افتح عينيك .. لترى سماء بلون الفانيلا
رامي عبد الرازق

في عام 1997 أنجز المخرج- وكاتب السيناريو والموسيقار- الإسباني “أليخاندور امينابا” فيلمه الطويل الثاني “افتح عينيك” عن سيناريو له بالاشتراك مع كاتبه المفضل ابن جيله “ماثيو جويل” والذي سوف يتعاون معه فيما بعد في أكثر من تجربة هامة أبرزها “البحر في الداخل”2004 – الحائز على أوسكار أفضل فيلم أجنبي2005 من بطولة خافيير براديم و”أجورا”2009 من بطولة راكيل وايز.
وفي عام2001 أعاد الكاتب والمخرج الأمريكي كاميرون كرو إخراج نفس الفيلم (افتح عينيك) Open Your Eyes فيما يعرف بـ (remake) أي إعادة إنتاج الأفلام بطاقم مختلف مع الحفاظ على الملامح الأساسية للتجربة الأصلية، حيث قدم كاميرون نسخته الأمريكية الخاصة من التجربة الإسبانية وكتب لها السيناريو والحوار الإضافي والمقتبس من سيناريو (امينابار وجويل) الأصلي وأطلق عليه “سماء الفانيلا” Vanilla Sky وهو اسم لوحة للرسام الفرنسي الشهير كلود مونيه وقام بالبطولة توم كروز وكاميرون دياز وبينولوبي كروز والتي قدمت نفس الشخصية التي قدمتها في الفيلم الإسباني الأصلي، شخصية صوفيا الفنانة الشابة التي يقع كل من قيصر- النسخة الإسبانية – وديفيد – النسخة الأمريكية – في حبها.
شهرة وتأثير
لماذا استطاع “سماء الفانيلا” أن يحقق شهرة ونجاحا أكثر اتسّاعا من شهرة ونجاح “افتح عينيك”!
قد تبدو الإجابة للوهلة الأولى واضحة بسبب نجومية توم كروز وكاميرون دياز وحتى بينلوبي كروز التي كانت آنذاك وجها إسبانيا جديدا يغزو السينما الأمريكية وكان فيلمها “امرأة على القمة” من إخراج فينا توريس عام 2000 قد شغل بها جمهور هوليوود رغم تواضع مستواه الفني ولكن سحرها الأثيني نفذ إلى ذائقة الكثيرين قبل أن تقف أمام كروز في “سماء الفانيلا” وتصبح حلما يراوده داخل لا وعيه الذي تشكل من ألوان لوحة مونيه.
بالطبع لا يمكن إنكار أن لنجومية أبطال الفيلم تأثيرا كبيرا على سعة انتشاره وحجم نجاحه خاصة مع مساحة انتشار الفيلم الأمريكي الهوليوودي بالمقارنة مع الفيلم الإسباني أو الأوروبي بشكل عام، وعلى سبيل المثال فإن المتفرج العربي يعرف الفيلم الأمريكي لأنه شاهده من قبل في دور العرض ثم في الفضائيات التي تعرضه كل شهر تقريبا بينما لم يشاهد الفيلم الإسباني أو حتى يعلم بوجوده سوى شرائح قليلة من المتفرجين ذوي الثقافة السينمائية المتنوعة والتي تتجاوز ثقافة الفيلم الأمريكي وأفلام هوليوود.
ولكن ثمة عوامل أخرى تتجاوز أو تتجاور مع نجومية طاقم النسخة الأمريكية يمكن أن نعتبرها من الأسباب الأساسية لشهرة وتأثير سماء الفانيلا والتي تجاوزت شهرة وتأثير افتح عينيك.
الماضي والعواقب

تدور أحداث الفيلمين حول شاب ناجح ماديا وعابث عاطفيا هو قيصر/ ديفيد الذي يلتقي بصوفيا الفنانة الشابة الجميلة القادمة حديثا للمدينة، ومنذ اللقاء الأول يشعر أن صوفيا هي حب عمره ويقرر أن يلتصق بها ما استطاع ولكن حياته السابقة تطارده متجسدة في علاقته مع نوريا/جولي التي كانت مجرد علاقة جسدية عابرة نسيها سريعا لكنها لم تنسه.
