“عودة إلى لامبيدوزا”.. بقوارب المهاجرين
قيس قاسم

الموت في لامبيدوزا أكثر من أي وقت مضى، ولا بد من الذهاب ثانية إليها لمعرفة ما الذي يجري هناك، بعد مرور عامين على كارثة غرق قارب للمهاجرين قبالة ساحلها راح ضحيته أكثر من ثلاثمائة إنسان، واليوم يدور كلام في وسائل الإعلام يختلف عما عرفته عنها وعن سكانها الذين تأثرّوا وقتها بالحادث وتعاطفوا مع ضحاياه.. هكذا ظهرت فكرة “العودة إلى لامبيدوزا” كما يلخصها المخرج “كريستان كاتوميرس” وأراد توثيقها هذه المرة بوصفه سينمائياً وليس صحافياً، انتقل وقتها إلى الجزيرة من تونس لتغطية الحدث للتلفزيون السويدي، وربما لهذا السبب جاءت مقاربته فيما بعد للمكانين.
يدخل صانع الوثائقي إلى موضوعه مباشرة عبر مقابلة نجار من سكنة الجزيرة يُكرِّس الكثير من وقته لمساعدة المهاجرين القادمين إليها، ولولا خوفه من المحاسبة القانونية التي تمنع مساعدة المهاجرين غير الشرعيين لفَتَح بيته على الدوام لهم.
التوجُّه إلى الرجل جاء بناءً على نشاطه الذي توجّه بفكرة مبتكرة تعتمد على صنع صلبان من بقايا حطام القوارب يقوم بتوزيعها بنفسه على الكنائس والناس لتذكيرهم بمآسي إنسانية لا بد من الالتفات إليها وعدم تجاهلها. الفكرة سرعان ما انتشرت في بقية مدن السواحل الإيطالية وازداد الطلب عليها، أما حافزه إلى صنعها فكان نابع من الموقف غير السوي في التعامل مع البشر درجات.
فالحكومة ووسائل الإعلام الإيطالية غطّت بشكل لافت أخبار الهزة الأرضية التي حدثت في نفس الوقت تقريباً وراح ضحيتها عدد مقارب لعدد “مهاجري القوارب” لكن بفارق أن لا أحد اهتم بهم وبمصيرهم التراجيدي. من سؤاله: أليس هؤلاء بشراً مثلنا؟ راح كريستان كاتوميرس يتلمّس المزاج التضامني للجزيرة مع القادمين إليها من أعماق البحر، فوجد وسجل ما لم تُسجِّله وسائل الإعلام قط.

فمنذ عشرين عاماً حين اشتدّت موجات الهجرة إلى الجزيرة الصغيرة والصيادون من أهلها عرضة لتأثيرات المناظر التي تواجههم كلما مضوا نحو أعماق البحر: جثث لمهاجرين متناثرة فوق الأمواج وبقايا حطام سفن خشبية خذلتهم لهذا قرروا بناء مقبرتين غير رسميتين: الأولى للموتى والثانية للسفن المحطمة تُذكر المارِّين قرب سواحلها بمآسي بشر اضطرتهم صعوبات العيش للبحث عن مكان آخر قد يؤمِّن لهم حياة أفضل!
يمضي “عودة إلى لامبيدوزا” Back To Lampedusa في بحثه عن الروح الإنسانية للجزيرة المعتمدة على السياحة والصيد، ويضفي عليها طابعاً درامياً منخفض النبرة موثقّاً بالصورة المعبرة والكلام الشعري المؤثر، ثم يتوجه بتسجيل نادر للّحظة التي تعرض فيها قارب خشبي صغير يقل مهاجرين تونسيين لموجات عالية ورياح عاتية قلبته وتركت ركابه يصارعون الموت.
مشهد مؤثر يغني عن الكلام ويدعو إلى التفكير بمصائر البشر التي تتوارد أخبارهم سريعاً في وسائل الإعلام ودون اهتمام. على مقربة من الساحل التقى صانع الوثائقي الشاب علي، أحد الناجين من الحادث واستمع إلى تفاصيل حكايته التي وصفها “كفيلم سينمائي” وفكر على ضوئها بضرورة الذهاب إلى الجهة الأخرى من البحر لمعرفة المزيد عن الأسباب التي تدفع شاباً قوياً للهجرة والمجازفة بحياته بدلاً من المكوث في بلده والعمل فيه بعد الثورة التي أطلقت ربيعا عربياً.. مع أن صانعه يعرف الكثير عن أحوال البلاد التي مكث فيها زمناً فأنه كان معنياً كسينمائي بعرض الصورة بكل أبعادها وتقديمها من منظور يراعي فيه الجوانب التقنية والفكرية ويقدمها بالطريقة التي تُجنِّبه الوقوع في مطبات العمل الصحافي.
خرج كاتوميرس، بعد معايشة طويلة وصبورة استمع فيها وقابل كثر من التونسيين بنتيجة مفادها: سقط نظام بن علي الاستبدادي لكن الظروف لم تتغير كثيراً والرغبة في الهجرة لم تنخفض. فحلم الخلاص يدفع الشباب نحو الذهاب الى الجهة الأخرى: أوروبا، حتى لو كان الثمن باهظاً.
يقارب الوثائقي الحالة الإنسانية المشتركة للبشر في الضفتين. فالمتعاطفون مع “الحراقة” كما يسمي التونسيون الهجرة بلهجتهم المحلية، يشعرون بفداحة الأوضاع التي تدفع الناس هناك لركوب البحر بقوارب مهترئة، كثيراً ما تخذلهم، وتدعوهم على الدوام للتفكير بالظروف الحياتية الصعبة لهؤلاء القادمين إليهم. فليس من المنطقي بالنسبة إليهم أن يغامر الناس بحياتهم فقط من أجل الوصول إلى جزيرتهم الصغيرة التي بالكاد توفِّر لهم عيشهم.
وفي الطرف الثاني يدرك الخاسرون لأولادهم وأحبتّهم مصدر العناد عند شبابهم على خوض التجربة. فالذهاب إلى الطرف الآخر من البحر ليس نزهة ولا ترفاً بل حاجة نابعة من حسّ تضامني ينشد تحسين أحوال “المحترقين” وأحوال عوائلهم.
يندهش المرء من قوة رصد الوثائقي لهذين الجانبين وحرصه على تبريزهما عبر ملاحقة شديدة لحالات فيها من القوة التعبيرية ما يحتاجه وثائقي يريد تناول الظاهرة من جوانب متعددة وينشد الإحاطة بدوافع “مهاجري القوارب” ويغور في أعماقها على غير عادة وسائل الإعلام التي تميل غالباً إلى السطحية والعجالة.
وثائقي ينطلق من التجارب الصغيرة والشخصية ثم يذهب إلى ما هو أكبر منها ولهذا جاء متنه الحكائي متماسكاً وصادقاً. قوياً كمتنه الدرامي.

