“شاعر في نيويورك”.. طيش ومزاجية ورقة تصنع عالم أعظم الشعراء الإنجليز

Picture Shows: Dylan Thomas (TOM HOLLANDER) Laugharne

يجمع الفيلم الروائي “شاعر في نيويورك” (A Poet in New York) للمخرجة الأيرلندية “آشلينغ وولش” بين الدراما والسيرة الذاتية التي توثِّق لحياة الشاعر والقاص “ديلِن توماس” الذي كان في وقته أشهر الشعراء الغنائيين الأحياء في بلدان العالم الناطقة باللغة الإنكليزية.

لم يكن “ديلِن توماس” إنسانا عابرا في الوسط الثقافي البريطاني وإنما “كان أعظم شاعر في اللغة الإنكليزية” بحسب شهادة الكاتب البريطاني “فيليب توينبي”، فهو شاعر وقاص وكاتب نصوص إذاعية وصحفي قدّم خلاصة تجربته الإبداعية في مدة زمنية محدودة، قبل أن توافيه المنيّة وهو في عامه التاسع والثلاثين.

أما على الصعيد الشخصي فقد كان مدمناً على الكحول، ولا يجد حرجاً في إقامة علاقات عاطفية مع النساء اللواتي يثرن انتباهه، الأمر الذي هزّ علاقته الزوجية غير مرة، وأوشك أن يقوّضها لولا صبر زوجته الراحلة “كيتلين ماكنمارا” التي ظلّت بجواره حتى واجهَ مصيره المحتوم.

لا تقتصر الدراما في هذا الفيلم على موت “ديلِن” المفجع، فقد سبقه إلى الموت بعام واحد والده الذي كان يفتخر بابنه ويُقدِّر موهبته الأدبية، وفي الأشهر الأولى من عام 1953 توفيت أخته متأثرة بسرطان الكبد، ثم مات “ديلِن” نفسه في التاسع من نوفمبر من العام ذاته لأسباب متعددة، من بينها مرض ذات الرئة، وتضخّم الكبد، ونزف في الدماغ إثر ارتطامه بالأرض، إضافة إلى فقدانه الوعي ودخوله في أكثر من غيبوبة بين آنٍ وآخر.

الرحلات الأربع.. تنقلات بصمت مسار الشاعر

تعتمد بنية هذا الفيلم على الرحلة الأخيرة التي قام بها “ديلِن توماس” إلى نيويورك بدعوة من صديقه الناقد “جون مالكوم برينن”، ولا أدري لماذا أهمل كاتب النص والمخرج رحلاته الثلاث الأخرى، مع أنّ أحداثها كانت مثيرة جدا، ويمكنها أن تعرّي جانبا من أمراضه النفسية التي لم تُستثمر جيدا في هذا الفيلم.

كانت الرحلات الثلاث السابقة كلها رحلات عمل، الهدف منها جني النقود وتحسين الأوضاع المعيشية للأسرة برمتها، وقد استمرت رحلته الأولى عام 1950 ثلاثة أشهر، وقدّم فيها عدة قراءات شعرية في مركز الشعر بنيويورك، لكنه كان يتمادى في الشرب ويتهور إلى الحدّ الذي يخرج فيه إلى الشارع، ويمسك بتلابيب الناس ويهزهم أمام أعين الآخرين. وقد وصفه صديقه “جون” بأنه “شخص صعب المراس”.

أما رحلته الثانية عام 1952 فقد كانت مكتظة بالأنشطة الثقافية، وقد قدّم خلالها 46 نشاطا ثقافيا، غالبيتها قراءات شعرية ونثرية، لكن زوجته التي رافقته في هذه الرحلة الثانية قد اكتشفت خياناته الزوجية، الأمر الذي سيدفعها إلى التهور هي الأخرى وتعنيف زوجها في عدد من المواقف التي لا يُحسد عليها حقا.