يتعرض صاحبنا لحادث عنيف في سيارة نوريا/جولي يؤدي إلى تحطم وجه الشاب الجميل لتتبدَّل شخصيته نتيجة هذا التشوّه المرعب ويتحول إلى شبه مسخ مما يجعل الجميع ينفض من حوله بمن فيهم صوفيا التي تشعر أنه لم يعد نفس الشاب الذي التقت به وأحبته لا لأن وجهه تشوّه، ولكن لأن أسوأ ما في داخله من مشاعر وانفعالات قد نضح على ملامحه نتيجة الحادث وتوابعه، حتى يستيقظ ذات يوم فيجد صوفيا قد عادت له وأن ثمة إمكانية لأن يعود وجهه كما كان فيقوم بإجراء عملية تجميل ناجحة ويعيش مع صوفيا أجمل أيام حياته.
لكنه مرة أخرى يستيقظ ليجد نوريا/جولي هي التي تنام إلى جانبه فيقتلها ظنا منه أنها عادت لتنتقم منه ويدخل في تحقيق طويل مع طبيب نفسي حكيم قبل محاكمته ولكنه يكتشف في النهاية أنه نائم منذ ليلة أن هجرته صوفيا في الحانة وأنه لم يلتقِ بها بعد ذلك وانه أسلم جسده وعقله إلى اختراع علمي خيالي يجعل الإنسان ينام طويلا ويحلم بما يريد أن تكون عليه حياته وليس ما هي عليه في الأصل وأخيرا يقرر قيصر/ديفيد أن يستيقظ من الحلم الوهمي ويواجه حياته وماضيه لأن الحياة تستحق أن تعاش وليس أن ينام المرء ليتوهمّها.
ولكن ما هي العوامل التي جعلت من “سماء الفانيلا” التجربة الأشهر والأكثر تأثيرا طالما أن القصة متطابقة والأحداث واحدة؟!
بداية حاول كاميرون في النسخة الأمريكية أن يوضح لنا حجم الثراء والصراع اللذين يملكهما ديفيد، فهو وريث شركة ناجحة لكنه يعاني من تزمت ورغبة شركائه في مجلس الإدارة في طرده والاستئثار بمجلس الشركة وهو الصراع الذي سوف تتم الإشارة إليه قبيل النهاية على اعتبار أن ما يحدث لديفيد من ظهور لجولي في حياته هو مؤامرة من مجلس إدارة الشركة أو”الأقزام السبعة” كما يطلق عليهم – لأنهم سبعة رجال – وبالتالي يصبح لدى الفيلم الأمريكي ميزة درامية نوعية هي الإيهام بوجود جريمة غامضة تم إيقاع ديفيد فيها لنكتشف بعد ذلك أن الأمر كله مرتبط بنوم ديفيد الطويل وليس بوجود أي مؤامرة من أي شخص عليه بل على العكس لقد استطاع قبل أن يرقد في غيبوبته الوهمية أن ينتصر على الأقزام السبعة ويسترد شركة أبيه.

ولا شك أن هذا العنصر الدرامي الإيهامي شكّل مستوى جديدا من مستويات التعاطي مع الفيلم، بل لوهلة أقنع المتفرج أن هذا هو التفسير الحقيقي وراء ما يحدث مع ديفيد قبل أن تتكشّف حقيقة الحلم الجلي الذي يعيشه، ويمكن اعتبار هذا نوع من تعدُّد الذُّرى الماكر، فالمخرج الأمريكي يكاد يقنعنا في النهاية بأن ثمة مؤامرة محاكة بدقة على ديفيد وكأننا أمام ذروة حقيقية ثم فجأة يأخذنا إلى الذروة الأساسية لنكتشف أن الذروة السابقة لم تكن سوى جزء من عملية الإيهام والتحفيز للمتابعة والمراوغة الدرامية الشيقة.
كذلك استطاع كاميرون في “سماء الفانيلا” أن يشعرنا بمدى التباين الشكلي ما بين جولي وصوفيا على عكس ما فعله امينابار في النسخة الإسبانية حيث جعلهما قريبتي الشبه من بعضهما باستثناء قَصة الشعر، فكلتاهما ذات شعر أسود وتملكان ملامح متقاربة نسبيا وكأن قيصر في “افتح عينيك” كان يبحث عن نوريا وعن صوفيا وحين وجد صوفيا لم تعد نوريا تعنيه.
