هيروشيما وناغازاكي.. مكاشفات التاريخ
ما الذي تعنيه عبارة “يكشف لأول مرة حقائق جديدة” حين ترد في متن شريط وثائقي يتناول حدثاً تاريخياً ما؟ هل تعني أنه سيكشف خفايا وأسراراً لم يعرفها العالم من قبل ولم يتوصل إليها أحد قبله؟ أم تعني أنه سيعيد قراءة الحدث من زاوية جديدة وعلى أساس معطيات وآراء لم تعلن من قبل، لتضافر عوامل ومصالح كثيرة أبقتها طي النسيان؟
منجز المخرجة والمنتجة “لوسي فان بيك” فيه شيء من كل هذا! وربما في مجمل نصّه محاولة صادقة للإجابة على بعض تلك الأسئلة، النابعة من العبارة ذاتها، والتي حرصت على ذكرها في مقدمة شريطها “هيروشيما: العاقبة” Hiroshima: The Aftermath حين شرعت في مراجعة الحدث التاريخي في ذكرى مروره السبعين.
ثمة إجماع بين المؤرخين المعاصرين على أن البحوث السرية لإنتاج القنبلة الذرية الأمريكية، قد تمت كلها داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وفي معسكر سرِّي تم بناءه لهذا الغرض في مدينة لوس ألاموس في ولاية نيو مكسيكو وأشرف عليها علماء من كل العالم وبشكل خاص من ألمانيا من بينهم ألبرت آينشتاين، وأنهم قد توصلّوا إلى صناعة القنبلة الذرية بعد أن جمعوا كميات كبيرة من خامات اليورانيوم جرت معاملتها داخل المصنع وتم استخدامها فيما بعد لتطوير البحوث الخاصة بالقنبلة وصناعتها.
أمريكا تستولي على يورانيوم هتلر
الجديد، الذي يقدمه الشريط الوثائقي البريطاني ووثقّه بتسجيلات فيديو نادرة لم تُعرض على العامة من قبل؛ أن الجيش الأمريكي قد أخذ كميات كبيرة من اليوررانيوم كان ألمان قد أخفوها خلال المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية وفي لحظة انهيار جيوشهم أمام قوات الحلفاء.
تعرض التسجيلات عمليات التفتيش في الحقول الزراعية التي أخفى هتلر اليورانيوم فيها وكيف وضعت وحدة عسكرية أمريكية خاصة يدها على كمية كبيرة منها، قبل وصول الروس إليها، وقامت بنقلها عبر بريطانيا، إلى هانفورد حيث تجرى هناك عمليات معاملة الـ”بلوتونيوم” مختبرياً ليتم نقله فيما بعد إلى “المصنع السري”.
لم يُحقِّق هتلر حلمه في امتلاك السلاح النووي وانتهى الأمر، غير أن الأمريكان ظلوا يواصلون العمل في مشروعهم، فهناك حسب العقيدة العسكرية لقادته ما زال عدو آخر لا يقلّ شراسة عن النازية، اسمه: اليابان!
الكشف الجديد يكتسب أهمية على مستوى فهم أسباب حرص الولايات المتحدة الأمريكية على امتلاك القنبلة النووية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
الحفاظ على ماء الوجه
ويعطي لتحليلات المؤرخ “شين مالوي” عمقاً ومصداقية، فهو وعلى ضوء ما يقدمه الوثائقي له من كشوفات جديدة يؤسِّس لكتابة نصّ مغاير لما هو شائع من أدبيات حول القنبلة الذرية وتطبيقاتها في هيروشيما وناغازاكي، ويبني على ضوء مكاشفات مهندس الطيران “روسل جاكينباخ” وعالم الفيزياء “بنيامين بيدرسن” للوثائقي تفسيراته للموقف الأمريكي من حدث ربما هو الأبشع في تاريخ البشرية.
كل مجريات الحرب مع اليابان تشير إلى انهيارها واستعدادها للاستسلام والقبول بوثيقة “بوستدام”، وكل ما جمعه الوثائقي من حقائق عن طبيعة النظام العسكري الياباني وقسوته يؤكد الصورة الجديدة للكارثة، والعوامل التي مهدّت لها.
