العالم السفليّ العنيف للمهاجرين
محمد موسى

على خِلاف مُعظم أفلام المهاجرين الأوروبية، يغوص المُخرج الفرنسي بوريس لوجكين في باكورته الروائية “هوب”، في عالم العلاقات المُعقدّة التي تربط بين رفاق الطريق من المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، مُركزِّاً على قصة فتاة أفريقية تدعى “هوب”، يتم اغتصابها عن طريق مافيات المهربين في الصحراء الأفريقية، ثم ينقذها شاب أفريقي من الضياع أو الموت، ليتوجهان بعدها معا إلى المغرب، حيث سينتظران من هناك الفرصة لعبور الأطلسي باتجاه أوروبا..القارة الحلم.
يتشكل الفيلم الروائي حول أوقات الانتظار الطويلة للمهاجرين في المغرب، والعالم السفليّ القاتم الذي يشيده المهاجرين غير الشرعيين من حولهم. فهم يتحولون إلى مجتمع صغير غير مرئي من الخارج، عنيف للغاية من الداخل. تُوَّلد وسط كل الظروف القاسية التي ينسجها الفيلم بتمكُّن كبير، قصة حب عذبة تسير عكس كل خراب العالم من حولها.
عن فيلمه وظروف تصويره كان هذا الحوار لموقع الجزيرة الوثائقية مع المُخرج الفرنسي بوريس لوجكين:
• لماذا اخترت المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين موضوع لأول أفلامك الروائية؟
لست ناشطاً اجتماعياً أو سياسياً أو مفكراً، لكني مُهتم في الحقيقة بنوعية مُعينة من القصص. أنا صانع أفلام في المقام الأول أحب أن أقدم حكايات مُثيرة. ما جذبني إلى الموضوع هو اهتمامي بنوع خاص من الشخصيات والحيوات، والمغامرات التي تحدث على طريق البعض للوصول إلى غايات معينة. قرأت مثل كُثر في أوروبا قصص اللاجئين على صفحات الجرائد. فنحن نجلس على كراسينا المريحة في بلداننا الآمنة لنقرأ عن أشياء فظيعة تحدث في العالم حولنا. وقائع القصص التي نقرأ عنها لا تبعد جغرافيا كثيراً عنا. اللاجئون ليسوا بعيدين عنا، فهم على الجانب الآخر من المتوسط. كان هميّ أن أتصل بذلك العالم، وأن أقدِّم قصصاً بشرية وظروفاً لم يعد لها وجود في الجزء المتحضِّر من العالم.
• عملت أعمال تسجيلية من قبل، هل راودتك الرغبة لعمل فيلم تسجيلي عن قضية الهجرة غير الشرعية، لا أقصد عن القصة التي قدمها فيلم “هوب” بالتحديد، ولكن عن اللاجئين بالمطلق، لماذا القالب الروائي؟

أعتبر الفيلم هذا هو جزءاً من تطوري المهني والشخصي. عندما كنت أعمل على أفلام تسجيلية كنت أحاول أيضاً سرد قصص. وصلت بعدها إلى نقطة أنه من السهل سرد قصة ما باستخدام الشكل الروائي المُتخيل. أنا مهتم بموضوع اللاجئين والمهاجرين، مهتم أيضاً بالعنف الذي يرافق عملية الهجرة وتهريب البشر، والعلاقات المُعقدة بين المهاجرين أنفسهم. هذه قضايا لا يمكن عرضها ضمن أفلام تسجيلية لأنك لا تملك المفتاح لها. المهاجرون لا يدعوك تقدم هذه القصة كما تشاء. لأني كنت مهتماً بهذا المستوى من الحقيقة، كان من الأسهل تقديم الموضوع عن طريق الشكل الروائي.
لقد سمعت أثناء التحضير لهذا الفيلم قصصاً مُدهشة ومروعة من الذين قابلتهم. هم أخبروني بهذه القصص لأنهم شعروا بالأمان معي، وعرفوا أنهم لا يتحدثوا لمُخرج تسجيلي وأن شخصياتهم أو أسمائهم لن تظهر في أي عمل فنيّ. سمعت قصصاً عن العنف، وأحياناً القتل، قتلهم لبعضهم. لم يكونوا ليخبروني بهذه القصص لو كنت قدمت نفسي لهم كصحفي أو صانع أفلام تسجيلية. ما حدث أني قابلت هؤلاء الناس وكانوا يعرفون نيتي إنجاز فيلماً روائياً. بعضهم سمع ببحثنا عن ممثلين. لهذا شعروا بالأمان وأخبروني حكاياتهم، التي أطلق عليها قصص الطريق. وكيف أن هؤلاء المهاجرين القادمين من صحراء أفريقيا، ينظمون أنفسهم لعبور الصحراء ومن ثم المغرب والجزائر في طريقهم إلى اوروبا.
