“النبيّ المحظور”.. دراما عن الهوس الديني

أمير العمري

من أفلام الدراما التسجيلية التليفزيونية التي أثارت اهتماما غبر مسبوق في الولايات المتحدة ثم عند عرضه على الشاشات الأوروبية أخيرا، الفيلم الأمريكي “النبي المحظور” (وهي الترجمة الأفضل لعنوان الفيلم الذي يعني حرفيا “النبي الخارج على القانون”) Outlaw Prophet.

هذا الفيلم يستمد أهميته وتأثيره  من دقة وبراعة مخرجه البريطاني جابرييل رانج، في استخدام أسلوب درامي جذاب لمتابعة وتشريح الظاهرة المتطرِّفة ورصد مختلف جوانبها، بتركيز خاص على شخصية “وورين جيفز” الذي ذاعت شهرته عام 2006 بعد أن أصبح موضوعا على لائحة وكالة المباحث الفيدرالية الأمريكية لأخطر عشرة رجال مطلوبين من قبل السلطات جنبا إلى جنب مع أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. ولكن حالة “جيفز” اتخذت أهمية خاصة لدى الأمريكيين بعد أن نجح هذا الشخص في إقناع عشرات الآلاف من الأشخاص باتبّاع مذهبه الديني المتطرف من خلال الكنيسة التي أسسّها سابقوه وورث هو الدعوة منهم، وأطلقواعليها “كنيسة يسوع المسيح للقديسين الأواخر”.

يستند الفيلم إلى كتاب صدر عن هذه الشخصية غريبة الأطوار، بعنوان “عندما يصبح الرجال آلهة” لمؤلفِّه ستيفن سنجولار. ويتابع الفيلم صعود وورين جيفز من كونه الابن الضعيف لزعيم تلك الطائفة، لم يكن أبوه يرى فيه ما يجعله يصلح لأن يخلفه من بعده في قيادة تلك الجماعة المسيحية المتطرفة التي تدعِّي التبشير بديانة جديدة، وتطلق على من يتزعمها لقب “نبي”، ويتم اختياره عادة من مجلس حكماء لتلك القبيلة التي اتخذت لها موطنا داخل مجمع سكني كبير في مدينة كولورادو، وامتدّت ملكية الجماعة إلى مدن وولايات أخرى في الغرب الأمريكي.
إننا نرى كيف يتمكن جيفز، بدهائه وقدرته على التلاعب بالحقائق واستخدام قدرته على الخطابة، في السيطرة على أعضاء الجماعة وتولِّي قيادتها خلفا لوالده الذي قال له قبيل وفاته “إنهم في العالم الخارجي يكرهوننا. فهم يعتقدون أننا شواذ ومنحرفون”.

ورغم أن من أوليات مباديء تلك العصبة عدم المسّ بزوجات “النبي” الراحل وعددهم عشرون زوجة، إلا أن هذا الدعيّ الكاذب يبدأ من اليوم الثاني لتولِّيه القيادة، في معاشرة زوجات والده بعد أن يتخذهنّ زوجات له، وهو يستخدم زوجته الأولى التي تقوم بدورها ببراعة موللي باركر، (لم يسمح لها الدور باستخدام كل إمكانياتها التمثيلية)، في تقديم فتيات أخريات إليه ليضمهنّ إلى زوجاته حتى بلغ عددهن 78 زوجة، يتناوب على معاشرتهن، وهو يقوم باستبعاد عدد من الشباب الواعد من الجماعة ويطردهن خارج سياج تلك “الضيعة المغلقة” لكي لا يتمردّون عليه، ويبحث عن مكان آخر أكثراتساعا للجماعة، يقيم فيه أبنية ومنشآت وكنيسة جديدة، ويبني حول المكان كله أسوارا عالية، ويحظر دخول الغرباء، ثم يقوم بتزويج الفتيات القصر تحت السن القانوني لمن يرضى عنهم من الرجال، وينصح من ترفض زوجته مضاجعته أن ينالها بالقوة، ويصل جنونه إلى درجة مفزعة عندما يأمر أتباعه بتدمير أجهزة التليفزيون، وإلغاء اللون الأحمر من حياتهم، والتخلُّص من الكلاب. ونشاهد في أحد أقوى مشاهد الفيلم كيف تبدأ عصبة من أتباع ذلك النبي الزائف في مطاردة الكلاب وتعقبّها في كل مكان، وكيف يقومون بدفنها في مقبرة جماعية وهي مازالت بعد على قيد الحياة.

يبدأ الفيلم بتصوير كيف يكذب وورين جيفز على أعضاء مجلس الحكماء الذي يدير تلك الكنيسة المنحرفة، ويخبرهم أن والده أوصى به خليفة له قبيل وفاته، وهو ما نعرف من المشهد الأول أنه كذب صريح، فوالده أوصى بشخص آخر حدده له بالاسم، وبعد أن يتمكن من السيطرة على جمهور الكنيسة وأعضاء الجماعة بقوة حجّته وقدرته على الخطابة، يصبح هو القائد الجديد فيقوم على الفور بنفي الرجل الذي أوصى به والده، خارج حدود تلك الجنة الزائفة.
لا أحد يمكنه أن يتصوّر أن بلدا قطع كل هذه المراحل من التقدم العلمي والتكنولوجي يسمح ويتغاضى ويترك مثل هذه “الدولة داخل الدولة” تقوم وتقوى وتمتد أذرعها التجارية وتغلق نفسها أمام العالم، وتسمح بانتهاك الفتيات من الأطفال جنسيا، وبصورة جماعية أيضا كما نرى في الفيلم. ولا تبدأ المباحث الفيدرالية في التحرُّك ولو على استحياء، إلا بعد أن تتمكّن  إحدى الفتيات التي ترفض الخضوع لإرادة الشيطان من إبلاغ الشرطة.. كما تسبقها إحدى زوجات الزعيم الراحل التي ترفض أن تصبح زوجة لابنه، بدعوى أن تعاليم الكنيسة تحرم زواج الابن بزوجات أبيه!

