“جاك أوديار”: محاكاة الواقع ومعايشته
أحمد مجدي رجب
(1)

فلنفترض أننا نقف في أحد الميادين، في لحظة مُحدّدة من النهار، في تاريخ محدد. ضوء الشمس الملائم لهذه الساعة يصنع إضاءة المشهد. الخلفية الصوتية تصنعها ضوضاء السيارات، وأغنية تأتي من أحد المقاهي القريبة، وأصوات اضطراب الهواء، وأصوات مختلطة للمارّة في الشارع.
عناصر المشهد هي، مثلاً، سيارات تتعاقب بلا انتظام في الطريق، وطفل في ثياب المدرسة يعبر الإشارة مع أمه، وفتاة تتحدث في هاتفها بقلق، ومجموعات متناثرة من الأشجار، ورجل يدخّن سيجارة، وكلب يبحث عن شيء يصلح للأكل …. كل هذه العناصر ترتجل المشهد، وتصنع منه موقفًا لا يتساءل أحدٌ عن مدى صدقه. لأن كل عنصر هنا يلعب دوره بصورة طبيعية تسمح لبقية العناصر بأن تعايش ما يحدث فيه. وهذا هو ما نطلق عليه اسم: الواقع.
لنفترض كذلك أننا قد غادرنا هذا المكان لمدة ساعة، ثم عُدنا إلى ذات البقعة من الميدان. فإننا سوف نجد كل هذه العناصر من صوت وضوء وأشخاص قد اختلفت. وأن الماضي الذي كان يحدث قبل ساعة قد انتهى. وقد حُجب عنّا إلى الأبد. وكل ما يبقى هو صورة في الذاكرة، أو بالأحرى انطباعات ذاتية عمّا كان يجري. ولقطات مبتورة من المشهد الكامل الذي كان يحدث قبل ساعة. ولذلك فقد كان هناك دائمًا هذا الاهتمام الإنساني بحبس لحظات معينة من الزمن، وتوثيقها في صورة واضحة يمكن الرجوع إليها، مثل تلك اللحظة السابقة. وربما يكون ذلك هو الدافع وراء ظهور الفنون البصرية بشكل عام. فالرسم مثلاً يشبه أن يعمد أحدهم إلى مشهد ثابت ويقوم بتدوينه. ثم جاءت الفوتوغرافيا لتقتنص لحظات بعينها، وتبقيها ثابتة في هيئة صورة. ثم جاءت الأفلام لتستطيع حبس فترة كاملة من الزمن .. توثيق بالصوت والضوء في هيئة فيلم. ولكن الفارق يأتي في أن صانعي الأفلام يحاولون توثيق ماضيًا لم يحدث من الأساس. وهم ما يمكن أن نطلق عليه: محاكاة الواقع.
وبذلك فإن ما يميز بين الفيلم الجيد والفيلم السيئ، هو قدرة صانع الفيلم على تلفيق واقع قابل للتصديق. ليست الأولويّة هنا لقضيّة اجتماعية بعينها يناقشها الفيلم، أو في طرح إشكالية فلسفية ما. إنما الأهمية الحقيقية تأتي من قدرة أحدهم على الإيقاع بالمشاهدين في الإيهام على الشاشة دون أن يتساءلوا عن منطقيّة ما يحدث. لأنهم قد اشتبكوا معه وعايشوه. ليس المهم أن يكون بطل الفيلم هو أحد النماذج التي نقابلها بصورة يوميّة. إنما القيمة الحقيقيّة تأتي عندما يصدّق المشاهد إمكانيّة وجود بطل الفيلم في الواقع حتى وإن كان شخصيّة غرائبيّة لا نصادفها كثيرًا. فإن استطاع الناس أن يتماهوا مع الحكاية، وصدّقوا أداء الممثلين، وإن شعروا أن القطع الموسيقيّة في الفيلم موضوعة في أماكنها الشعوريّة الصحيحة، وإن شاركتهم الألوان مع ما يشعرون به، فهذا هو الفيلم الجيد. وسوف تستطيع هذه الحكاية المُصاغة بإتقان أن تنسج معناها الخاص عند كل مشاهد فيما بعد.
