التكفير عن الذنب في فيتنام
أمير العمري

“الحفرة” The Crater فيلم جديد عن حرب فيتنام، يأتي هذه المرة من أستراليا التي كان لها دور إلى جانب القوات الأمريكية في الحرب الفيتنامية التي استمرت عدة سنوات خلال الستينات والسبعينات. الفيلم من إخراج ديفيد برادبري، الذي تخصّص منذ عام 1972 في إخراج الأفلام التسجيلية، وحصل على كثير من الجوائز العالمية، كما رُشِّح مرتين لنيل جائزة الأوسكار عن أحسن فيلم تسجيلي. أما فيلمه الجديد الذي أخرجه للتليفزيون الأسترالي، فهو من نوع “دوكيو دراما”، أي يعتمد على المزج بين المشاهد الوثائقية، والمشاهد التي يقصد منها إعادة تمثيل الأحداث باستخدام الممثلين، والتصوير باستخدام المؤثرات الخاصة في مواقع افتراضية، وليست المواقع الحقيقية بالضرورة.
هذا الفيلم المثير يستند على التجربة الذاتية للمقاتل السابق في فيتنام “بريان كليفر” الذي أُرسل مع غيره من المجندين الشباب عام 1967 إلى فيتنام وكان عمره وقتذاك عشرون عاما. وقد وجد نفسه هناك في هذه السن المبكرة، يخوض معركة قاسية مع القوات الفيتنامية استمرت عدة ساعات، كان يتعين عليه أن يقتل لكي ينجو، أو يواجه الموت، وكانت المعركة إحدى أشرس معارك الحرب الفيتنامية. وقد سقط خلالها أربعة من رفاقه، و42 من الجنود الفيتناميين الشباب الذين كان الكثيرون منهم لا يتجاوز السادسة عشرة كما يروي لنا كليفر.

انتابته بعد العودة من الحرب، حالة نفسية معقدة وهواجس عديدة سيطرت عليه وكانت تمنعه من النوم، وتجعله يخشى التواجد في الأماكن المغلقة، فكان يحرص – كما يروي لنا في الفيلم بصوته وصورته بعد أن أصبح الآن في السابعة والستين من عمره – على الجلوس دائما بالقرب من الأبواب، حتى ولو كان في مطعم أو مشرب مع أصدقائه، بعد أن أصبح الخوف الذي يسيطر على عقله الباطن يدفعه دائما إلى التواجد بالقرب من منافذ النجاة تحسبا لأي خطر. إنها الحالة التي تسمى “اضطراب ما بعد الصدمة”.
ومما ضاعف من حالته المضطربة، شعور عميق بالذنب تولّد لديه بعد أن شاهد بعينيه الـ 42 جثة من المقاتلين الشباب الفيتناميين، حين أدرك شعوريا أن لديهم أيضا أمهات ينتظرون عودتهم، وكان يتعين عليه هو ورفاقه أن يقوموا بدفن جثث القتلى الفيتناميين في حفرة ضخمة من تلك الحفر التي نتجت عن قصف طائرات بي 52 الأمريكية الثقيلة داخل غابة كثيفة قرب سايجون، حيث دارت المعركة. لم يعثر أحد على هذه الجثث، ولم تلق ما تستحقه من تقدير واحترام، خاصة وأن الفيتناميين يؤمنون بضرورة وضع جثث ضحاياهم إلى جوار أحبائهم لأنهم يؤمنون بتخاطب الأرواح.
ظلت الحالة النفسية المتدهورة لكليفر تعذبه لأكثر من 45 عاما إلى أن قرّر العودة إلى فيتنام، إلى أرض المعركة، مصحوبا بزميل من زملائه السابقين في الفصيلة، لكي يطلع الفيتناميين على مكان الحفرة، ليكتشف أنهم لم يكونوا على علم تفصيلي بما وقع، خصوصا الدفن الجماعي لجثث الـ 42 فيتناميا، ويقوم معهم باستخراج جثث الجنود ونقلها لذويهم، والأهم أيضا، تقديم الاحترام الواجب، والاعتذار للفيتناميين في إطار التصالح النفسي الذي يسعى إليه.
يصور الفيلم رحلة كليفر ووجوده في منطقة الغابات، وقيامه بالحفر بنفسه مشتركا مع الفيتناميين الذي وفرتهم له السلطات العسكرية، وخلال ذلك يتوقف لكي يستعيد تفاصيل ما حدث، ونشاهد إعادة تجسيد للأحداث من خلال المشاهد التي يشارك فيها ممثلون بكامل ملابسهم العسكرية ومعداتهم تم تصويرها للإيحاء بأجواء المعارك الضارية التي كانت تدور هناك.
يستخدم المخرج الكثير من اللقطات التسجيلية القديمة، للقصف الأمريكي والأسترالي، وتحليق طائرات الهليكوبتر، وانفجار الصواريخ، والاشتباكات التي أمكن تسجيلها وقت المعركة، ويظهر في الفيلم عدد من العسكريين الأستراليين الذين اشتركوا في القتال منهم رجل كان في شبابه عضوا في فرقة غنائية أسترالية شبيهة بفرقة البيتلز الإنجليزية.