أحداث فيلمي تجري في المغرب والجزائر، حيث يبدو هؤلاء المهاجرين بعيدين جدا عن بلدانهم الأصلية، ومازالوا بعيدين أيضاً عن وجهاتهم النهائية. هم في وضع بين عالمين. وجودهم غير شرعي، إذ أن الشرطة تطاردهم، لذلك كان عليهم أن تنظيم أنفسهم وخلق عالم سفليّ يعيشون فيه. هذا العالم السفلي أثارني كثيراً، ولم أشاهده في أفلام تسجيلية أو مقالات أو تقارير المنظمات المُختصّة باللاجئين. فغالبا ما يتم التحفُّظ على أسراره كما أن أفراده يميلون لكتم تفاصيله عن العالم الخارجي.
• كيف تمت عملية اختيار الممثلين، وظروف التصوير في المغرب والجزائر؟
لم نصوِّر في الجزائر.صورنا الفيلم كله في المغرب، وهو بلد يسهل العمل به، لانفتاحه على الصناعة السينمائية العالمية.
• هناك مشهد في الفيلم وجدته شخصيا صعباً على المشاهدة، عندما شَتَمّ صاحب دكان مغربي أحد الأفارقة بعنصرية. هل وافقت الرقابة على المشهد بسهولة؟
الرجل الذي لعب دور المغربي في المشهد ذاك هو أحد العاملين في الفيلم، إذ كان يقوم بإعداد الطعام لنا، وأنا طلبت منه تمثيل هذا المشهد فقط. بعد التصوير توجّه المغربي إلى زميله الأفريقي ليعتذر منه وبشده لاستخدامه تلك الشتيمة معه. لكن العنصرية ظاهرة موجودة بشكل كبير في المغرب. لقد لاحظت بنفسي أشكالاً عديدة للعنصرية وربما أكثر من أوروبا. هنا تسود “اللياقة السياسية” التي تمنع من ظهور أشكال معينة من العنصرية. هناك توجد العنصرية وبدون أي لياقة. لذلك المغرب هو بلد يصعب العيش فيه للمهاجرين الأفارقة. وعندما أقول المغاربة أقصد الناس العاديين والسلطات على حد سواء. فالمناطق التي يعيش فيها الأفارقة تشهد عُنفاً كبيراً. هناك من أخبرني قصصاً عن اعتداءات وقعت لهم دون أسباب، وشرطة تقبض عليهم دون ذرائع واضحة. لكن بشكل عام لم يكن صعباً التصوير في المغرب بعد حصولنا على التصريحات اللازمة. الأمر الذي كان يُقلقنا أثناء التصوير هو خشيتنا أن يُقبض على الممثليين الأفارقة في الفيلم والذين كانوا يقيمون بطريقة غير شرعية في المغرب.
• حتى الممثلين الرئيسيين كانوا من المقيمين غير الشرعيين؟

نعم، كلهم بدون استثناء. كما لم يكن أياً منهم يملك أي تجارب في التمثيل، هم يختلفون عن التعريف الشائع للممثلين غير المحترفين، إذ يُقصد بهؤلاء غالباً ممثلون درسوا التمثيل أو يعملون في مسارح الهواة. ممثلو فيلم “أمل” كانوا بلا خبرة على الإطلاق في عالم التمثيل. ولم يكونوا يحلمون في حياتهم بالوقوف أمام الكاميرات. هم آتون من عالم مُختلف كثيراً. الممثل الرئيسي هو لاعب كرة قدم مُحترف، حاول أن يلعب في أندية صغيرة في المغرب. عندما قابلته كان بلا عمل. والممثلة التي أدت دور “هوب” كان تعيش في ظروف سيئة، إذ كانت تسكن مع طفلها في غرفة صغيرة وكانت تضطر للتسول أحياناً لكي تحصل على ما تأكله.
بقية الممثلين بدون خبرات في التمثيل. لكنهم كانوا يحملون شيئأ خاصاً لن أستطيع أن أجده مع آخرين. طريقتهم في الكلام مثلاً كانت مميزة وتختلف كثيراً عن الممثلين من الأصول الأفريقية الذين يعيشون في فرنسا. هناك لهجة خاصة للذين يتحدثون بالفرنسية والآتين من أفريقيا، بخاصة الذين لم يتلقّوا دراسات عليا. لهجتهم مُركبة مُحببة. أردت لممثلي الفيلم أن يتحدثوا هذه اللهجة الخاصة ويعرفوا ماذا يعني العيش في “الغاتو”. قمت بالطبع بعمل بحوث عن الحياة هناك لكني لم أكن لأستطع وحدي نقل الانطباع او الشعور عما يعننه أن يعيش المرء هناك. لذلك منحتهم حرية كاملة في كتابة الحوارات الخاصة بهم وإضافة ما يشاؤون من فسيفساء وتفاصيل على الشخصيات.
الممثلون لعبوا جنسياتهم الحقيقية في الفيلم، تعمدت ألا ألعب في هذه التفاصيل. لا يُعجبي ويغضبني تلاعب البعض مع الشخصيات الأفريقية، أي أن يلعب أفريقي من دولة مُعينة شخصية أفريقي من دولة أخرى. هذه نظرة فيها كثير من التعالي والعنصرية، أي ألا نميز أو نولي عناية لجنسيات الممثلين الذين يقومون بأداء شخصيات بعيدة عنهم أحياناً. هناك للأسف احترام قليل للغة والجنسية في الأفلام التي تقدم قصصاً عن العالم البعيد عنا.