ثمة أحداث ومواقف مهمة في الزيارة الثالثة، منها أن المؤلف الموسيقي وعازف البيانو الروسي الأصل “إيغور سترافنسكي” قد طلب منه أن يكتب له نصاً كلامياً للأوبرا، لكنه أمضى نحو عشرة أيام مع مساعدته “ليز ريتل” بعد أن أقام علاقة عاطفية معها، ضاربا عرض الحائط بكل المواعيد المهمة الأخرى، ومنها موعد الموسيقار الكبير” سترافنسكي”.

وفي هذه الزيارة تحديدًا سقط ديلِن من أعلى السلم إلى أسفله فكُسرت يده وكان بإمكان كاتب النص أن يستثمر هذه الحادثة لتعزيز سلوكه الطائش والمتهور، وقد عالجه طبيب “ليز” الخاص الذي سنراه في مشاهد متعددة من هذا الفيلم.

“فيرن هيل”.. تصفيق ينعش الثقة بالنفس ويحيي الشغف

شكّلت دعوة الناقد الأمريكي “جون مالكوم برينن” مفاجأة غريبة وسارة لـ”ديلِن”، لأنه كان يفكر بالهروب من المناخ الأُسريّ الخانق، فلا غرابة أن يُعبِّر في مفتتح الفيلم عن شكره وتقديره لـ”برينن” و”ليز” معا، لأنهما جعلا الزيارة إلى مدينة نيويورك الخرافية ممكنة. وأن أول شيء يطلبه هو مشروب البوربون الذهبي الذي أخذ -كعادته- يحتسيه كأسا بعد أخرى، حتى بدأ يتقيأ كل ما في جوفه، فخشيت “ليز” من صعوده إلى منصة القراءة، بل إنها طلبت من “جون” أن لا يقدّمه إلى الجمهور، لكنه فعل العكس، فهو أدرى بصاحبه الذي سيصحو حين يعتلي خشبة المسرح ويقف بمواجهة محبيه ومتذوقي شعره الغنائي الراقص الذي يجمع بين الأصالة والحداثة.

وكعادته قبل أي قراءة شعرية، استهل “ديلن” كلامه بالقول إنه اعتاد أن يكون مثل طفل صغير محبوب، بينما كان يتهوّر قبل لحظات، وبالفعل كان طفلا فاتنا ومحببا إلى النفوس حينما بدأ بقراءة قصيدة “فِيرن هِيل” التي تمثل في جوهرها رحلة من الطفولة إلى الرجولة أو “رحلة من البراءة إلى التجربة” حسب تعبير “وليام بليك”. ففي مرحلة الطفولة يكون الإنسان متوحدا مع عناصر الطبيعة، لكنه ما إن يقف على حافة الشيخوخة، حتى تبدأ معاناته الحقيقية التي توحي بدنوه من فكرة الموت المروعة.

تنال القصيدة إعجاب الجمهور فتدوِّي الصالة بالتصفيق، الأمر الذي يعزز ثقته بنفسه، فيتبختر بين معجباته ساكبا شيئا من البوربون على ذات الرداء الأحمر، ومشاكسا أخرى استعانت بزوجها كي تُبعد خطره عنها. وفي خاتمة المطاف يجد نفسه أمام “ليز” التي تساعده على جدولة قراءاته الشعرية وتنظيمها، لكنه كالطفل يطلب منها أن تضع رأسه على صدرها فيغفو قليلا بعد أن يملّ من المداعبة.

ثم يشرع في لعبة التشكّي، لأنه لم يعد بوسعه أن يكتب أو يشرب أو يمارس الحُب، كما أنه لم يعد يحتمل التذمر المتواصل لزوجته “كيتلن” التي تطالبه بتسديد فواتير الماء والكهرباء وتأمين المستلزمات الغذائية للأسرة، لكن “ليز” تطمئنه بأنه قادر على فعل كل شيء، وتصفه بأنه “عاشق الحياة”، على الرغم من أنه لا يجد غضاضة في الاعتراف بأنه يحب زوجته جدا، كما يحب “ليز” بالقدر ذاته.