ومن بين صانعي هذه النوعيّة من الأفلام، يختار هذا المقال أن يتحدث عن الفرنسي “جاك أوديار” الفائز هذا العام بسعفة مهرجان كان الذهبيّة 2015.
(2)
يقول جاك أوديار: “أنا لا أصنع قطعًا فنيّة. ولكني أصنع أفلامًا. فترات من الزمن، واحدة تلو الأخرى.”

في بداية حياته أراد “أوديار” أن يكون مُعلمًا. وكانت دراسته أدبية بعيدة عن مجال السينما. في أحد الحوارات يذكر أوديار هذه الرغبة المبكرة. ويصفها بأنها كانت أمرًا غير واضح حينها. وفي سن الثانية والعشرين كانت أول خبراته مع مجال السينما. عندما شارك والده المخرج والكاتب “ميشيل أوديار” في تطوير سيناريو أحد أفلامه عام 1974. هذه الحكاية على بساطتها إلا أنها تمثل تنويعًا على التيمة المتكررة في أفلام المخرج الفرنسي. وهي التصادم المستمر بين ما يريده البطل وبين ما يسمح به الواقع. كل إنسان يمتلك تخيلاً ضبابيًا عن كيفيّة إدارة حياته. ولكن ما يحدث بالفعل هو ما يُقرِّره الواقع الذي يحياه هذا الإنسان. هذا الإنسان الذي يستطيع بصورة ما أن يتعايش ويصنع تصوّرًا بديلاً عن تصوره الأول. وقيمة كل بطل ها هنا، حسب قول أوديار، هو قدرته على المقاومة. وخلق حياة بديلة بقواعده الخاصة. فالإنسان يجب ألا يمتلك استعدادًا لأن يعيش قصة حياة واحدة. ولكن يجب أن تكون لديه القدرة على صياغة قصة أخرى.
عندما فاز أوديار بالسعفة الذهبيّة هذا العام عن فيلم Dheepan، كان الأمر بمثابة نهاية للانتظار الطويل، الذي بدأ عام 1996 مع فيلمه الروائي الطويل الثاني بعنوان: A Self Made Hero. واستمرّ بعد فيلمه الأشهر: A Prophet الذي أحدث ضجيجًا في دورة عام 2009 من المهرجان وخسر السعفة الذهبية ولكنه فاز بالجائزة الكبرى حينها. ثم الترشيح الأخير عام 2012 عن فيلم Rust and Bone.
(3)
1996 – الملحمة المُلفقّة … A Self Made Hero
يتميّز المراهقون عن غيرهم بنوع من الطموح المجرد للعظمة والتميّز. والبيئة المحيطة بهم تكون مسئولة عن بلورة هذا الطموح لاحقًا في صورة هدف بعينه. يبدأ الفيلم بحكاية عن أحد هؤلاء. “ألبرت دوس” مراهق يعيش في أحد القرى الفرنسيّة مع والدته الأرملة، بعد وفاة والده كبطل في الحرب العالمية الأولى. نشاهده يقرأ حكايات البطولات القديمة. ونشاهد أمه تحكي عن ذكرى والده وموته من أجل وطنه. ويبدو لنا “ألبرت” شابًا صغيرًا ممتلئًا بالاستعداد لخوض ملحمة غير موجودة. وبعد سنوات تبدأ الحرب العالمية الثانيّة. ويكون المراهق قد صار رجلاً. يترك وراءه كل شيء من أجل المشاركة في المقاومة الفرنسية ضد النازي. ويذهب إلى باريس. وبعد عدة محاولات فاشلة هناك، تنتهي الحرب. وتضيع فرصته الأخيرة في الملحمة.
