فُرقاء السياسة اللبنانية على المائدة

محمد موسى

يَجمع البرنامج التلفزيوني التسجيلي “تكسير حدود” والذي يُعرض على قناة السفر الأمريكية، بين عدة انشغالات واتجاهات ضمن زمنه القصير. فالبرنامج الذي يُقدمه صحافية وطباخ شهيران، ينطلق من عادات البلدان الغذائية التي يَحِّل بها، ليقدم بعدها لمحة سريعة عن تاريخ تلك البلدان، قبل أن يصل لواقعها المُعقد، الذي يشكل غالباً امتداداً لذلك التاريخ. يفرد البرنامج  المساحة الزمنية الأكبر للزمن الراهن، مُعضلاته وانسداد أفقه، مُحاولاً في كل حلقة أن يجمع أعداء الأمس واليوم على مائدة عشاء واحدة، للحديث والمكاشفة عما وصلت إليه حياتهم. بعدها ينطلق البرنامج إلى دولة مُضطربة جديدة، مُكرِّراً الخطوات نفسها كل مرة. وإذا كانت كل تفصيلة من التفصيلات التي ترد في البرنامج تحتاج لحلقة أو حلقات تلفزيونية طويلة للتعمُّق في جوانبها وإيفائها حقها من البحث، يختار البرنامج الأمريكي أن يقفز من موضوع إلى آخر، في تركيبة تلفزيونية أصبحت شائعة في العقدين الأخيرين، تُميزها السرعة وخفة التناول، تقع أحياناً في أخطاء كبيرة لضعف عمليات البحث والإعداد والتحضيرات.

وفي النهاية تترك مشاهدها، الذي هو على الأرجح غير مُطلِّع كثيراً على أحوال الدول والمجتمعات التي يمرّ بها البرنامج، دون تأثيرات تُذكر ولا تدفعه لمعرفة المزيد، بل ربما تتركه غير مبالياً بما شاهده. كما أن وجود البرنامج في برمجة قناة تتخصص في برامج السفر والرحلات، يكاد يكون معضلة لذاته، ذلك أن توقعات المتفرج لهذه القناة ربما تختلف عن تلك لمشاهدي القنوات العامة. الأمر الذي يطرح أسئلة عن صلاحية المقاربة التي أخذها برنامج “تكسير حدود”، وإذا كان يمكن بالمطلق تقديم نزاعات الدول المعقدة على شاشة تلفزيونية لا تنشغل بالسياسي؟ ناهيك عن سذاجة الطموحات الكبيرة للبرنامج، بأن صلحاً ما سيتحقق على مائدة عشاء!

تبرز الحلقة التي تتناول الشأن اللبناني من البرنامج كل مشاكل هذا الأخير الأسلوبية والبحثية. فهو الذي يبدأ بمقدمة تقترب من النمطية عن مكانة لبنان في منطقته، يصل سريعاً إلى الحرب الأهلية اللبنانية، لكن مراجعته لتلك الحرب ستغلب عليها الخفّة والتعميمات. فمثلاً لم يمرّ البرنامج على الاحتلال الإسرائيلي للمدينة في عام 1982. وعلى الرغم من أن الصحافية التي تتولى مهمة التقديم في البرنامج عاشت في لبنان لفترة من الزمن، إلا أن تلخيصها لوضع البلد الراهن كان في مُجمله تعميمياً لحدود السذاجة. فحسب الصحافية يقف كل المسيحيون اللبنانيون ضد سوريا وحزب الله، وكذا سنة لبنان، في الوقت الذي يساند شيعة لبنان سوريا وإيران، فيما يعرف كل مُطلِّع على الوضع اللبناني، أن الساحة السياسية والاجتماعية اللبنانية ليست بهذا التبسيط بالمرة، وهي متداخلة ومتشابكة اليوم، كما كانت عليه في الماضي.