فالقادة العسكريون اليابانيون أدركوا قبل غيرهم أن شعبيتهم وبعد الخسائر الكبيرة لهم أمام الأمريكان قد بدأت بالضعف ومع هذا أصرّوا على ضخّ الأكاذيب عبر آلتهم الدعائية، في الوقت الذي بدأت الحكومة بنقل رسائل دبلوماسية، عبر الوسيط الروسي، تُبدي فيها استعدادها لتوقيع معاهدة الاستسلام، ولكن بشرط واحد: الحفاظ على حياة قيصرهم وإبقائه في الحكم.
الرئيس “هاري ترومان” يماطل في قبول الاستسلام الياباني
عند هذه النقطة يتوقف الشريط طويلاً ليكشف أسراراً، ويقدم تحليلات حول الموقف الأمريكي من الطلب الياباني. واحدة من الحقائق الدامغة أن اليابان أرادت بشرطها “الوحيد” الحفاظ على ماء الوجه، وأن الحرب كانت ستنتهي دون الحاجة إلى استخدام القنبلة الذرية لو وافق الأمريكان عليه.
لم يوافق الرئيس هاري ترومان وماطل لأنه خاف القوى المعارضة لقبول الاستسلام الياباني وفي مقدمتهم قادة الجيش والمخابرات والمخططين الاستراتيجيين الذين أرادوا ترسيخ الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الأعظم في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت القنبلة وحدها كافية لتحقيق ذلك.
ما يعرضه الوثائقي من خفايا بخصوص هذا الجانب غير المعلن شديدة الإقناع: فقد ظلّ طيارو الجيش مستمرين في تدريباتهم، التي بدأوها منذ ثلاث سنوات، على عمليات إسقاط القنبلة الذرية في السادس من شهر أغسطس عام 1945. لم يبلغ الرئيس روزفلت الكونجرس بالخطة السرية الموضوعة لصناعة القنبلة الذرية وأبقاها طيّ الكتمان.
بعد وفاته علم الرئيس الجديد هاري ترومان بالخطة ولكنها ظلت بيد الجيش، الذي تجاهل بدوره عريضة احتجاج ضد التفكير بتجريبها على البشر وقّع عليها سبعون من العلماء المشاركين في صناعتها ولم يقدمها المشرف العسكري على المشروع إلى الرئيس، إلى جانب الكشف عن مخطط عسكري معدّ مسبقاً تضمّن قائمة بأسماء المدن اليابانية المقترح مهاجمتها بالقنبلة الذرية.
80 ألف إنسان يُقتلون بلمح البصر
لقد كرّس قسم الإعلام الحربي جهده لإظهار اليابان وكأنها مصرة على مواصلة الحرب ضد أمريكا، وراحوا يروِّجون للقنبلة بوصفها الرادع الوحيد لعدوهم دون ذكر التفاصيل طبعاً. تتوفر في “هيروشيما: العاقبة” تسجيلات فيديو نادرة، ظلّت حبيسة الأرشيف لعقود، لطائرة خاصة بقسم الدعاية أُطلق عليها اسم: “الشر الضرورة” رافقت طائرة “بي 29” المكلفة بإسقاط القنبلة تؤكد ما ذهب الوثائقي إليه من أن قرار إسقاط القنبلة، بعد نجاح تجربتها فوق الأراضي الأمريكية، قد اتُخذ ولا رجعة عنه، وأن توثيق تفاصيل ما ستلحقه من دمار هائل سيعرضونها لاحقاً على منافسيهم لتخويفهم من مصير مشابه وبالتالي سيتمكنّوا بقوتها التدميرية من السيطرة على العالم.
على الجانب الياباني الأسرار والأسئلة ليست قليلة وعند الطيار مينيرو هوندا الكثير ليُضيفه إلى المتن الحكائي لوثائقي أنتجته الـ”بي بي سي” خصيصاً للمناسبة وأرادته متميزاً.
من بين الأسئلة المحيرة أن قسم الإنصات التابع للمخابرات العسكرية اليابانية رصد تحركات وتدريبات غير معتادة للطيران الأمريكي فوق المحيط، ما أثار شكوكهم، وقد أبلغوا القيادة بها وقبل يوم واحد توصلوا إلى أن قنبلة ربما غير عادية سيجربها الأمريكان ضدهم.
