المال والقانون.. توافق أمريكي
قيس قاسم

مع كثرة ما فيه من أرقام وأسماء شركات مالية وبنوك، وعلى كل ما ورد فيه من مصطلحات اقتصادية وتعابير خاصة بحقل التداول المالي إلى جانب وجود عدد كبير من المعنيين بمتنه الحكائي من رجال أعمال وأصحاب بنوك ومحللين اقتصاديين، فإن عمل الأمريكي “نايك فيربتسكي” لا يتوجّه إلى نخبة العارفين بعالم المال، بل إلى جمهور واسع معنيّ بمعرفة أسرار هذا العالم ومواطن الفساد فيه والتوّاق إلى فهم الطرق والأساليب الملتوية التي يتخلص بها، غالباً، المتسبّبون في أزماته من المحاسبة، فيما يتضرر عامة الناس من جراء جشعهم، الذي أوصل العالم قبل سنوات قليلة إلى أزمة مالية عالمية، بدا وكالعادة أن “الحيتان” المتسببة فيها ستخرج منها سالمة لولا وجود المنقبِّين عن الحقيقة، والذين من خلالهم يدخل الوثائقي الأمريكي ليساهم بدوره في ملاحقة قلة من هؤلاء، لم يفلتوا من رقابة “الوعي المعرفي” الذي تمسّك به بعض الصحافيين وأصروا على كشف أكاذيب “النخبة المالية” وتلاعباتها وخروقاتها القانونية والأخلاقية، ما دفع أجهزة الشرطة والقضاء للتدخل في مهمة شاقة سمّاها الوثائقي “للقبض على تاجر” To Catch A Trader.
يعود الوثائقي الأمريكي، وكمنطلق لما يصبو التوصل إليه، إلى مقال نشرته صحيفة “جورنال وول ستريت” في نوفمبر من عام 2010، أي بعد قرابة سنتين من الأزمة المالية العالمية، لمَحت فيه إلى قيام مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي “إف.بي.آي” بتحقيقات مع بعض أصحاب صناديق ائتمان مالية وبنوك كبيرة في “وول ستريت” اعتمدت في عملها على “تسريبات داخلية” وحققت بفضلها أرباحاً هائلة وكانت جزءاً، كما سيتضّح، من أسباب أزمة 2008 العالمية.

يلتقط “للقبض على تاجر” الخيط الذي مدّته له الصحيفة القوية التأثير في السوق المالي فيسرع إلى تسجيل ردود فعل دونالد لونجيل المستشار السابق في شركة “إس.آي.سي” الأكبر في سوق التدوال المالي والأسهم الأمريكية والذي ورد اسمه في قائمة المستجوبيّن ما دفع مديرها “ستيف كوين” وكإجراء استباقي، للقيام بإتلاف عشرات الحواسيب وتمزيق آلاف الوثائق في مكتبه الواقع في مانهاتن ورميها بنفسه في سيارة جمع القمامة للتخلص منها، حتى لا يترك أدلة تدينه في أي تحقيق محتمل معه.
بدورها تتمكن الوكالة من الحصول على تصريح يسمح لها بمراقبة مراسلات ومكاتبات مجموعة من المشكوك بتورطهم بالفساد وتسجيل مكالماتهم الهاتفية وبريدهم الإلكتروني. عبر هذا الأسلوب التشويقي، الذي اتخذّه فيربيتسكي لفيلمه وربما بدونه يغدو مملاً وغير مفهوم، سيلاحق تطورات قضية فساد مخفية تحت ظاهر قانوني أطرافها الفاعلة رجال يتمتعون بقوة سلطة المال، مثل “ستيف كوين” الذي غدا أسطورة “وول ستريت” وموضع إعجاب العامة بسبب النجاح الهائل الذي حقّقه في العقود الثلاثة الأخيرة في سوق المضاربات النقدية. للربط بين “الوسيلة” اللاقانونية ومستخدميها يركز الوثائقي كثيراً على “المسربين الداخليين” أي الوشاة الذين يستخدمهم صاحب الشركة المالية من أجل الحصول على معلومات داخلية تخص شركات أخرى منافسة يعملون بها.
