“قُدّاس للميت”

قيس قاسم

أسلوب سينمائي مختلف لموضوع آني، على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية، يعرضه علينا المخرج شاري كوكسون ومساعده نايك دوب ليختبر به صبرنا وقدرة تحمّلنا على مواصلة أحداث فيلم بلا سياق درامي معهود ولا بناء قصصي تقليدي، لأنه يكتفي بعرض مجموعة قصص حقيقية قصيرة، تخصّ حوادث قتل، كما وردت عبر وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، إنستغرام،  يوتيوب.. وغيرها) ومن خلال التسجيلات الصوتية لأجهزة الشرطة مع شهود أو متصلِّين أبلغوا عن جرائم تمت بواسطة إطلاق عيارات نارية، على وجه التحديد.
لقد أراد لفيلمه أن يكون عن الأسحلة وانتشارها في أمريكا وقد حُصر تعداد ضحاياها، فقط، في فصل الربيع من العام الفائت بحوالي ثمانية آلاف إنسان قتلوا بدوافع مختلفة، لكن المسبب في موتهم جميعاً كانت تلك الرصاصات المنطلقة من فوهات الأسلحة الموجودة في كل بيت تقريباً.

عنوان الوثائقي الأمريكي “قداس للميت: ربيع أمريكي 2014” Requiem for the Dead: American Spring 2014  يحمل دلالاته في طياته، فلكل ميت يجري قداس ومراسيم دفن خاصة، كما جرت العادة والأعراف، لكن ما كان يشغل صانعه ليس الشعيرة أو الطقس التوديعي نفسه بل طريقة القتل والسلاح المستخدم فيها، فهي، كما يعلن في متن نص فيلمه الوثائقي،  لها صلة شديدة بطبيعة المجتمع الأمريكي ونظامه القضائي والسياسي، الذي يُجيز حمل السلاح “للدفاع” عن النفس في ظل انتشار الجريمة والعنف، وبالتالي وبدلاً من التفكير في معالجة الأسباب ينقل، النظام وبنيته المتشكلة على أساس القوة وتمجيدها، المشكلة إلى الأفراد العاديين، ليُسهم وبشكل غير مباشر في تلك الجرائم بدلاً من أن يضع حداً لها، أو كما نفهم من نص الشريط المحزن والمقلق، من منع انتشارها وتحجيم أرباح الشركات المنتجة لها!

هذا البُعد لم يعلنه صاحب المنجز الجديد الأسلوب مباشرة، بل أراد تقريب عدسة كاميراته أكثر إلى دواخل وأعماق أقارب الضحايا وتبيّان مقدار الأسى والحزن الذي يتركه فراق الأحبة في نفوسهم وبالتالي تسريبها إلى نفوس مشاهدي فيلمه ليخلق بها حالة نفور شديدة من الأسلحة القاتلة.
الوثائقي، مع العداد الإلكتروني، يبدأ من الصفر حتى يصل إلى الرقم 8000 وبين كل مجموعة أعداد يتوقف ليعرض حالة معينة جمع تفاصيلها من وسائل التواصل الاجتماعي ومجريات التحقيق ومن أصوات البشر المذعورين من مشاهد الموت وهم ينقلونها تلفونياً إلى رجال الشرطة القابعين في مكاتبهم، ثم يضع بعد ذلك عنواناً فرعياً لها كما في قصة الجدّة التي اتصلت بالشرطة وطلبت المساعدة بعد أن رأت ابنها وزوجته مضرجين بدمائهما في غرفة نومهما وأداة الجريمة “البندقية” ملقاة على الارض.

أعطى شاري كوكسون لقصة العريف في الحرس الوطني عنوان “زوجة العسكري”. يستعرض، كما في كل الحالات التي يوثقها، العلاقة بين الجاني والمجني عليه قبل مدة زمنية معقولة من وقوع الحدث ليمنح متلقِّيه فرصة تصور تعقيدات كل حالة وعلاقتها بالوسط الاجتماعي المنتمين إليه، بالإضافة إلى وجود السلاح دوماً في متناول يد الشخص الذي يفكر باستخدامه بقصد أو أحياناً بدون قصد.
 يستخدمه الجاني لتوفرّه في ذات المكان الذي تتواجد فيه الضحية لأن الكثير من القصص تدور حول أطفال شهروا السلاح كـ”لعبة” ضد أصدقائهم أو عن عاثري الحظ الذين تواجدوا في المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ فماتوا برصاصات طائشة.

كتابات الزوجة لصديقاتها على “الفيسبوك” إيجابية. تصفه دوماً بالأب الحنون الطيب، والزوج بدوره عبّر على الصفحة “ويب” المخصصة للحرس الوطني عن رضاه من زوجته المتفرِّغة لرعاية أطفاله. كان هذا قبل سنوات قليلة، لكن العام الماضي ظهرت مشكلات عائلية بينهم وطلبت الطلاق منه في السادس عشر من مايو وفي التاسع والعشرين منه اشترى الزوج بندقية قتل بها زوجته ونفسه. الانتحار بعد عمليات القتل قاسم مشترك لكثير من الحوادث التي يعرضها الشريط سريعاً بعد كل توقف ومنها يمكن إيجاد المشتركات، وطبعاً السلاح وإطلاق النار على الضحية هما الأبرز بينها، أما الدوافع فكثيرة ولم يهتم بها إلا حين تقتضي الضرورة لذلك كما في جريمة مراهق من ولاية بوستن أطلق النار على أخته بمسدس وجده تحت وسادة والده. السبب ولعه الشديد بالأسلحة وحرصه على حضور المعارض الخاصة بها.