لم تصدر ردود فعل من قادة الجيش على تلك التقارير ولا حتى على آخرها الذي أشار إلى تحرُّك طائرات “بي 29” نحوهم. مع اقترابها من أراضيهم ومعرفتهم وجهتها: هيروشيما، لم يتم تحذير سكانها في وقت مبكر واكتفى الجيش بنقل حوالي 30 ألف طفل منها إلى أماكن أبعد من وسطها وظلّت الحياة تسير فيها بشكل طبيعي.
بعد خمس ساعات من انطلاق الطائرات وفي الساعة الثامنة والربع تقريباً، أنزلت الطائرة حمولتها وخلال ثوان قليلة اختفت المدينة من وجه الأرض وقتلت قرابة ثمانين ألف إنسان منها بلمح البصر.
المعاناة ما بعد القنبلة
على خط الوثائقي سيدخل الطبيب “سونتارو هيدا”، وشهادته عما جرى فيها والدمار الذي لحق بسكانها، لكن الجديد في روايته مثير. ذكر أن الحكومة اليابانية منعت دخول الأطباء والجنود إليها في البداية وفرضت تكتُّماً على ما جرى بها لدرجة أن بقية المدن لم تسمع بتفاصيل الكارثة إلا بعد مدة طويلة، وأن وحدات الجيش لم تُخلِ سوى الشباب المصابين بجروح والقادرين على تكملة الخدمة العسكرية، أما بقية السكان فتم تجميعهم في معسكر خالٍ من المستلزمات الطبية.
لم يعرف الطبيب ولا الطيار لماذا لم يُبلغ سكان المدينة بالهجوم المحتمل، فخمس ساعات، مسافة رحلة الطائرات من القواعد الأمريكية حتى وصولها الأراضي اليابانية، كانت كافية لتجنيب الآلاف المصير الذي واجهوه. يميل المؤرخ “شين مالوي” وحسب معطيات قدّمها ضباط مقربون من القيادة العسكرية، أنها كانت شبه متأكدة من أن الأمريكان لن يستخدموا قنبلة ذرية ضدهم، حتى لو امتلكوها بالفعل!
يكرس الوثائقي البريطاني قسماً لا بأس من وقته، الذي تجاوز الـ90 دقيقة، لحالة الأطفال في المدينة المنكوبة، ويُقدِّم حقائق سكتت الدولة المُستسلِمة عنها سنوات، حين ركزت في محاولة منها لإعادة الاعتبار لنفسها، على الجوانب الإيجابية من عملية البناء، فقدّمت وسائلها الإعلامية صورة زاهية وحيدة عن حالة التضامن الاجتماعية النادرة التي أظهرها اليابانيون، وإصرارهم على إخراج مدنهم من تحت الأنقاض، في الوقت الذي بينّت شهادات الناجين منها حقائق مختلفة فضحت إهمال الدولة بل غيابها بشكل كامل خلال الفترة التي تلت العصف النووي، وإطلاق يد عصابات “ياكوزون” للسيطرة على الأحياء السكنية والتحكم بالسوق السوداء.
مراكز الأبحاث الأمريكية تكذب في دراسة الإشعاعات النووية
لقد مات آلاف من الأطفال بسبب الجوع واستغل رجال العصابات أجساد الفتيات المشردات في الدعارة. لقد غاب الضمير وحل الاستغلال والجشع مكانه، وارتكبت الكثير من الفظائع تحت ظلّ القنبلة الذرية!
وعلى المستوى الصحي فالشهادات التي عرضها المصابون بأمراض سرطانية بسبب الإشعاعات النووية لا تحصى، تقاسمت مسؤوليتها الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة اليابانية.
يفضح الوثائقي دور مراكز الأبحاث الأمريكية لدراسة الإشعاعات النووية واكتفائها بدراسة الحالات دون تقديم مساعدة للمُتعرِّضين لها، كما كشف “هيروشيما: العاقبة” حقيقة أن نتائج القنبلة وآثارها على البشر كانت معروفة لدى العلماء الأمريكان قبل رميها من علو، لأنهم كانوا قد أجروا سراً اختبارات عملية على بعض الأسرى اليابانيين نُقلوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية سراً.
حقائق جديدة وتحليلات معمقة للقنبلة/ الفاجعة ولمسارات تطور الأحداث التي تلت إسقاطها تصيب المشاهد بالصدمة والخوف، لهذا جاءت شهادات من عايشها وتلظّى بنارها كصرخة احتجاج مدوية ودعوة للبشرية لمنع تكرارها ثانية!