سبايا القرن الحادي والعشرين

 

محمد موسى

يُوجِّه فيلم “الهروب من داعش” والذي عُرض أخيراً ضمن البرنامج التسجيلي “الخط الأول” على شاشة قناة “PBS” الأمريكية المستقلة، الانتباه لواحدة من المآسي الحساسة المتواصلة التي سبّبها تنظيم داعش في العراق وسوريا، فيفتح الفيلم وبدون تحفظّات كبيرة، قضية النساء تحت حكم التنظيم، إذ يتناول بالتعاقب وضمن زمنه، محنة النساء اليزيديات العراقيات، واللواتي وجدن أنفسهن في العام الماضي، قد عدن إلى عصور الظلمات، فالمئات منهن اختُطفن من بيوتهن وبعن في سوق نخاسة حديث تحت إشراف التنظيم. كما يحاول الفيلم أن يرصد وضمن إمكاناته المحدودة ما يحدث للنساء السوريات وغيرهنّ في عاصمة خلافة “داعش” في مدينة الرقّة السورية، المعزولة عن العالم والتي تحيط الأسرار الحياة داخلها.

اغتصاب جماعي لنساء يزيديات، وفتيات لم تتعدّ أعمارهن العاشرة من العمر يتم اغتصابهن أو تزويجهن لأعضاء من تنظيم داعش، عوائل كاملة بنسائها وأطفالها تم اختطافها من قراها العراقية وإجبارها على التوجُّه إلى المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في العراق وسوريا، إذ يتم توزيع النساء هناك كما تقسّم المواشي، وتنزع عنهن هوياتهن وتاريخهن ويمنحن صفة “السبايا”. هذه بعض القصص المُروعة التي يجمعها الفيلم من شهادات نساء يزيديات وافقن على التحدث لفريق الفيلم، بعد هروبهن من التنظيم ولجوئهن إلى مناطق تحت سيطرة الأكراد العراقيين في شمال العراق. يتبدّى من روايات الفيلم، أن “داعش” حوّلت المناطق التي وقعت تحت سيطرتها إلى مُختبر شيطاني لتجريب أكثر النوازع البشرية شذوذاً، وأن “الجنس” يتصدر قائمة الاهتمامات عند التنظيم، وإن كان الفيلم قد مرَّ أيضاً على ما يقوم به تنظيم “داعش”، من أساليب وحشية مبتكرة لإعدام أو تعذيب أعدائه.

يُرافق الفيلم مساعي محامي يزيدي عراقي يدعى خليل، لإنقاذ نساء من طائفته من سجن التنظيم والعودة بهن إلى شمال العراق، عبر شبكة معقدة من القنوات. هذا من شأنه أن يضيف حيوية مميزة لهذا الفيلم، ولا يغدو هذا الأخير مجرد تجميع لشهادات نساء ناجيات من الجحيم الداعشي. فالمحامي ذاك، والذي يشبه ما يقوم به، ما فعله “أوسكار شندلر”، الألماني الذي أنقذ مئات اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية وقدمه المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ في الفيلم الشهير “قائمة شندلر”، ينذر حياته اليوم من أجل هذه القضية، فتراه يقضي أغلب ساعات يومه بانتظار اتصالات متعاونين معه، يدخلون إلى عمق المناطق التي تسيطر عليها داعش في العراق وسوريا من أجل تخليص فتاة أو عائلة بأكملها أحياناً. سيكون الفيلم التسجيلي شاهداً على وصول عوائل إلى بر الأمان، وسيصورها في مشهد شديد التأثير وهي تعبر مشياً على الأقدام حقولا خضراء جميلة في شمال العراق، باتجاه المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية العراقية.