مزاجية ممزوجة بالرقة واللطافة.. نفسية الشاعر الطائش

تلعب الاستعادات الذهنية لحياة الشاعر في ويلز دورا موازيا لأحداث الفيلم المصورة في نيويورك، فحينما يخرج إلى الشرفة نصف عارٍ كي يدخن أو يلقي نظرة على المارة ويعود إليها من جديد، فإنه يسترجع حديثه مع “كيتلن” ويخبرها بأن القصر المطل على البحر هو قصرهما معا.

يحضر “جون” إلى ويلز ليوجه الدعوة بنفسه إلى “ديلِن”، كما يقترح على زوجته “كيتلن” أن ترافقه، لكنها تتحجج بمشاغل المنزل ومسؤوليتها الأسرية التي حوّلتها إلى سجينة مقيّدة.

يبدو “ديلِن” منهكاً في أحد التدريبات، حتى أنه ينام والسيجارة في فمه وحينما يستفيق يسقط أرضا، فتختلط ذكريات الماضي بالحاضر عبر الاستعادات الذهنية التي أضاءت حياة الأسرة برمتها، وعلى رأسها ديلِن. وحينما يزوره الطبيب هذه المرة يطلب منه أن يقطع الشرب نهائيا، ولا يسمح له إلاّ بكأس من الجعة خلال مرحلة العلاج، ويخبره بأن لديه مشاكل في التنفس، لكنه يحثّه على الاتصال به كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

لا يبدو على “ديلِن” أنه منقطع عن أولاده، فها هو يقرأ لابنته “إيرنوي” من كتاب، بينما كانت زوجته تنظف الصالة وتحثه دائما على إنجاز الأعمال المفيدة التي تدرّ عليه بعض النقود، بدلا من تبديد الوقت مع ابنته.

ولتأكيد صحة ما نذهب إليه من أنه مزاجي وصعب المراس، فقد دخل في مشادة مع “جون”، مدعيا بأنه يخدعه في الجانب المالي، بينما لم يُرد هذا الصديق سوى أن يقدّم له كل أشكال الدعم والمساعدة من خلال إقامة هذه الندوات والأنشطة الثقافية لشاعر بريطاني حل ضيفا على مركز الشعر في نيويورك، المدينة التي أحبها “ديلن” وتعلّق بها جداً، وكان يتمنى البقاء فيها إن سنحت له الظروف.

الشاعر ديلِن توماس رفقة زوجته

ورغم أنه شخص مزاجي طائش، فإنه لا يخلو من رقة ودماثة في بعض الأحيان أيضا، فما إن نفت “ليز” فكرة تآمر “جون”، حتى سارع إلى القول بأنه آسف وخجِلٌ مما فعل، وأنه سيعتذر منه في اللقاء القادم، لأنه آذاه وجرح مشاعره.

لم تكن “كيتلن” أفضل حالاً من “ديلِن” في الجانب النفسي، فبينما هي منهمكة في إعداد الطعام اقترح عليها “جون” أن تأتي مع زوجها إلى نيويورك، لكنها تشكّت كالعادة من مسؤولياتها المنزلية، ثم انهارت أعصابها فجأة، فأخذت البطة المشوية ورمتها على الأرض هي والطبق الفخاري الذي كان يحتويها، ثم انقضت على “ديلِن” وضربت رأسه بالأرض عدة مرات، إلى أن سحبها “جون” بقوة منقذا صديقه من غضبها، فهي تظن أن “جون” يريد أن يأخذ زوجها بعيدا عنها.

“كلانا يهرب من الآخر”.. مهجة تفر من المدائن والنساء

يعاني “ديلِن” وهو في نيويورك أيضا، إذ تنتابه نوبات اختناق شديدة، حتى في أثناء الحلم، ثم تستدعي “ليز” طبيبها كي يفحصه، ويردد نفس النصائح التي حفظها “ديلِن” عن ظهر قلب فلقد قطع عهداً على نفسه بأن يكون “ولدا جيدا”!

