الكابوس الأفغاني
محمد موسى

مع اقتراب موعد الانسحاب الكامل لما تبقّى من القوات العسكرية الغربية في أفغانستان، والذي من المقرر أن يكون في نهاية عام 2016، تواصل بعض المحطات التلفزيونية الغربية عرض أفلام وبرامج تسجيلية، لما يُعتبر خلاصات تحقيقية للوجود الغربي في أفغانستان، والذي انتهى بدون نتائج تذكر، بل يبدو أنه سيترك البلد يسقط مجدداً في أحضان حركة طالبان.
فمع البرامج التسجيلية الكبيرة التي عرضتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) في الأشهر الماضية، يتم إعادة عرض بعض الأعمال التسجيلة الأوروبية التي أُنتجت في السنوات الخمس الأخيرة، وجُلها يُظهر بدون مواربة قسوة التحدي الأفغاني، وعجز الغرب والأفغان أنفسهم عن تصحيح مسار البلد الشديد التعقيد. من الأعمال المهمة التي عُرضت في السنوات الأخيرة، دون أن تحظى بفرص عرض واسعة فيلم “الكابوس الأفغاني”، للمُخرج النرويجي كلاوس إريك أوكستاد.
يندرج الفيلم تحت مجموعة الأفلام الغربية التسجيلية العديدة التي قدمت الصراع في أفغانستان، حتى تكاد جنسيات الأفلام المنتجة تماثل تلك للقوات التي اشتركت في التحالف العسكري الدولي. كما يصنف الفيلم ضمن الأعمال التسجيلية الخاصة التي يرافق المخرجون فيها قوات عسكرية في أزمان الحروب، وما يعنيه هذا غالباً، من خضوع هذه الأفلام لرقابة تفرضها القوانين العسكرية، وتدخل اعتبارات أمنية على النتاج النهائي. ورغم أنه من الصعب كثيراً معرفة ظروف إنتاج فيلم “الكابوس الأفغاني”، إلا أن هناك ما يشير إلى أنه لم يخضع لرقابة صارمة، أو يمكن القول أن ما وصل إلى النسخة النهائية قدم صورة لا تشذّ بروحها عن أفلام أفغانستان الأخرى، لجهة قتامته الشديدة وقنوطه الذي لا حدود له.