ملازمته لسيدة من مدينة “النور” فقدت أخيها الصغير وتخشى على ضياع ولدها الذي تركها وغادر هو أيضاً إلى “لامبيدوزا”. بكاؤها الطويل أمام قبر أخيها الذي ركب البحر ولم يعد وحديثها عن الأوضاع الاقتصادية بلغة شديد الإقناع وغاية في البساطة، تجلى جانباً من المشهد الحياتي في تونس.
لا يميل “عودة إلى لامبيدوزا” إلى التضخيم ولا إلى المبالغة فهو يدرك أن المشهد العام للمهاجرين في أوروبا ليس وردياً ولهذا وحتى لا يسقط في “يوتوبيا” متخيَّلة يعود إلى رصد ما يأتي من أخبار عن مواقف معارضة للهجرة غير الشرعية، بدأت تظهر مؤخراً، أصحابها يتحججون بـ”طردهم” للسياحة واستنزاف ميزانية جزيرتهم في خدمات يقدمونها لهم، لهذا قررت البلدية إغلاق المعسكر المخصص لاستقبالهم وجرفت مقبرة القوارب الواصلة إلى سواحلهم، وطردت من بين من طردت الشاب التونسي علي، الناجي من الموت بأعجوبة، ما اضطر الوثائقي للذهاب إلى تونس لملاقاته هناك ومعرفة مشاعره.
يُغني هذا الجزء من الوثائقي قسماً من موضوعه كونه يلامس حالة شبابية جامعة، من خلالها يمكن فهم أسباب ترك البلاد وأي مستقبل ينتظرهم في مهجرهم وفي أوطانهم التي تعجز عن تأمين احتياجاتهم الحياتية بأبسط شروطها.
تفاصيل حياته مطروداً من “الحلم الأرضي” صارت كمرآة عاكسة لمصاعب الحياة في ظلّ انعدام توفر العمل وحتى الدراسة المهنية اللازمة، وكشفت أيضاً قساوة المؤسسات الرسمية الغربية التي تعامل المهاجرين كحالات طارئة دون النظر إلى حقيقة ما يجبرهم للمجيء إليهم، فيما تؤكد تفاصيل المشاهد المسجّلة بين طرفي البحر، بعين سينمائية حساسة وروح تواقة إلى الغوص عميقاً في الظاهرة، التي يبدو أنها لن تنتهي.
فالهجرة لن تتوقف ما دامت الأسباب الدافعة لها باقية وهذا ما أراد الوثائقي توصيله بلغة سينمائية عالية الوضوح اجتمعت فيها حلاوة التصوير وندرة المشاهد وعمق الرؤية لسينمائي جاء من التلفزيون والصحافة واستخدم خبراته فيها لصالح عمل جريء عاد فيه إلى “لامبيدوزا” بقوارب المهاجرين غير مبالي بالنتائج، فما كان يهمه بالدرجة الأولى هو تقديم الحقيقة وترك مشاهده فيما بعد يتأمل الحالة ويعيد النظر في موقفه منها!