نشاهد صور فوتوغرافية له في شبابه بالأبيض والأسود مع أعضاء الفرقة، يروي بالتفصيل كيف وجد نفسه مرغما على قبول التجنيد كما يصف مشاعره وهو في أرض المعركة، وتجربة الاقتراب من الموت لأول مرة، ثم موت أحد زملائه، ويعود بين حين إلى آخر، ليدعم ما يرويه بطل فيلمنا هذا، بريان كليفر، الذي مكث داخل خندق صغير لوقت طويل، أمامه دبابة، هي التي حمته من التعرُّض للرصاص، وكيف أنه فوجيء بمئات الفيتناميين المقاتلين يهجمون في موجات متتالية على مواقع فصيلته في تلك المعركة الشهيرة التي عرفت بـ “معركة كورال – بلمورال” والتي دارت في الفترة من 12 مايو إلى 6 يونيو 1968.
يحكي كليفر كيف كان الفيتناميين كانوا يستخدمون الحفر الكبيرة التي نتجت عن القصف الأمريكي ويختبئون فيها وينتقلون من واحدة لأخرى إلى أن أصبحوا على مسافة خمسين مترا فقط من الفصائل الأسترالية. ويصف كليفر كيف أن رشاشاتهم كانت تصبح شديدة السخونة من شدة القتال واستمراره لفترة طويلة، وكيف أنهم لم يكن أمامهم سوى التبول عليها لتبريدها حتى تصبح صالحة للاستخدام دون أن تتعطل!
يظهر في الفيلم ضباط سابقون في قوات فيتنام الشمالية أو من مقاتلي “الفيت كونج”، يكملون الصورة من الجانب الآخر، ويصف أحدهم كيف أنهم كانوا يقاتلون حتى الموت، ولم يكن لأي منهم أن يتراجع في أي وقت وإلا واجه العقاب الفوري، ولكنهم لم يكونوا يقاتلون – كما يؤكد – خوفا من العقاب بل رغبة في تحرير بلادهم. ويقول أحد الجنود الأستراليون السابقون أنه لو كان قد وجد نفسه محل الفيتناميين لما تردّد في القتال حتى الموت أيضا.
مناظر القتال شديدة الإقناع في الفيلم، فالمخرج ينجح في إعادة تجسيد الأحداث، ويمزج ببراعة بين التمثيل والمحاكاة، وبين الصور الفوتوغرافية واللقطات والوثائق المصورة التي نسيها الكثيرون ولا يعرفها معظم أبناء الأجيال الحالية، ومن بينها لقطات تُصوِّر الحملة الشعبية لرفض التجنيد الإجباري على غرار الحملة الأمريكية.
ويقول المخرج برادبوري إنه يعتبر فيلمه عملا مناهضا للحرب.. ويضيف “آمل أن ينقل الفيلم إلى المشاهدين في الوطن، فظائع الحرب وتكاليفها الباهظة، وآمل أن يفهم المحاربون السابقون في فيتنام الذين سيشاهدونه، أن جهودهم لقيت التقدير، ولكن يجب أن نحرص مستقبلا على عدم تكرار ما وقع، وأن نضمن إدارة نقاش على نطاق واسع مع السياسيين قبل إرسال أبنائنا الشبان للمشاركة في حرب تخوضها دولة أخرى”.
الفيلم يصل في بعض مشاهده إلى درجة عالية من التأثير، خاصة في مشاهد اللقاءات المباشرة بين الأسترالي كليفر ونظرائه من الجانب الفيتنامي، وكيف يتصاعد إحساسه بالذنب أمام الكاميرا، فينهار في البكاء، ويُردِّد أن مشاركته في تلك المعركة ظلت لا تفارق ذهنه لمدة 46 عاما، وأنه لجأ إلى طبيب نفسي كي يساعده في التغلب على أزمته، فنصحه بالذهاب إلى هناك ومساعدة الفيتناميين على استعادة رفات أبنائهم. وكان شقيقه مشاركا في الحرب أيضا، وقد عاد يعاني من الاكتئاب مما دفعه إلى الانتحار.
ولكنه لم يكن يتبادل أي حديث عن الحرب مع شقيقه، وقد فشلت جهوده في الوصول إلى موقع دفن رفات الفيتناميين، فلم يعثر سوى على رفات جندي واحد فقط، لتبقى أرواح الفيتناميين الشباب من ضحايا المعركة، تحلق فوق هذه الغابة الفسيحة دون أن يسدل الستار على معالم تلك القصة الحزينة!