أما كاميرون فقد أقدم على صناعة فارق شكلي كبير باختياره كاميرون دياز الشقراء البيضاء ذات الشعر القصير في مقابل بينولبي كروز ذات الشعر الأسود الطويل والبشرة الداكنة في إشارة واضحة لأن ديفيد بداخله شخصان أحدهما شهواني عابث مع الشقراء والآخر عاطفي رومانتيكي مع ذات الشعر الأسود الرقيقة، وهما ذات الشخصين اللذين يعبر عنهما سيناريو الفيلم الأصلي والمقتبس، من خلال عنصر الماسك العلاجي الذي يضعه قيصر/ديفيد على وجهه ليخفي تشوهه ثم يخلعه في الليلة الأخيرة للقاء صوفيا ويرتديه بالعكس ليصبح شبيها برجل واحد ذي وجهين أحدهما مشوه والآخر بلاستيكي مصمت الملامح والانفعالات.
لاشك أن هذا التباين الشكلي الذي تحقّق في الفيلم الأمريكي عمّق من حالة التشتت والرعب والغموض التي سبّبها استيقاظ ديفيد، ليجد نفسه بجانب جولي وليس صوفيا، كما أنه وضع مبررا شهوانيا عظيما في مشهد ركوب ديفيد مع جولي في السيارة قبل الحادث مباشرة وذلك باختيار ممثلة صاعدة – آنذاك – شديدة الجمال والتأثير هي كاميرون دياز بكل أنوثتها الرائعة.
تعامل المخرج الإسباني مع فيلمه بأسلوب أقرب إلى الواقعية السحرية، بينما أخذ المخرج الأمريكي نسخته من الفيلم إلى تخوم الفانتازيا الرومانسية، وربما كان اختياره للوحة مونيه جزءا من تلك الحالة الفانتازية التي يستغرق فيها ديفيد كواجهة وجدانية للا وعيه الذي يضطرب أثناء حلمه الجلي بصوفيا وحياته الوهمية.
برزت تخوم الفانتازيا من خلال طبيعة الألوان المستخدمة في الجزء الخاص بحياة ديفيد المتخيَّلة مع صوفيا، حيث استخدم المخرج الأمريكي ألوان لوحة مونيه التي تتحرك ما بين الأبيض السحابي ودرجات الشفق الأحمر الرائق، وهو ما تباين لونيا بدرجة كبيرة مع مشاهد استجواب ديفيد من قبل الطبيب النفسي أو مع ذكريات ديفيد عن حياته ما قبل الحادث وصوفيا.
بينما تعامل امينابار بدرجات ألوان واقعية جدا مع كلا المرحلتين الخاصة بحياة قيصر في “افتح عينيك” لكي يحقق للمتفرج درجة إيهام بأن شيئا لم يختلف حتى يصدمه في النهاية حيث يكتشف أن قيصر يحلم.

الحالة اللونية المأخوذة عن لوحة مونيه التي صاغها “كاميرون كرو” لاشك كان لها تأثير رومانتيكي وحميمي في “سماء الفانيلا” أكثر من الواقعية اللونية التي مارسها امينابار في “افتح عينيك” أضف إلى هذا شريط الصوت الخاص بكلا الفليمين, حيث تعامل المخرج الإسباني مع فيلمه عبر موسيقى تصويرية معبرة عن مشاعر وانفعالات بطله قيصر، بينما أضاف كاميرون اللمسة الأمريكية المعروفة بوضع أغان تعبر عما يعتمل في وجدان شخصية ديفيد وهي أغان مكتوبة خصيصا للفيلم والتي تصنع التأثير النفسي والدرامي العميق والقوي في مشاهد كثيرة، أبرزها مشهد انهيار ديفيد عقب خروجه من البار وهو يحمل القناع البلاستيكي ووجهه المشوه يبدو في أسوء حالاته بينما يتصور صوفيا في أحضان صديقه المقرب حيث تقول الأغنية:
استمعوا إلى يا إخواني وأخواتي
ما الذي يزعجنا اذا ما ابتعدنا عن الآخر
لطالما شعرنا بأننا بعيدون عن آخرين
لكننا كنا نتمنى أن نظل بقرب هذا الآخر
وهي الكلمات التي تعبر عن شعور ديفيد بالوحدة والقهر من جراء تصوره أن صوفيا على علاقة بصديقه بينما كان يتمنى أن تظلّ معه هو لأنها حب عمره الذي فقده يوم الحادث.
وأبرز دليل على قوة الأغاني التي ضمنها كاميرون كرو لشريط الصوت في الفيلم الأمريكي، هو ترشُّح الفيلم لجائزتي الأوسكار والجولدن جلوب كأفضل أغنية درامية للمطرب بول ماكارتني والتي وضعها المخرج كاميرون كرو في مشهد النهاية فوق سطح ناطحة السحاب الشاهقة التي تعلوها السماء المأخوذة من لوحة مونيه.