يقرب فيربيتسكي مفهوم المُسرب عبر تفسير عمله كناقل للمعلومات وبالتالي فعملية التسريب تعني؛ نقل المعلومات السرية من شركة إلى أخرى ليتخّذ على ضوءها التاجر المستفيد منها قراراته، فحينما يعرف من “مُسرب المعلومات” أن شركة مالية ما تنوي خفض قيمة أسهمها يسارع وعلى الفور لشرائها وعند حدوث العكس يبادر في بيعها وهكذا يخرج رابحاً في الحالتين، وهذا ما كان يفعله كوين واعتمده أساساً لعمل “إس.آي.سي كابيتل” المتخصصة بـ “صناديق التحوّط” الائتمانية الأنجح والأكثر شعبية في أسواق “وول ستريت”.

قلة من المقربين منه يعرفون سرّ نجاحه أما بالنسبة لعامة الناس فكانت إدارته وحكمته في نظرهم هي سبب نجاح شركته التي وفرّت للمساهمين فيها أرباحاً مضمونة وسريعة ما جعلهم يتهافتون على شراء أسهمها والمضاربة بها في الأسواق المالية دون تردد، ولم يلتفتوا إلى حصته الكبيرة من كل عملية والتي تتجاوز أحياناً نسبة 60% من الأرباح.
لم يهتموا بمعرفة سر قدرته على الربح وانعدام خسارته تقريباً وصدقوا ما كان يشاع عنه بأنه عبقري وأحسن من يُحلِّل أرقام ومؤشرات سوق الأسهم. بدوره لم يكشف شيئاً عن دور “المُسربين الداخليين” في عمله، لمعرفته بعدم شرعية هذا الأسلوب، وتجريم القانون الأمريكي له، لكنه ظل يراهن عليه بل أن كل نجاحاته اعتمدت، كما يظهر في الشريط الذي جنّد عدداً من الصحافيين المختصين بأسواق المال لإدارة الحوارات والمقابلات الخاصة بالمتهمين بالفساد، على دقة وأهمية ما يقدّمونه من معلومات مقابل حصولهم على ملايين الدولارات.
لقد أضحى “كوين” أفضل زبون للبنوك لأنه الأكثر دفعاً لموظفيها المتعاونين معه والذين لا يترددون في تقديم المعلومة المهمة له أولاً وقبل الجميع.
يضم “للقبض على تاجر” إلى جانب كوين عدداً من “الحيتان” الكبيرة من بينهم “راج راجراتنام” المدير التنفيذي لشركة “غالون غلاب” المالية والذي ساعدت مراقبة مكالماته على كشف عمليات “تسريب” دولية تعدّت الولايات المتحدة إلى شركات آسيوية خارجها وبيَّنت أن مبدأ خرق الشركات الأخرى بالو��اة والجواسيس المُسرِّبين للمعلومات قد وصل إلى مستويات مخيفة، يسجل الوثائقي الكثير منها ليصيب هدفه عبرها. فالتسريبات لا تكشف عن الوجه اللاأخلاقي، فحسب، بل عن فساد اقتصادي مستشري ومعتمد بشكل أساسي على شراء الذمم وخرق القوانين مقابل الحصول على ثروات هائلة تقدر بالمليارات يجري الوثائقي مسحاً سريعاً لها، بما يكفي لمعرفة نوع الحياة “العجيبة” التي يعيشونها و”جبال” المال التي يملكونها.

لا يكتفي أصحاب الشركات المالية بزرع “عيون” داخل شركات منافسة، بل يتعدّاها إلى مؤسسات إنتاجية ومصانع تؤثر منتاجاتها على حركة الأسهم وتداولاتها اليومية، مثل أسهم شركات الأدوية عبر ما يسمى بـ “خبير شبكة العمل” الذي يقوم بتقديم معلومات وافية ومفيدة لأصحاب الشركات المالية مقابل حصوله على مبالغ مالية تصل إلى خمسة آلاف دولار أمريكي مقابل مكالمة تلفونية قصيرة يقدم خلالها تصوراً عن احتمالات ظهور منتج جديد يرفع قيمة أسهم البورصة.
