة الوصل بين الصين وأطراف الأرض. هذه الرحلة، ستُسجَّل في فيلم “طريق الحرير” والذي عُرض أخيراً ضمن البرنامج التسجيلي “فرانكس” على شاشة القناة “كنفاس” البلجيكية الحكومية.

تُوفِّر الفكرة الذكية للفيلم نافذة للإطلّاع على حال الدول التي تمرّ بها سيارة فريق الرحلة، بخاصة تلك المجهولة لكُثر، مع العودة هنا وهناك إلى التاريخ القديم لتلك الدول والمناطق، الذي لازال حاضراً بأشكال متنوعة في حيوات ناس هناك. في كل ذلك لن يغيب الهدف الأساسي من الرحلة، أي محاولة تقييم دور الصين اليوم، الدولة التي عادت لتكون أحد أقطاب هذا العالم. يستفيد الفيلم كثيراً من خبرات المراسل الصحفي بلوميرت، الذي يعرف المنطقة جيداً، والذي سيُقدِّم خلفيات مُهمة كثيراً عما نشاهده على الشاشة، بخاصة عن الصين نفسها، التي يقطع الفيلم مسافات كبيرة داخلها للوصول إلى حدودها مع جارتها قرغيزستان، أو في دول وسط آسيا، والتي ستأخذ الوقت الأكبر من الفيلم.

يمكن تقسيم الرحلة لبضعة مراحل لجهة طموحاتها وما تكشف من تفاصيل، فالجزء الذي صُوِّر في الصين نفسها، يكشف عن تعقيد وصعوبة الحياة في البلد الآسيوي، وخاصة للمسلمين، الذي يظهر الفيلم أنهم يتوزّعون على مساحات واسعة في الصين. فعندما تصل سيارة الرحلة إلى إحدى المدن الصينية التي يغلب المسلمون على سكانها، تتكشّف تفاصيل تخصّ الحريات في البلد. فالسلطات تمنع إمام المسجد من الحديث لفريق الفيلم، وتوفِّر بدلاً عنه متحدث رسمي، الذي سيقدم تصريحات بليدة ورسمية للغاية، عن الهوية الخاصة بمسلمي الصين، وكيف يَعتبر هؤلاء أنفسهم صينيون أولا، ثم مسلمون في المقام الثاني. هذا رغم أن الفيلم نفسه يُبيِّن أن هناك من يُعاني بسبب تدمير السلطات الصينية لمدن أثرية إسلامية صغيرة، لتحل محلها اليوم بنايات حديثة لإرضاء سواح محليين وأجانب، ولطمس روح المكان هناك.

موضوع الدين سيعاود الظهور في الرحلة، ففريق الفيلم سيواجه الصعوبات ذاتها عندما يحاول أن يحاور أحد الرهبان البوذيين. ومرة أخرى ترفض السلطات الصينية أن ينفرد الفيلم بذلك الراهب بالتحديد، وتقدِّم بدلاً عنه متحدث رسمي، سينتقد بشدة شخص الدالاي لاما، القائد الروحي للبوذية في التبت، الذي اعتبره خائناً للصين ولتقاليد البوذية. الحساسية الدينية ستكون أيضاً القضية في البلدان المجاورة للصين في وسط آسيا والتي تقع على طريق الحرير التاريخي. لدرجة أن بعض الدول رفضت دخول فريق الرحلة لأراضيها. في المقابل، كان سؤال الحريات العامة هو المُهيمن في دول آسيوية أخرى مثل كازاخستان، الدولة الغنية بمواردها الطبيعية لكن بسجل حقوق إنسان متردِّي، حاول الفيلم أن يلخصِّه للمشاهد غير المُطلع.

سعى الفيلم أن يمرّ على بعض العناونين السياسية والاجتماعية الرئيسية للدول التي زارها، ولو أن هذا الأمر تم بعجالة أحياناً، فمن تركيا سيسلِّط الانتباه على الصراع بين التيار الإسلامي المُحافظ والقوى العلمانية، والذي تميل كفتّه اليوم لصالح الإسلاميين. في حين سيتناول في إيران صراعاً مشابه، يبدو أزلياً بين التيار المُتشدِّد الذي يحكم الجمهورية الإسلامية وبين أبناء المدن من القوى العلمانية، والذين أكدّوا في هذا الفيلم مُجدّدا إصرارهم على مزيد من الحريات. أما في صربيا سيتعرض الفيلم لأثر الحروب الأهلية والدولية من العقد الأخير هناك، وكيف أنها خلّفت جيلا من الغاضبين، الذين يريدون تغيير ما حولهم. في حين يتناول الفيلم من بلغاريا، والتي تقع أيضاً على طريق الحرير، الاستثمارات الصينية في أوروبا اليوم، إذ ساعدت الصين في تشييد شبكة من القطارات الحديثة في بلغاريا، والتي تندرج كجزء من خطتها لإقامة خطاً جديداً وسريعاً لنقل البضائع الصينية إلى قلب وأطراف القارة الأوروبية.

يجمع الفيلم بين كثير من القضايا المُعقدّة في زمنه الذي يزيد قليلاً عن الساعة الواحدة. تبدو مقاربة الفيلم لهذه القضايا واعية وحسّاسة إلى حدود كبيرة، فهو يتناول كل من القضايا الآنفة بصدق حقيقي، مُثيرا أسئلة عن حال تلك المنطقة من العالم. دون أن يغفل الفيلم مهمته الأساسية، وهي رصد دور الصين في العالم اليوم. كما تضفي المشاهد التي تظهر ستيفان بلوميرت مع ابنه الشاب، حميمية خاصة على الفيلم، وتجعله يبدو أحياناً كرحلة فلسفية تعليمية خاصة للرجلين الأوروبيين في مجاهل القارة الآسيوية. إذ بدا الأب فيها، كالحكيم الذي يشارك حكمته وتجاربه مع ابنه الشاب، الذي كان يطرح أسئلة عما يصادفاه في رحلتهما، ويتولى الأب الإجابة على تلك الأسئلة باستفاضة الخبير الذي قضى سنوات في تتبُّع أحوال ذلك الجزء من العالم.


إعلان