ولعل أهمية هذا النوع من السينما التسجيلية، التي تتابع أحداثاً لم تنقض وجروحا لم تبدأ بعد بالاندمال، هو قيمتها في جذب الانتباه الآني للقصص التي تقدمها لمساعدة الشخصيات التي تمرّ بها وتوفير أدلّة ومعلومات لجهود قانونية ستنطلق يوما ما لتعقُّب الجناة، وأيضاً بما تُمثِّله هذه الأعمال من أهمية أرشيفية لأعمال سينمائية قادمة. يقدم هذا الفيلم شهادات مؤلمة حقا، وأحياناً صعبة جدا على المشاهدة، كتلك التي روتها أُمّ شابة، دافعت لأيام في سجن داعشي عن فتاة صغيرة لا تتعدّى التاسعة من العمر كانت مرشحة للزواج من أحد أعضاء التنظيم. في النهاية خسرت تلك الأُمّ المنازلة، وجرى اغتصاب تلك الفتاة الصغيرة. أو الشهادة الأخرى لفتاة لا تتعدّى الخامسة عشر روت كيف قام خمسة من أعضاء التنظيم باغتصابها، وتركوها بين الحياة والموت، وهي لليوم تعاني من مشاكل جسدية ونفسيّة.

يوفِّر الفيلم معلومات عن تسلسل الأحداث في المنطقة وخلفيات بعضها، لتبدو مفهومة للمشاهد الأمريكي الذي يتوجّه إليه بالأساس. مُركزِّاً على قسوة “داعش” على الطوائف التي لا تتوافق مع معتقداته. لكن الفيلم بالمقابل يتناول أيضاً الحياة تحت سيطرة التنظيم وما يتخللها من فظاعات، عانى منها سوريون وعراقيون يفترض أنهم قريبون من أفكار التنظيم. كما يستعين الفيلم بمجموعة من الأفلام المتوفِّرة على الإنترنت عن الحياة تحت رحمة “داعش”. وبعضها شهير، كالفيلم الذي يقدم رجم فتاة سورية يزعم التنظيم أنها كانت تمارس البغاء، وكيف شارك أبو الفتاة نفسه في عملية الرجم، في فعل حاز وقتها على اهتمام وشجب كبيرين.

في المقابل، وفي الجزء الذي تناول الحياة في مدينة الرقة السورية، يحاول الفيلم تجميع صورة لما يحدث في المدينة السورية التي تعيش تحت حكم التنظيم منذ عامين تقريباً، فيسافر فريقه الفنيّ إلى تركيا حيث يقابل شاباً يطلق على نفسه “أبو محمد”، يقوم وبمساعدة فريق من المتطوعين من المدينة نفسها لأرشفة الحياة هناك، رغم المخاطرة الهائلة التي ينطوي عليها عملهم، فالموت ينتظر كل من يُصوِّر سراً في المدينة. من المشاهد التي صورت هناك، واحداً يظهر مقدار مخاطرة الدخول إلى الرقة، فالحرس الذي كان يفتش السيارة التي تقل المتطوعين، كان قريباً من القبض على أحدهم بعد أن شكّ بالهوية الشخصية التي كان يحملها. كما يكشف الفيلم التسجيلي كيف أن نساء من المدينة السورية يتولين أحياناً التصوير السريّ هناك. لتركز أفلامهن بصورة خاصة على هوس التنظيم بالحجاب الإسلامي والمرأة بالمطلق، وتشديد التنظيم اليوم على النساء، عبر لافتات معلقة في الشوارع وإجراءات مختلفة أخرى. كما يعرض الفيلم في هذا الاتجاه مشاهد تصور الشرطة النسائية التي أنشأها التنظيم، والتي تتولى مُراقبة ومُعاقبة النساء في المدينة.

في مُقابل عرض شهادات اليزيديات العراقيات، ونساء من الرقة يعشن اليوم في تركيا، يُذكِّر فيلم “الهروب من داعش” مشاهديه، أن كابوس الشخصيات التي ظهرت في الفيلم مازال متواصلاً، بشكل واضح ملموس أحياناً، كالانهيارات النفسية غير المفهومة التي تصيب إحدى نساء الفيلم، والتي نجت بأعجوبة من قبضة التنظيم، لكن بآثار ومشاكل نفسية عميقة ربما ستلازمها لبقية حياتها. وأحياناً بسبب الوضع الأمني العام، فالفيلم يكشف، أنه رغم الضجة الدولية على ما حدث لليزيديين العراقيين في العام الماضي، مازال “داعش” يقضم المزيد من أراضيهم ويقتل رجالهم ويختطف مزيدا من النساء. فأثناء تصوير الفيلم هاجمت قوة من “داعش” قرية يزيدية وقتلت واختطفت مجموعة كبيرة من سكانها.


إعلان