أفلام الفقدان في السينما

إسلام السّقا

لقطة من فيلم “أزرق”

تدرك غالبيتنا أن فقداننا لأحدهم يعني بالضرورة أننا لن نتجاوز الأمر أبداً، لكننا نحاول دوماً التأقلم مع تلك الفجوة، والتي ستحاصرنا بدورها كلما حاولنا الخروج. نفقد شخصاً لا نستطيع الحياة دونه.

ينكسر قلبنا، ويبقى شعورنا بالنقص للأبد. إلا أن الأمر يُشبه أحياناً العيش بقدم واحدة. سنعاني من العرج لكن ذلك لن يمنعنا من تعلّم الرقص إن أردنا.

 إن حالة الفقد المريرة تبقى حاضرة في السينما بقوّة، لأن التعامل مع تعقيدات العلاقات الإنسانية هو أكثر من مجرد مصدر إلهام لإنتاج أعمال فنية تحقق نجاحاً، لكنه يمثّل وجعاً يلتحم في لحظة من لحظاته مع وجع جمهور المتفرجين الذين قرّروا الاستسلام لأكثر من ساعة ونصف أمام شاشة عملاقة ليسمعوا قصصاً عن معاناة غير معاناتهم ولو لمرة.

“أزرق”

في فيلم “أزرق  Blue” للمخرج البولندي “كريستوف كيسلوفسكي”، نجد أن جولي، السيدة الباريسية التي فقدت زوجها وابنتها للتو في حادث سير وتلعب دورها الممثلة جولييت بينوش، تحاول بشتى الطرق قطع صلتها مع الماضي. تقرر الانفصال التام عن ذكرياتها وكل ما له علاقة بما حدث، ومحاولة التركيز على ما سيحدث، فتعلق بين هذا التمرّد وبين انغلاقها على ذاتها. قطيعة مع الزمن لا يبقى منها إلا ثُرية زرقاء، وقطعة حلوى بنفس اللون. تُحارب ذاكرتها بنفسها، لم يعد يهمها ما يجب أن تذكره، فليس هناك من يُمكِنها التذكّر معهم. خسارتها لمن عاش معها اللحظات عنت لها خسارة تلك اللحظات نفسها. أن تخسر ذاكرتك بهذا المعنى. كما لو أن الأشياء التي اعتدت على فعلها قد خسرت حقيقتها ومعناها الذي كانت عليه قبل ساعات قليلة. وهذا بدوره، يحوّل كل شيء في مخيلتها إلى فخ. العلاقات، الذكريات، الأصدقاء والحب، كلها أفخاخ من شأنها أن تضرها أكثر. فيسيطر على جولي حزنها العميق، حزناً يدعو لصمت طويل. فلا تبكي ولا تُبدي أي انفعال.

– لماذا تبكين؟ 
– لأنكِ لا تبكين .

تقوم جولي بعلاقة جنسية مع صديق زوجها الذي حاول التقرّب منها بعد وفاة صديقه وابنته، فلا نرى مشهداً جنسياً هنا بل نرى تفاصيل وجهها الجامد. يبدو أن هذا النوع من الأحزان قد عرفه كيسلوفسكي عن قرب. حزن لا بكاء فيه، فقط صمت مُخيف. هذا ما يمثّل التقاطة للمشاعر الإنسانية في الفيلم كما لم نرها من قبل. فلا نراها تبكي إلا عند انتهاء الفيلم، تبكي وتبتسم. دموعها تحررت فقط عندما انطلقت نحو الحياة، عندما اندمجت أكثر في التفاصيل التي حاولت اختراق باب بيتها فقالت في نفسها “لن أفتح الباب، ليس الآن”. لكنّ الحياة لا تنتظر أحداً، هي فقط تأتي وتذهب متى أرادت.

“إشراقة أبدية لعقل نظيف”

لقطة من فيلم “إشراقة أبدية لعقل نظيف”

محاولة التخلص من سيرة الحبيب الراحل/ السابق هي فكرة تراودنا دوماً لا شك. لكن ماذا لو امتلكنا فعلاً القدرة على محو سيرة أحدهم من ذاكرتنا بشكل كامل، هل نفعلها؟ هل نرغب بالتخلص من ذكرياتنا مع أشخاص نكرههم الآن، بينما قضينا معهم أوقاتنا الجميلة عندما كان ما يجمعنا هو الحب؟