وكجزء من تحضيراته للعشاء الهام، يُحاور البرنامج ضيوفه الثلاث، الذين يمثلّون الأطياف السياسية في البلد. ومرة أخرى يتجّه البرنامج للتبسيط، فالشخصيات التي ظهرت في البرنامج لا تُمثِّل كل تنويعات اللبنانين. لكنهم يناسبون التعريفات والخلاصات التي اقترحها البرنامج نفسه. والتي سيؤسس عليها نظريات ليست صائبة تماماً عن لبنان وعن مشاكله الحالية، كدولة تقع في محيط متفجر، إسرائيل من ناحية، وسوريا التي تشهد حرب داخلية فعلية من ناحية أخرى. يقابل البرنامج وبحضور صحافية لبنانية شخصياته الثلاث كل على حده. وسيشرح هؤلاء مواقفهم التي يعرفها كثير من المشاهدين العرب.

يُبالغ البرنامج التلفزيوني في حماسه بجمع فرقاء السياسية اللبنانية، وكأن ما حقّقه يُعد إنجازاً غير مسبوق، ربما لا يعرف الذين يقفون خلف البرنامج، أن حديث السياسة هو زاد الناس في تلك المنطقة من العالم. تستمر المبالغات في جلسة العشاء نفسها، والتي وبعد التحضيرات الكبيرة لها، مرّت سريعاً، وبعد مرافعات تقليدية للشخصيات الثلاث، جعلها البرنامج تبدو كسبق صحفي. ومرة أخرى بدا البرنامج الأمريكي جاهلاً بواقع تغطيات الإعلام العالمي للموضوع اللبناني، وبعشرات البرامج التلفزيونية الحوارية العربية مثلاُ، التي تُعرض يومياً على شاشات الفضائيات العربية، وتجمع شخصيات مختلفة فكرياً ودينياً ومذهبياً، والتي ولفرط كثرتها أصابت المشاهد العربي العادي بالتخمة، ولم يعد ينتظر منها مفاجآت كبيرة. كما يبدو البرنامج مُتعالياً كثيراً، بفرضه الإمكانية على عقد مصالحات ذاتية وعامة بسبب ما يوفرّه من محيط وتحت أضواء كاميراته، بينما تعجز الشخصيات نفسها أن تصل إلى القناعات نفسها في محيطها.

كما يكاد برنامج “تكسير حدود”، أن يكون بائساً في صوره مُقارنة بما يعرض على قناة “السفر” من برامج، تتميز بالعادة بمشهديات واسعة ومثيرة ومبتكرة،. فلم يخرج البرنامج كثيراً من أسر التحقيق التلفزيوني العادي، ليبحث في الطبيعة والمدنية اللبنانية عن صور جمالية مبهرة. كما أن الحلقة اللبنانية لم تحاول أن تذهب بعيداً عما خُطِّط لها أو تُجرب في تشكيل صور تتفاعل مع البلد وتنوعه الإثني والاجتماعي.  باستثناء دقائق قليلة صُوِّرت في مدينة طرابلس، التقطت بعضاً من نبض الحياة في المدينة التي همينت أخبارها على الأحداث في لبنان قبل عام، وكادت أن تكون موقعاً لحرب أهلية لبنانية جديدة. وحتى عندما حاول البرنامج أن يعود إلى تقاليد قناته بالتركيز على ما يُميِّز لبنان سياحياً والتحول إلى ما يُعدّ ظواهر جديدة، مثل صناعة النبيذ الوليدة في البلد، بدت المشاهد التي صُوِّرت هناك لا تختلف بفقرها ومحدودية خيال أصحابها عن مشاهد الحلقة الأخرى.

يُقدم البرنامج الصحافية البرتغالية ماريانا فان زيلر والتي تعيش في لوس أنجلوس وبعد أن عملت في عدة دول ومناطق مشتعلة حول العالم، والطباخ الأمريكي مايكل فولتاجو، والذي يعمل في واحد من أشهر المطاعم في مدينة لوس أنجلوس أيضاً. يأخذ الطباخ الأمريكي على عاتقه الاهتمام بتفاصيل الطعام والغذاء بالدول التي يزورها البرنامج، كما يشارك أحياناً في طرح الأسئلة، ليمثل بحضوره المشاهد الأمريكي العادي الذي لا يعرف الكثير عما يجري خارج حدود بلده. فيما تتولى الصحافية ماريانا فان زيلر، إعداد وطرح الأسئلة المعمقة في البرنامج، الذي مرَّ في حلقاته السابقة على عدد كبير من الدول منها: قبرص، رواندا، كمبوديا، كوبا، مصر وغيرها من الدول.


إعلان