أقام “ديلِن” في فندق جيلسيا ترافقه “ليز” وتهيئ له متطلباته اليومية، ثم نراه يقرأ مقاطع من “تحت حليب الغابة”، وهي في الأصل دراما إذاعية لكنها تحولت إلى المسرح لاحقا، ثم إلى السينما في فيلم يحمل العنوان ذاته من إخراج “أندرو سنغلير”، وبطولة “ريتشارد بيرتون” و”إليزابيث تايلر”.

ينال “ديلِن” استحسان الجمهور كالعادة، فتوجه له الدعوات الكثيرة، ومن بينها دعوة سيدة ثرية تأخذه إلى غرفة النوم مباشرة أمام أنظار “ليز” الغاضبة، وحينما ينتهي من هذه السيدة الثرية الشبقة يلتقي مع “جون” الذي كان يهمّ بالخروج، فيعتذر منه طالبا أن يظلا صديقين حميمين، ولا يتركه يغادر قبل أن يتأكد من أن كل شيء على ما يرام.

ثم يبدأ بمراقصة النساء إلى أن يسقط على الأرض، ويثير من حوله قهقهات النساء، بينما يتذكر زوجته وهي ترقص على ساحل البحر، هنا تتعزز فكرة الهروب من مدينة إلى أخرى، وربما من امرأة إلى أخرى، حيث يلتقي بسيدة جديدة يقضي منها وطره، لتغيب عن ناظريه ثانية، مثلما غاب غيرها من النساء.

وفي خضم الإحساس بالخيبات المتلاحقة تأتيه رسالة مشتكية من “كيتلن” تعاتبه فيها قائلة: لا كلمة منك، ولا نقود، ولا أي شيء. ماذا تريد مني أن أفعل؟ أن أقتل نفسي؟ أن أهرب إلى الشارع؟ فيكون ردّه الطبيعي: لا أستطيع العودة، كلانا يهرب من الآخر.

وعلى الرغم من كل الخدمات التي قدّمها له صديقه “جون” فإن “ديلَن” يتفق مع شخص آخر لتقديم بعض القراءات الشعرية ويوقع معه عقدا جديدا، وما هذا بمستغرب، فلقد أساء لأقرب الناس إليه بما فيهم زوجته.

“لا تذهب طائعا إلى الموت”

ربما يكون لقاء “ديلِن” مع أبيه من أرق اللقاءات وأكثرها حميمية في الفيلم، إذ يخبره الوالد بأنه فخور بـ”ديلن” الإنسان والشاعر الذي كتب قصائد مدهشة سوف تخلّده أبد الدهر، ولعل هذا اللقاء الاسترجاعي هو المسوّغ الذي دفعه لأن يقرأ قصيدة شعرية مهمة لا تخلو من لمسات فلسفية، وهي قصيدة “لا تذهب طائعا للموت”، ويستعمل الشاعر فيها كلمة الليل كاستعارة للموت، بينما ترمز كلمة النهار إلى حياة الإنسان، مع الأخذ بعين الاعتبار أن دنو المغيب يعني الاقتراب من الموت.

تُبيّن هذه القصيدة، كما يرى “ديلِن”، أن الرجال الطاعنين في السن ينبغي أن لا يموتوا بهدوء، وأن لا ينزلقوا إلى القبر بسهولة ويسر، بل يجب أن يصارعوا الموت بقوة وبأس شديدين.

من الجدير بالذكر أن هناك عدة أفلام روائية ووثائقية تدور حول حياة “ديلن توماس” وتجربته الأدبية، من بينها “ديلِن توماس” (Dylan Thomas) للمخرج “جاك هاولز” الذي فاز عنه بجائزة الأكاديمية عام 1963. و”حافة الحُب” (The Edge of Love) للمخرج “جون مايبوري” عام 2008، و”أضرم النار بالنجوم” (Set Fire to the Stars) للمخرج “أندي غودارد” عام 2014، إضافة إلى فيلم “شاعر في نيويورك” الذي هو مدار بحثنا ودراستنا النقدية السينمائية.


إعلان