لربما هذه الأسئلة يجيب عنها فيلم “إشراقة أبدية لعقل نظيف Eternal Sunshine of the Spotless Mind “، والذي يحكي قصة جويل (جيم كاري) شاب يكتشف أن حبيبته كليمنتاين (كيت وينسليت) قد قررت محو كل ذكرى لها مع صديقها، فيقوم هو بفعل نفس الشيء، قبل أن يكتشف أنه لن يستطيع إخراجها من قلبه مهما فعل، فيحاول أن يحافظ على ذاكرته التي تتلاشى منه أثناء قيامه بعمليّة محو الذاكرة تلك. يعطي هذا العمل لمشاهديه أكثر من قاعدة قابلة للنقاش. لكن يبدو أن الطرح الأكثر أهمية هنا هو إحدى النتائج المُباشرة التي يسعى الفيلم لطرحها كحقيقة نابعة عن تجارب مرت بها النفس البشرية تفيد بأن أي محاولة يقوم بها المرء من أجل فهم نفسه هي فعل عبثي في حد ذاته، بل إنه أناني ومُتوهَّم. فرغم إعطاء بعض الحرية للبطل في نهاية الفيلم، نجد أن الحقيقة تكمن في صحوة هذه الشخصية أخيراً، وإدراكها معنى الجمال في العذاب نفسه، هذا العذاب الذي يمثّله كل من الحب والحياة.

الحزن لا يغيرنا، بل يكشفنا

يجري حوار في بداية فيلم “أرق في سياتل Sleepless in Seatel” بين مذيعة على إحدى محطات الراديو و”سام” بطل الفيلم الذي يلعب دوره الممثل الأمريكي “توم هانكس”. في هذا الحوار يتجلّى معنى الفقد كممارسة جسدية وانفعالات مكررة ورتيبة إلى حد الموت. سام الذي انتقل من شيكاغو إلى سياتل في محاولة لتجاوز فترة الاكتئاب الحاد التي لازمته منذ وفاة زوجته يجد نفسه مُرغماً على إجراء هذه المكالمة التي يستمع إليها سكّان المدينة بعد أن قام بتوريطه فيها ابنه الوحيد، والذي سعى من خلال هذه الفعلة أن يجد لأبيه مخرجا من هذا البئر العميق الذي بدا أن لا مخرج منه إلا من خلال حبّ جديد.

لقطة من فيلم “أرق في سياتل”

– تسأله المذيعة : إن الأشخاص الذين جرّبوا الحب الحقيقي مرّة يكونون قابلين أكثر لتكرار تلك التجربة من جديد. هل تعتقد أن هنالك شخصا آخر في هذا العالم يمكنك أن تحبّه كما أحببت زوجتك؟
– سام : من الصعب تخيّل ذلك.
– ماذا ستفعل إذاً؟
– حسناً، سأنهض كل صباح وأغادر سريري.. ثم أتنفس شهيقاً وزفيراً طوال اليوم، وهكذا حتى أصل إلى مرحلة لا أحتاج فيها لتذكير نفسي بضرورة النهوض والتنفّس كلّ يوم.. وبعدها بفترة، لن أحتاج للتفكير في الطريقة التي من خلالها أصبحت الأمور على ما يرام.

في فيلم “المال المُسترَّد Cashback” نلامس من جديد حالة الفقد التي تليها نوبة الاكتئاب تلك. رغم أن حالة الفقدان هنا هي انفصال مبني على قرار عقلاني اتخذه “بين ويليس”، بطل الفيلم،  الذي انفصل لتوه عن حبيبته سوزي. لم يستطع “بين” النوم رغم ذلك. بالتالي، فهو يمتلك ثماني ساعات إضافية.

تم تمديد حياته بمقدار الثلث كما يقول. أراد للوقت أن يمر بسرعة، لكن عوضاً عن ذلك، أُجبر على مُراقبة مرور كل ثانية من كل ساعة في حياته. أراد لشعوره بالفقدان أن ينتهي، لكن وبطريقة وحشية، أصبح  لديه المزيد من الوقت ليفكر في الأمر. هنا يبقى “بين” ضحية جديدة للكليشيه الشهير “ستتجاوز الأمر، إنها مسألة وقت..”، قد تكون المشكلة في هذه الجملة تحديداً في أن فقدانك لمن تحب يعني أن تتغير حياتك للأبد، وليس الأمر بتلك البساطة، لا يمكنك “تجاوز” من أحببت.

قد يتوقف الألم لأن هنالك دوماً أشخاصاً جُددا في حياتك، إلا أن الفجوة لن تمتلئ أبداً. وماذا لو كانت تلك الحفرة في القلب لا يملؤها إلا شخص واحد. ماذا لو لم يكن هنالك رغبة بسد تلك الفجوة أصلاً بعد حدوث هذا الفُراق.

“الأمر يتطلب تقريباً 500 باوند لسحق جمجمة إنسان، لكن العاطفة الإنسانية هي أمر أكثر حساسية. خذ سوزي، على سبيل المثال، أوّل حبيبة حقيقية لي، وأوّل انفصال حقيقي أيضاً. لم يكن لدي فكرة عن أن الأمر سيشبه حادث سير. لقد شددت الكوابح بعنف، وانزلقت بعدها إلى نوبة حادة من الاكتئاب. إذاً، هل هذا كله خطأي؟”.


إعلان