من هذه القصة وعنوانها “مسدس أسود صغير” يلقي كوكسون ضوءاً على طرق تأثير شركات إنتاج وبيع الأسلحة على المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية، البلد الأكثر امتلاكاً للسلاح وحسب الإحصائية الرسمية التي يوردها فإن عدد ما موجود منها يفوق عدد سكانها، أي أن لكل مواطن فيها قطعة سلاح وأكثر قليلاً وبالتالي علاقة الناس به عادية، وعاديتها جاءت من كثرتها إلى جانب الترويج الإعلامي الكبير لها وابتكار ألعاب كومبيوتر عمادها العنف وحلّ الخلافات بين المتصارعين بقوة الأسلحة الفتاكة، وهي من بين المؤثرات الرافعة لميل الشباب والمراهقين إلى العنف الجسدي. فحينما تتحول الأسلحة إلى “لعبة” مشوقة يصعب الحديث حينها عن الخوف من استخدامها في الواقع.
القصص الواردة في متنه الحكائي موجعة حقاً لأن فعل القتل فيها يقوم به بشر أسوياء في مجمل سلوكهم، يلجأون إلى العنف في لحظات إحباط معينة في وغالباً ما يطلقون النار فيها على خصومهم دون تفكير بالعواقب ولهذا يشعر كُثر منهم بالندم على اللحظة التي وقعت عينه فيها على السلاح أو لقراره برفعه في وجه شريك حياة أو صديق أو أحد من أفراد عائلته.

التباس مردّه الوسيلة الشريرة الكامنة في أغلب البيوت الأمريكية، التي يتباهى بعضهم بوفرتها وتنوع استخداماتها كما لو أنها تحفاً فنية وليست وسائل قتل مخيفة. الحديث عن هذا الجانب يأتي عبر آلاف من المشاركات والنقاشات التي تجري على صفحات وشاشات وسائل التواصل الاجتماعي وكلها تدور حول المسوِّغات الأخلاقية والقانونية لحمل السلاح واقتنائه، وهي نفسها تقود إلى ذكر عينات تتناقض وتدحض هذه الآراء حين تخرج من سياق “الدفاع” عن النفس مثل حالة الثنائي تيفاني دافبورت ومالين راي، اللذان كانا في طريقهما إلى البيت بعد حفل إعلان الزواج، وفجأة أصاب عيار ناري الزوجة فسقطت وسط الشارع ميتة. الحادثة حسب سجلات الشرطة سُجِّلت ضد مجهول لأنها لم تقبض على الجناة أثناء تبادلهم النار مع أفراد من عصابة ثانية اختلفت معها.

وعلى مستوى آخر يُحطِّم الرصاص حيوات جانبية أخرى، فعندما قتل جدّ لاعب كرة القدم الأمريكية جيريل كارتر زوجته برصاص بندقية خرقت جدارن الغرفة واستقرت برأسها، ما أدى إلى موتها وإلى تحطيم حياة حفيدها الذي تعلّق بها كثيراً منذ طفولته، لكنه وبعد موتها انزوى وانسحب من اللعب وبهذا انتهى كلاعب محترف وضاع مستقبله.
 يشير الوثائقي إلى حالات مشابهة يمرّ عليها سريعاً فثمانية آلاف حالة يصعب إيجاد القواسم المشتركة الصغيرة بينها ولهذا اكتفى بالقواسم العظمى: أمريكا دولة مؤسسة على العنف والأسلحة جزء من ثقافتها أما العنف فطريقة لحل مشكلات المتخاصمين فيها. مؤسساتها القضائية عاجزة عن فرض قوانين مشدّدة على منح تراخيص شراء الأسلحة، وسياسوها بالنظر لارتباطهم بمصالح رأس المال والشركات الصناعية لا يميلون إلى توريط أنفسهم بهذا الموضوع الإشكالي فيما وسائل التواصل الاجتماعي تُغذِّي النزعة العدوانية بين الشباب، والتلفزيون وألعاب الفيديو والسينما تلعب على أوتار الإثارة عند المراهقين والشباب. أما ضعف روح التضامن الاجتماعي والبحث عن مكتسبات حياتية فائضة عن الحاجة فتُشجِّع عليها نظريات وسلوكيات “مجتمع الوفرة”.

مشتركات وردت بصيغ مختلفة أثناء تبادل الرسائل بين المعنيين في الحالات التي أخذها الوثائقي كعينات مصغرة توفرت في الربع الأول من سنة واحدة، أما البقية فيلمح لها برقم محدد: في كل عام يُقتل 32 ألف مواطن أمريكي برصاص الأسلحة الشخصية. بمعنى آخر يقام قدّاس لثمانية وثمانين مواطناً أمريكياً كل يوم!


إعلان