على خلاف أفلام أفغانستان الأخرى التي قدّمت يوميات جنود عاديين، يتصدر ضابط نرويجي كبير فيلم “الكابوس الأفغاني”، إذ سيكون هذا الضابط المحور والحدث في الفيلم، وعبره سنتعرف على مأزق القوات الغربية في البلد الصعب. يُفتتح الفيلم بمشهد لهذا الضابط وهو يؤنِّب جنود أفغان على قلة همتهم. في ذلك المشهد يستعيد مسؤول القوة النرويجية ما يفعله جنود بلده على الحدود مع روسيا في ظروف مناخية صعبة للغاية، ويتسائل كيف لا يجد جنود الوحدة الأفغانية القدرة لأداء واجبات يومية بسيطة، مثل الانتقال بين نقطتين حراسة يبعد بينهما مئات الأمتار فقط.
يتشكل الفيلم حول اتجاهين، أولهما عن تنامي عنف الطالبان، والثاني يتعلق بفشل الجهود الأفغانية الرسمية لبناء مؤسسات أمنية صلبة. عبر هذين الاتجاهين يحاول الفيلم أن يجيب على أسئلة فرعية متعددة، بعضها له علاقة بموقف الأفغان من الوجود الأجنبي، وخيبة بعضهم مما وصل إليه حالهم، وعن عمق مشاكل البلد، وتجذّرها إلى الحد الذي يجعل أي محاولة لتغطيتها بحلول شكليّة، يؤدي إلى الفشل الذريع الذي شهدنا عليه طوال عقد كامل تقريباً. في واحد من مشاهد الفيلم القليلة التي خرجت الكاميرا فيها إلى الشارع الأفغاني العادي، عبّر أفغان شباب عما تعنيه “الديمقراطية” لهم. فهي “فكر” جاء لجعل النساء الأفغانيات يتمردن على أزواجهن حسب بعض المتكلمين، ولا نفع منها على الإطلاق للرجال الأفغان.
يهمين المناخ السوداوي وأحياناً الجنائزي على الفيلم. فالعثرات تنتظر كل جهود للقوة العسكرية النرويجية، ومعظم المشاكل هناك لا حلول لها. كما يتصاعد تدريجياً خطر طالبان، ليصل إلى الذروة في منتصف الفيلم عندما يُقتل خمسة جنود نروجيين. وهي الحادثة الأقسى التي تواجهها شخصية الفيلم الرئيسية، إذ عجز أن يعبروقتها عما يجول في روحه، وطلب من الكاميرا أن تتوقف. يبرز الفيلم مراراً محنة الشخصية الرئيسية فيه عاكساً من خلالها فشلاً عاماً لسياسات عسكرية غربية بدت جاهلة تماماً بتعقيدات الوضع الأفغاني. يحاول الضابط أحياناً إصلاح الحيز الصغير من الأرض الأفغانية الذي تحت هيمنته، لكنه يواجه كل مرة تعقيدات أكبر بكثير مما يستطيع تقديمه. وهو الأمر الذي يتبدّى من الحوار الذي دخل فيه مع وجوه اجتماعية أفغانية، حول التفرقة العنصرية في بلدتهم، والتي تدفع أبناء عشائر يواجهون العنصرية هناك للانضمام إلى حركة طالبان. أو ذلك الذي أجراه مع شباب أفغان على الطريق، الذين يعانون البطالة منذ سنوات، والتي ومع عوامل أخرى تخلق الحاضنة المثالية لكل الحركات المتطرفة.

اختار المخرج التوليف السريع في تسجيله للحياة اليومية للوحدة النرويجية التي رافقها لأشهر. كما ركزّت معالجة المخرج على تصوير ضابطه كشخصية تراجيدية إلى حدود كبيرة، وبالتالي شخصية سينمائية مثالية لهذا النوع من الأفلام.
فاهتم الفيلم بإبراز الانفعالات العديدة على وجه الضابط، والتي عكست بعضها هزيمته وتيهه في الفوضى العارمة من حوله، في بلد لا يعرف أسراره رغم كل محاولاته لفهم ما يجري حوله. فهو في النهاية ضابط عسكري وليس خبير تاريخي أو نفسيّ. يصل الفيلم مع ضابطه إلى ذروة نفسية شديدة الإيحاء في المشهد الختامي المُعبِّر من الفيلم، والذي يكاد يختزل نتائج التدخل العسكري الغربي كله في أفغانستان.
وكانت “بي.بي.سي” قد قدمت في العام الماضي مشروعين تسجيلين شديدي التميز عن الدور البريطاني في حرب أفغانستان هما: “وداعا أفغانستان”، والذي يجمع أفلام صوّرها جنود وحدة عسكرية بريطانية خدمت في أفغانستان. كما يصور الفيلم نفسه ما تركته تلك الحرب من آثار نفسية مُدمرة على بعضهم. والبرنامج التسجيلي الضخم “أفغانستان:زئير الأسد الأخير” للمخرج ريتشارد ساندرز، الذي يعد أول استعادة بانورامية ضخمة للظروف التي قادت للحرب في أفغانستان، ثم ملابسات الوجود البريطاني وما آل إليه.
شارك في البرنامج التسجيلي الأخير عدد كبير من الشخصيات العسكرية والسياسية البريطانية والأمريكية، كما شهد حضور لحركة الطالبان نفسها، عبر أحد أعضائها الذي ظهر مُتخفياً، وقدم وجهة نظر لا تظهر غالباً في الإعلام الغربي.