• في فيلمك لن نعرف الكثير من التفاصيل عن الشخصيات، عن حياتها السابقة قبل أن تبدأ رحلتها هذه. هل كان هذا مقصوداً، بمعنى أن علينا كمتفرجين أن نتعامل مع الشخصيات كما هي بدون معرفة خلفياتها؟
هناك جزء منه مقصود، وفي جزء آخر كان قراراً وصلنا إليه أثناء عمليات التوليف. في الحقيقة صورّنا مشهدين، الأول للبطل والثاني للبطلة وهما يتحدثان عن ماضيهما. إذا اشتريت يوما ما الإسطوانة الخاصة الخاص بالفيلم ستجد المشهدين في قسم المشاهد المحذوفة (يضحك). كانا مشهدان مُؤثران خاصة للممثلة وهي تروي لماذا تركت بلدها (نيجيريا)، وكيف تركت زوجها بسبب معاملته القاسية. أحببت ذلك المشهد بسبب عاطفيته الشديدة وتمثيلها الجيد. كما أننا ولغرض كتابة هذا المشهد، قمنا بتوظيف تفاصيل من حياتها الحقيقية فيه. لكن أثناء عملية المونتاج لم نجد المشهد مثيرا بالقدر الكافي ولا ينسجم مع الروح العامة للفيلم.
بدت المشاهد التي صُوِّرت في الصحراء المغربية، كمحاكاة للصحراء الأفريقية التي قطعها المهاجرون وكأنها مُنفصلة عاطفياً عن المشاهد التي ستعقبها. فالشخصيات وعندما كانت تعبر عدة بلدان في رحلتها داخل الصحراء الأفريقية كانت تشعر بأنها لاتزال في أفريقيا. بعد الصحراء بدت الأمور مختلفة وكأن الشخصيات دخلت عالماً جديداً، غريباً وعدائياً، يجهلون التعامل معه. أردت للفيلم أن يكون في منطقة وسط ، ليس في أفريقيا ولا في أوروبا. لذلك شعرت أن القصص الخلفية للشخصيات ليست مُهمة. ربما لأن أسباب الهجرة هي ذاتها في كل مكان، ويمكن تلخيصها بكلمة واحدة هي “الفقر”.
• أريد سؤالك عن البطل. فهو لم يكن شخصا لطيفاً أو نبيلاً، لكنه مثير للفضول ولا ريب أن المشاهد سيكون شغوفا به، كيف تفسر هذا التناقض في رأيك؟
هو لم يكن بطلاً بالمعنى المعروف. هناك شيئاً مثيراً وخاصاً بوجهه، وهو السبب الذي جعلني أختاره. في الحقيقة كان هو نفسه مُتفاجئاً لاختياري له. لأنه خجول نوعا ما. وليس من النوع الذي يُحب الكلام. لكن وجهه كان يعبر عن دواخله، وفي نفس الوقت يصعب معرفة حقيقة ما بداخله بمراقبة وجهه فقط. اعتقدت بأن هذه الصفات ستجعله مثيراً للجمهور. البطل قام في البداية بتصرفات جيدة، بعدها اقترف أشياء مريعة، مثل بيعه البطلة – التي كان من المفترض أن يحميها – لأصدقائه في يوم زواجه منها. هو شرح أسباب فعلته، وبأنه هو الآخر عليه مسؤوليات في بلده. مسؤوليات عائلية بالدرجة الأولى. أظن أن هذا أثار تعاطف الجمهور، لأنه لم يكن شخصاً مُميزاً، الجمهور يحب أن يضع نفسه في محل هكذا شخصيات.
• كما تعرف أن هناك نقاشات كثيرة عن اللاجئين في الوقت الحاضر، ماذا سيضيف فيلم “هوب” إلى النقاش، ماهو برأيك الانطباع الذي سيبقى عند الجمهور بعد مشاهدته فيلمك؟
ربما لن يكون الناشطون الاجتماعيون مرتاحون كثيراً لفيلمي. ربما يجدون بأني أظهر اللاجئين كشخصيات عنيفة. على عكس أفلام عديدة لا يركز فيلمي على اللاجئين أو المهاجرين كضحايا فقط. أردت أن أبرز الدينامية بينهم وليس فقط علاقتهم بالمحيط الذي يحلّون به وبالسلطات هناك. أردت أن أعرض العلاقة بين الشخصيات، وكيف أن من بينهم من يقوم باستغلال أقرانه. أعتقد من المهم للجميع، حتى للناشطين، أن يطلّعوا على هذه التفاصيل. كما أنه ضروري تسليط الضوء على ما يحدث للنساء في رحلاتهن لطلب اللجوء. رحلة الهجرة غير الشرعية قاسية على الرجال لكن قسوتها مُضاعفة على النساء. فكما نعرف تمتنع كثير من النساء وبسبب التقاليد الاجتماعية عن كشف ما يتعرضن له من اعتداءات بعضها جنسي في الطريق إلى أوروبا.