السوريالية والسينما: تداعيات التدفّق الحُر

طارق خميس

لوحة فنية لسلفادور دالي

بالإمكان التفكير بالموجة على أنها أشكال مختلفة للبحر، لكنّ التفكير  في البحر على أنّه التحوّل الأوّل للنار – كما يقول هيراقليطس – فهذه ممارسة لا تنتمي لقواعد الذهن المنطقيّة لكي تُحاكم بها، إنها عبور العتبة التي تفصل بين الشعور واللاشعور ليجد المرء نفسه مفتوحاً على أفق بلا نقطة وصول، وهناك تبدو المتناقضات منزوعة من أسباب تناقضاتها.

إنّ مغامرة الإنسان باتجاه ذلك الخيال المتحرِّر من قواعد العقل، هي دعوى المدرسة السوريالية. وعليه يقول بريتون في بيان السوريالية الأول: “الخيال والتوهُّم قاعدة الحرية الأولى، إعلاء ينزل من العقل والمنطق، فهما لا يجديان خارج المشكلات الثانوية.. الإنسان الحديث وصل بحجّة المدنية والتقدم إلى أن يصُم كل بحث عن الحقيقة، خارج الطرق العقلية المنطقية، بأنه توهُّم وسحر”.

القلب الذي تمارسه السوريالية يمسّ العلاقة مع الأشياء وليس العلاقة مع التعبير عنها، وهي مقاربة لا تحتفي بنفعية الأشياء أو بوظيفتها الأداتية، وإنما تؤسِّس لعلاقة شاعرية معها، تطيح بوظيفتها وبسطحية الإنسان المعاصر معاً.
لقد اتكأت السورياليّة على محاولات سبقتها، وبذورها منثورة بتراث ضخم للإنسانية، ولكنها استلّت من هذا المجموع ما يصلح لقيامها؛ فاعتمدت على نيتشه وبرغسون في ما يقولاه عن الدفعة الحيّة والحدس والذاكرة، وفرويد عن اللاشعور كجزء من الحياة النفسية كمثل الشعور تمامًا. ووضعت عدّتها في مهمة إعادة النظر في الحضارة الغربية، بعد مناخ الحرب العالمية الأولى عام 1920 في باريس.    

رصاص وأحذية

“من مقوِّمات أبسط عمل سوريالي أن تشهر المسدسات في الشارع، وتطلق الرصاص عشوائياً قدر المستطاع بين الجماهير”. يكتب بروتون في البيان الثاني. ولكن هذه الرصاصات التي كان من رواد إطلاقها في السينما “بونويل” في تعاونه مع “سلفادور دالي” بادلهم فيها الجمهور بإطلاق الأحذية. الأمر نفسه حدث مع فيلم “استراحة” الذي عُرض في جمعية الفلم 1926 كما يتذكّر مونتاغو في انجلترا.

لقطة من فيلم “كلب أندلسي”

إن الجمهور المتعب من ستة أيام عمل يقصد كرسي السينما كمكان للاسترخاء والمتعة، والفيلم السوريالي غير معدّ للفهم، إنه ليس فقط غير قابل للفهم بل ضد الفهم نفسه، حيث على العقل أن يتنحّى أمام الشاشة ويترك الشعور وحيداً بانفعالاته مع ما يرى، وهذا تمرين لم يعتد عليه جمهور يستريح لما يعرف، ويرتاب من غيره، واللقاء بين المتعة والشعور خارج العقل هي مهمة العمل الفني السوريالي، وغالباً ما يعترض العقل الجماهيري على هذا اللقاء أو لا يستسيغه.

يتلقّى الجمهور العمل السوريالي غالبًا بوصفه الفن الذي ليس لهم، وهم بذلك لا يرفعون شأنه؛ بل يضعونه في مكان يسهّل إطلاق النار عليه دون أن يصيبوا أقدامهم.

تلقِّي السوريالية في السينما يحكي عن علاقتنا المتأخّرة بالصورة؛ ولذلك فالفيلم السوريالي مطالب بتفسير نفسه، قبل أن يُقدِّم مقومات جمالية لوجوده، إنّ حجج بقائه قائمة به بقدر ما يكون هو قابلاً للفهم، وليس بقدر ما يُحدث من الأثر الجمالي، وهكذا يتراجع الجمالي لصالح المألوفية الاجتماعية، وإنّ ما هو مألوف إن لم يجرِ إعادة اكتشافه فهو لا يقيم مع النفس غير علاقة تأكيدية على ما خبرته مسبقاً، وربما هذا ما يريح المجتمع في التعاطي مع ما يعرف، إنها ليست مغامرة محسوبة؛ بل المغامرة وقد كفّت عن كونها كذلك.