يحاول “ألبرت” الانخراط في مجتمعات باريس الراقية. ويُلفِّق ملحمته الخاصة. ويدّعي أنه يهوديًا بولنديًا، قد غادر بلاده إلى لندن للمشاركة في المقاومة هناك. وقد أتى إلى فرنسا بعد نهاية الحرب. ويصدق الجميع الحكاية. ويصل الأمر إلى أن يصير عاملاً بالجيش الفرنسي، يطارد بقايا النازي في ألمانيا.
يُسأل “أوديار” في أحد المقابلات: هل ألبرت دوس شخص كاذب؟ .. فيجيب: لا!
صورتنا عند الناس هي ما نخبرهم نحن به عن أنفسنا. وعندما فشل “ألبرت” في خوض ملحمة حقيقيّة، ادّعى ملحمته الخاصة .. وصدقّه الناس. لقد صنع لنفسه عالمًا بالقوانين التي أرادها هو. وكانت هذه هي طريقته في التعايش مع الواقع الذي لم يمنحه ما يريد.
2009 – مايكل كورليوني من جديد .. A Prophet

ينتهي فيلم “الأب الروحي” في جزئه الثاني بصورة شهيرة لـ “مايكل كورليوني” (آل باتشينو) جالسًا في حديقة منزله. تحمل ملامح وجهه علامات لسنين كثيرة مضت. تحوّل خلالها من الشاب المرتدي للملابس العسكرية الذي رأيناه في بداية الفيلم الأول، وغير الراضي عن انتمائه لإحدى عائلات المافيا في نيويورك .. إلى “دون كورليوني” الأب الروحي لهذه العائلة. والذي قتل أخيه في النهاية.
مايكل هو الحكاية الأيقونيّة التي يتحول فيها الفتى الصالح إلى الرجل الشرير، كي يستطيع النجاة في عالم لا يتعامل برفق مع الطيبين.
في عام 2009 تم عرض فيلم أوديار الأشهر بعنوان “نبي”. يقول المخرج الفرنسي في أحد الحوارات، إنها حكاية جديدة لمايكل كورليوني. يبدأ الفيلم بشاب صغير من أصل عربي في التاسعة عشرة من عمره. يدخل السجن لاتهامه بالاعتداء على أحد ضباط الشرطة. وينتهي الفيلم بذات الفتي بعد سنوات قليلة، وهو يخرج من السجن بعد أن تحوّل إلى رجل عصابات محترف.
في السجن تتعلم منذ اللحظة الأولى أن النجاة تتمثل في التخلص من الضعف. “مالك” هذا الفتى المندفع، الذي لا يمتلك سوى سيجارة و50 يورو يحاول أن يخفيها في حذائه أثناء ترحيله، يجد نفسه مُرغمًا من قِبل بعض رجال العصابات في السجن على قتل سجين آخر. وتصير المفاضلة هنا بين حياته وحياة ذلك السجين. وبالطبع يختار أن يحفظ حياته هو. يمثّل الفيلم حبكة التحوّل الشهيرة لإنسان يفقد إنسانيته بالتدريج كي يستطيع النجاة. ينتهي الفيلم بـ”مالك” يتسلم صندوق يحتوي على الـ50 يورو والسيجارة. ولكن الفتى الصغير الذي أُجبِر على أن يقتل ويسرق وينتقم داخل السجن، قد تحول إلى شيء آخر.
عندما عُرض فيلم “نبيّ” للمرة الأولى، أحدث صخبًا شديدًا. فهي حكاية عن شاب عربي مسلم أميّ. يستطيع أن ينجو داخل السجن ويصنع نفوذه، ويتحول إلى شخص قوي في النهاية عن طريق الاستعانة بمجموعة المساجين المسلمين. وبالطبع اعتبر البعض هذا البطل هو رمز للنبي “محمد”.