إن ثراء شريط الصوت في النسخة الأمريكية من الفيلم وشهرة الأغنية التي قدمها بول ماكارتني لاشك كانت أحد عوامل التأثير الأعمق الذي حققه “سماء الفانيلا” مقارنة بـ”افتح عينيك” وهو ما يقودنا للحديث عن المشهد الأخير في كلا الفيلمين وكيف استطاع كاميرون كرو أن يصنع مشهدا أيقونيا رائعا لايزال يعتبر واحدا من أشهر وأهم وأكثر نهايات الأفلام تأثيرا في الألفية الجديدة.
في النسخة الإسبانية يصعد قيصر إلى أعلى بناية شركة الأحلام الجلية ليكتشف الحقيقة ويستدعي صوفيا التي تظهر مرتدية فستانا أبيض وتبدو مثل طفلة صغيرة لا تعي شيئا، بل تقول لقيصر أنا لست أدري من أنا ولا ماذا أفعل هنا، ثم بعدها مباشرة يقرر قيصر القفز من فوق البناية لكي يستيقظ من الحلم الوهمي ويواجه حياته عام 2145 حيث يمكن أن يصلح وجهه ويعيش بشكل جيد.
لقد حقق امينابار هدفه الدرامي من هذا المشهد وهو التأكيد على ضرورة أن يواجه الإنسان ماضيه ولا يهرب منه لأنه سوف يطارده حتى في أحلامه وأوهامه، وأن الحاضر هو ابن الماضي وبالتالي احرص على حاضرك ولا تعبث به حتى لا يتحول إلى ماض مؤلم أو خطير يؤدي بك في النهاية إلى أن تعيش حياتك مشوها ومنبوذا من الجميع، بل وتفقد حب عمرك كما حدث مع قيصر.
أما في “سماء الفانيلا” فقد أخذ السيناريو الذي كتبه كاميرون كرو أكثر من مستوى في عرض وتأويل أزمة ديفيد فلم تعد فقط مجرد مواجهة الماضي مثل قيصر ولكن التأكيد على عنصر وقيمة من عناصر وقيم الحياة.
أما العنصر فهو أن العواقب الناجمة عن أفعالنا هي التي تحدد مصائرنا مهما كانت صغيرة أو تبدو عادية، فديفيد في حواره الرائع الطويل مع صوفيا في النهاية حين يستدعيها وجدانيا يقول لها: لقد فقدتك حين صعدت إلى تلك السيارة في ذلك اليوم – يقصد سيارة جولي – فصعوده إلى السيارة أمر صغير وعادي لكنه أدّى به إلى فقدان كل شيء سواء وجهه أو حبيبته.
أما القيمة الحياتية فتتجلى حين يقول ديفيد: هل تذكرين حين قلتِ لي ذات مرة إن كل يوم يمر علينا هو فرصة جديدة لكي نغير حياتنا رأسا على عقب ونصلح كل شيء!
هذان المستويان في الحوار والدراما بالإضافة إلى الجملة الشهيرة التي يبدأ بها ديفيد حديثه مع صورة صوفيا الوجدانية بداخله حين يقول: انظري إلينا.. أنا مجمد وأنتِ ميتة ولكنني أحبك. هي من السياقات الأساسية التي جعلت من مشهد نهاية “سماء الفانيلا” حالة سينمائية ممتعة وراسخة في وجدان كل من شاهد الفيلم، وهو ما يختلف بدرجة كبيرة مع زمن وأسلوب وسياقات النهاية في “افتح عينيك” بل إن المخرج الأمريكي لا يفوت تلك الجملة أيضا والتي هي في الأساس عنوان الفيلم الإسباني فينهي فيلمه بنفس الجملة ولكن في الفيلم الأمريكي يكون الأمر موجهّا للجمهور في عدة مستويات ليس فقط على مستوى مواجهة الماضي كما فعل قيصر ولكن التأكيد على تجنب العواقب من خلال الانتباه للأفعال وضرورة الشعور بأن الحياة تستحق أن تعاش لأنها تحمل في داخلها جينات إصلاحها مهما فسدت، المهم أن يملك الإنسان الإرادة والوعي بذلك لا أن يظل مستسلما لنوم روحي أو ذهني طويل يتوهم فيه حياة غير حقيقية يمكن أن تنتهي متعتها الزائفة لحظة الاستيقاظ.