معجم الخيال

كانت السوريالية في السينما تطرّفًا مارسته الصورة على الحكاية، هي ليست بلا حكاية لكنها تحتاجها لتتجاوزها وليس لتخدمها، في خضم عملية تسمح للسريان بأن يتحقّق من خلال المخرج والفيلم كمنتج نهائي، إنها كما قال رامبو عن شِعره: “نحن نُفَكَر ولانُفكِر” وهو من التحق بالسوريالية بعد وفاته.
وهي حالة وصفها اراغون باقتدار:” ..كان كل شيء يحدث كما لو أن الفكر، وقد بلغ هذه النقطة من اللاشعور، قد فقد القدرة على التوجُّه. كانت تحلّ محله صورة متجسدة، تصبح فيما بعد مادة واقعية وكانت تفصح عن نفسها…كنا نشعر بقوة الصورة كلها. وكنا بدأنا نفقد القدرة على التحكُّم بها.كنا قد أصبحنا مجالها ووسيلتها ..”

لقطة من فيلم “البجعة السوداء”

من يشاهد فيلم “المرايا” مثلا لتاركوفسكي، عليه أن يضع وعيه جانباً ويتّتبع الصور بوصف تتابعها تدفقًّا للشعور، وليس للحكاية، وبذلك فالفيلم يحتاج لعين تنظر للصور بدون عقلها. ما تريد قوله السوريالية – وقد اقتحمت السينما –  أنّ العقل في الرأس والعين كذلك وهي مستقلّة عنه.

في فيلمه “كلب أندلسي” يقيم بونويل – رائد السينما السوريالية – بالتعاون مع الفنان سلفادرو دالي، تداعيّا حرا لأحداث وصور لا يمكنها أن تكون منطقية إلا بقدر ما تكون الأحلام كذلك. تبدو الأحلام بما تُشكِّله من تدفّق حُر المعين الأول للفنان السوريالي، وهو ما جعل  روبير ديسنوس قادرًا على النوم إراديا حتى في مقهى صاخب، أو ملازمة اللوحة البيضاء لسرير سلفادور دالي، وإن قمنا بغض الطرف عن أن الأحلام تشتغل بمادة الواقع أساساً؛ فإنّ التحدي الأكبر يكمن في الذاكرة التي تحمل الحلم من لحظة الاستيقاظ للحظة خلق العمل الفني، لا يتعلّق الأمر بالتذكُّر فقط بل بإعادة الإنتاج والتي هي مهمة عقلية بامتياز.

أمام هذا التحدِّي أخذت السوريالية في السينما تتعامل مع الأحلام وعالم ما فوق العلاقات المنطقية بوصفه معجمًا، وليس حقلاً للإنتاج، وهذا يعني أنها بكل وعي كانت تنتقي وتحذف من مادته وتشتغل منه عملها، دون أن تجعل من العمل وفضائه حقلاً مغلقاً يقود عملية الإبداع بحسب ادعّاء السوريالية الأول.

إنّ هذا التعامل الواعي مع عوالم ما وراء العقل دفع بالإنتاج السينمائي السوريالي للأمام؛ فعمل مثل”البجعة السوداء”    Black Swan للمخرج دارين أرنوفسكي، لا يمكن تصنيفه عملاً سوريالياً خالصاً، لكنه استفاد من معجمها فاقتبس الأحلام بذكاء دعم الحكاية دون أن يشوِّشها، وجعل من فكرة ثنائية الخير والشر، بدون حدود واضحة بفضل اختفاء الحدود بين الحلم والواقع الذي تجلّى بصراع بطلة الفيلم “نتالي بورتمان”، وبطريقة مختلفة اشتغل المخرج المكسيكي جييرمو ديل تورو في فيلمه المدهش “متاهة بان” Pan’s Labyrinth حيث تجري حكاية الثوار بتسلسل منطقي على هامش عالم فانتازي تعيشه فتاة صغيرة في ذات القرية.

 السوريالية ضد نفسها

بقدر ما قامت السوريالية على الانتصار للخيال فإنها ملجأ لنضوبه أيضاً، وعلى قدر ما السوريالية موقع مرتفع لإنتاج مالا يمكن قوله، فإنها منصّة أيضًا لمن ليس لديه ما يقوله، وبين ما لا يمكن قوله ولا شيء يقال، ترد مسألة التمييز في ذلك للذوق، لقد ذهب الأمر بالفنان الشهير دوشان إلى حصر موهبته بالتوقيع على الأشياء الجاهزة “ريدي- ميد” وأظهر أنه يمكن لكل شيء مُصنّع أن يرقى باختيار الفنان إلى مستوى الفن، وقد اشتهرت “حاملة القوارير” و”المبولة” التي عُرضت في نيويورك عام 1917 تحت اسم “سبيل”ـ وهكذا بفضل السوريالية أمكن للمبولة أن تصبح عملاً فنياً، وللذوق وحده يُترك الحكم فيما إن كان هذا انتصار للخيال أم لنضوبه.

ونحن نقول ذلك لأن المهمة النقدية تجاه العمل السوريالي تقترب من فقدان خصائصها كون النقد بحكم التعريف مهمة عقلية، وقد حاول دالي اسلبو اقتراح “البارانويا النقدية” وهي في نظره مدخلاً نقدياً للمعرفة غير المنطقية “أساسها جعل الأفكار والأحاسيس المتداعية والتآويل الهذيانية ذات موضوعية قابلة للانتقاد والتنسيق”، لكن ذلك يبدو شبه مُتعذَّر حيث الحقلان لا يقفان على الأرضية نفسها.


إعلان