يعلّق “أوديار”، ضاحكًاعلى هذا التأويل، بأن الأفلام الآن أصبحت ليس كما يريد لها صانعوها، ولكنها سوف تخضع لتأويل يخدم مصلحة سياسية ما. فهو لم يصنع فيلمه بهذا القصد الرمزي. لكنها مجرد حكاية أخرى.
2012 – البحث عن جسد .. Rust and Bone

بعد الضجة التي صنعها فيلم “نبي”، أراد “أوديار” صناعة شيئًا آخر. قصة حب كما يصفها. كان قد قرأ مجموعة قصصية لكاتبة كندية. وقرّر دمج قصتين منهما في معالجته لفيلمه. القصص كانت مكتوبة بطريقة بصرية جيدة، وهو ما كان عاملاً لتشجيع “أوديار” على استخدامهم.
يبدأ الفيلم برجل وطفل. الرجل يمثل جسدًا؛ يأكل ويشرب ويمارس الرياضة والجنس. أما الطفل، وهو ابنه، يبدو خارج عالم والده تمامًا. وهناك هذه الفتاة، تعمل كمدرّبة حيتان في أحد مدن الملاهي المائية. امرأة لا تشعر بشيء حقيقيّ. تنجذب إلى بعض الرجال أحيانًا لكنها تملّ سريعًا وتتركهم. لا علاقة حقيقيّة بين الرجل والمرأة ها هنا سوي موقف عابر في أحد المقاهي.
يحدث التحول لاحقًا عندما تتعرض الفتاة لحادثة أثناء عملها، تؤدِّي إلى بتر ساقيها، وهنا تبدأ الصلة بينهما. لقد صارت المرأة بلا جسد تقريبًا، لا تقوى على فعل شيء. ولكن هذا العجز خلق لديها رغبة حقيقيّة للمرة الأولى في حياتها، وهي رغبة الحصول على جسد. هذا هو سبب انجذابها الحقيقيّ إلى ذلك الرجل/الجسد “علي” .. تتشكّل بينهما في البداية علاقة جنسيّة تمامًا. ولكنها تتطور في النهاية إلى حالة من الإشباع لجميع الأطراف. فهذه الحكاية كما يصفها أوديار، هي حكاية طفل يبحث عن أم، ورجل يبحث عن امرأة، وامرأة تبحث عن جسد. استطاعت هي أن تمنحه بعض الروح، كانت كافية كي يكتشف أنه يحب ابنه حقًا. واستطاع هو أن يمنحها، من خلال إدارة أعماله كمصارع، بعضًا من الجسد.
(4)
يقول “جاك أوديار” أن الأفلام تشبه حلمًا له جذوره في الواقع. يجب أن يترك المشاهد نفسه للصورة تأخذه حيث تريد. يتفاعل مع ما يشاهد بكل حواسه. الواقع هام، ولكن يجب أن يكون هناك مساحة للخيال والشعر والحكاية.
يُنتظر أن يعرض فيلم Dheepan بفرنسا في شهر أغسطس 2015. وهو حكاية أخرى عن الخطط المتخيلة التي يكسرها الواقع. حيث يمثل الفيلم رجل وامرأة وفتاة يهربون من الحرب الأهليّة في سيريلانكا إلى باريس. ويقيمون في أحد الأحياء الفقيرة هناك، التي يسيطر عليها مجموعات من العصابات المتقاتلة. فهي حكاية فرار من حرب إلى حرب أخرى .. وهي تيمة تنتمي بشدة إلى سينما “جاك أوديار”.
يُقال أن الجمال يُعرَّف بالجمال. وقد بدأ هذا المقال كمحاولة للوقوف على أهم أعمال المخرج الفرنسي الفائز بالسعفة الذهبية لهذا العام. ولكنه انتهى كمقال عن السينما الجميلة. واستخدام أوديار كأحد نماذج هذه السينما. وهو ما يشكّل قيمة مضافة لأحد أهم مخرجي السينما الفرنسية في عقديها الأخيرين.