تدريجيا يتم تضييق الخناق على جيفز إلى أن يقع في قبضة الشرطة ويُحكم عليه بالسجن مدى الحياة. ولكنه يتمكن من التواصل مع اتباعه من داخل السجن، والسيطرة عليهم عن طريق الوسيط الذي يأتي لزيارته بين حين وآخر. وفي أحد المشاهد الجيدة في الفيلم ينهار وورين جيفز، تحت تأثير شعوره باليأس من الخروج حيا من السجن، وربما أيضا في لحظة استنارة نادرة، فيبكي ويعترف بأنه كذب على الجميع، وأنه ليس النبي الذي أرسله الرب ولم يكن من المفروض أن يتولّى الرسالة بعد والده.. لكن الرجل لا يصدِّقه بل يصر على اعتباره كان صادقا ولايزال، وأنه فقط يختبر قوة إيمانهم بهذه الطريقة، ويعود ليخبر تجمعا كبيرا من أتباع تلك الديانة الغريبة بما قاله “جيفز” له، فيصرّون جميعا على أنه “النبي الحقيقي” وأنهم وراءه ماضون.

في مشهد بديع يقود ضابط المباحث الفيدرالية سيارته ويدخل إلى المنطقة التي يقيم فيها أبناء الطائفة، ونسمع عبر الراديو مذيع الأخبار يقول إن الشرطة تواصل تحرياتها والبحث عن شهود جدد يكمنهم تقديم شهادتهم أمام القضاء حتى يمكن إلقاء القبض على مزيد من المجرمين. يدخل الضابط منزل وورين جيفز، ويشاهد إحدى زوجاته وهي طفلة لا تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها جاثية على الأرض، ترتب عددا من الصور الموجودة داخل إطارات، تلتفت لتراه فتفرّ إلى الداخل، يقترب هو تدريجيا، فتخرج الزوجة الأولى ووراءها زوجات أربع أخريات إحداهن حامل وأخرى تحمل طفلا رضيعا، وتصرخ فيه الزوجة الأولى طالبة أن يغادر المنزل، وبعد أن يغادر مع مساعدته ويبتعد بالسيارة، تعود الكاميرا في لقطة قريبة تمرّ على الصور لنكتشف أنها جميعها صورة واحدة مكررة لورين جيفز.

من هذه اللقطة يقطع المخرج إلى لقطة قريبة جدا لأذن جيفز وهو يضع السماعة ليتكلم مع الزائر الوسيط نفسه الذي يعود ليسأله ما إذا كانوا قد نجحوا في الاختبار؟ وعلى لقطة لوجه جيفز الذي تغير وأصبح حليق الرأس، مؤرق العينين، يواجه جيفز الكاميرا كما لو كان يوجِّه حديثه لنا نحن، بينما المفترض أنه يتحدث إلى الزائر الذي تتخذ الكاميرا وجهة نظره، ليقول له بهدوء شديد بعد ان استردّ قوته “لقد نجحتم في الاختبار.. والآن انتظر الرؤية.. لتعرف ما يتعين عليكم القيام به لكي تكونوا أهلا لأن أكون نبيكم”..  لقد عاد جيفز إلى تماسكه واستعاد مجددا إحساسه الكاذب بـ”النبوة”.. واللقطة التي تتركز على وجهه تشي بوضوح بأننا أمام شخصية مختلة، تعاني من البارانويا. وينتهي الفيلم الذي يخبرنا عن طريق كلمات على شاشة سوداء أن “هناك 100 ألف شخص مازالوا يتبعون وورين جيفز باعتباره نبيهم”!

من أهم أسباب نجاح الفيلم هو ذلك الأداء التمثيلي المدهش من جانب الممثل توني جولدوين في دور “جيفز”، فهو ينجح في تقمُّص الشخصية، والتحكُّم في نبرات صوته هبوطا وصعودا، وفي عضلات وجهه ونظرات عينيه خاصة في اللقطات القريبة، وهو يبالغ في الأداء حينما تكون المبالغة مطلوبة من أجل التأثير على أتباع جيفز، ويخفي قلقا فطريا بسبب تشكّكه في قدراته، لكنه يكشف عن جنون مطلق يصل به إلى حد الإيمان، ليس فقط بنبوته، بل بألوهيته، فأوامره للفتيات بالانصياع هي “أوامر الرب” التي يتعين عليهن الامتثال لها!

مخرج الفيلم جابرييل رانج، بريطاني عمل في البداية بالصحافة ثم انتقل إلى إخراج الأفلام الوثائقية والدوكيو- دراما، وفي 2003 أخرج فيلم “يوم توقفت بريطانيا” بأسلوب تسجيلي، ورُشِّح الفيلم لجائزة “بافتا” البريطانية، وفي 2006 أخرج فيلم “موت رئيس” الذي حصل على ست جوائز في مهرجان تورونتو السينمائي، وهو من نوع الدراما التسجيلية أيضا، ويدور حول حادثة متخيَّلة عن اغتيال الرئيس جورج بوش الابن.
 ويعتمد الفيلم على المزج بين اللقطات التسجيلية والمشاهد التي تعتمد على الممثلين، وكذلك على صور الجرافيكس والمقابلات المصورة مع بعض الشهود، على غرار الأفلام التي كان يخرجها المخرج الإنجليزي الشهير بيتر واتكنز وأشهرها “لعبة الحرب” (1965) الذي يفترض نشوب حرب نووية قضت على ست مدن بريطانية.   


إعلان