“الخبير” يحصل على المعلومات من خلال شبكة علاقات مع خبراء وموظفين في تلك الشركات. عن هذا الدور يقدم الوثائقي نموذجاً لحالات التلاعب عبر مقابلة يجريها مع صيدلاني اشترى أسهماً بقيمة مليون دولار بعد أن “سمع” برغبة شركة “إف. دي. إس كابيتل” زيادة أسهم مشترياتها من سندات شركة “ألان” المالية بعد اطلّاعها على معلومات تفيد بوجود تجارب على إنتاج دواء جيد لمعالجة مرض الزهايمر، ما سبّب زيادة الطلب على سندات الشركة الأمريكية، وخلال فترة فحص الدواء ربح “ستيف كوين” أكثر من مئة مليون دولار، ولكن وبعد تسريب معلومات جديدة له من “الخبير” تفيد بإقرار لجنة الفحص بعدم صلاحية الدواء تجارياً باع كوين أسهمه مباشرة فخسر الصيدلاني كل ما ادّخره في حياته خلال ساعات.
على مستوى آخر يكشف الوثائقي الأمريكي والشديد الخصوصية فيما يتعلق بقدرته بالوصول إلى أعماق مؤسسات محصنّة وعصية على الخرق، إلى حقائق جديدة تفيد بأن “الحيتان” تسرب توقعاتها الخاصة والمضمونة إلى أقاربها وأصدقائها وهذا ما ساعد رجال الشرطة الفيدرالية على تعقُّب المشتبه بهم حين راحوا يُدقِّقون في سجلات المضاربين في البورصة وقاموا بحصر أسماء الذين لم يخسروا أبداً فيها وعلى مدى طويل.
ستكشف هذه الأسماء عن صلتها المباشرة بـ”الحيتان” الكبيرة وبالتالي ستسهِّل مهمة الشرطة للوصول إليهم وتجنيد بعضهم للتعاون معها. سيضيف أحد الخبراء الماليين بعد اطلّاعه على سجلات وتحقيقات الشرطة بأن شركة “إس. آي. سي” وغيرها من الشركات المماثلة في فسادها قد أصبحت “مغناطيساً للمتلاعبين بالسوق”. المكالمات المسجّلة والتحريات الخاصة والمعلومات الواردة من المشتغلين مع الشركات المالية وفرّت للشرطة الفيدرالية أدلّة تكفيها لتوجيه تهم الفساد وخرق القوانين الأمريكية لمجموعة من أصحاب الشركات المالية والبنوك.
وبالفعل أُدينت شركة “كوين” بالفساد وأُجبرت على دفع غرامة مالية قاربت الملياري دولار دُفعت للمتضررين من تلاعباتها، أما هو وبقية الحيتان فأُطلق سراحهم لا لضعف الأدلة بل لأن القانون الأمريكي الخاص بجرائم المال لا يوجّه التهم إلى أصحاب المؤسسات بشخصهم بل إلى المؤسسات نفسها، إلا في حالة ثبوت تورطّه “الشخصي” في الجريمة وهذا ما يعرفه التجار جيداً فيعملون منذ البداية على عدم زجّ أنفسهم في تفاصيل الصفقات المشبوهة بل يتركونها لموظفيهم الذين يقدمونهم كأكباش فداء للعدالة بدلاً منهم، وهذا ما يُفسِّر سرّ بقاء كبار “التجار” وأصحاب المؤسسات المالية في مواقعهم، لأن القانون الأمريكي كُتب في الأساس لمصلحة الأثرياء والمتنفذين في السلطة والذين لا يمكن لهم أن يقبلوا بنصوص قانونية تجيز زجّهم في السجون، بل يمكنها فقط وفي أسوء الأحوال تغريم مؤسساتهم كي يتمكنوا هم من العودة إليها ثانية وترتيبها من جديد لتقوم بدورها الأساس: صُنع المال وبكل السبل وعلى مدى الدهر.