تناسخ الأفلام: روح كوريا التي حلّت في “هوليوود”

لقطة من الفيلم الكوري "اولد بوي"

طارق خميس

يذكر التاريخ أنه بين وفاة “شارل السادس” و”هنري الرابع” – ملكيّ فرنسا – كانت طقوس جنائز الملوك تُشخّص فضائلهم  رمزيّاً بصورة يجري العمل عليها كبديلٍ حيّ للشخص المتوفي، وهو ما دفع الفنان كلوي لصنع تمثال “فرانسوا الأول”، وكان التمثال يترأس المآدب والحفلات لمدة أربعين يومًا، يعلّق “ريجيس دوبريه” صاحب كتاب “حياة الصورة وموتها” على ذلك بقوله: “.. يوجد بالنسخة أكثر مما يوجد في الأصل”. وفي سياق سينمائيّ يمكننا قلب العبارة كليًا، وهي قدرة على القلب فرضتها رشاقة السينما ذاتها، حيث لا يعود هناك نسخة؛ بل أصل ثانٍ، ما كان ليولد لولا الأصل الأول؛ لكنّه مكتفٍ بذاته، ويحمل مقومات وجوده داخله، دون أن يحيل لخارجه، أو يستمد شرعيته من ماضٍ يقلّده. إن الاهتمام بديمومة الروح، يجد له أصلاً في التقاليد الدينية التي أرستها البوذية، حيث ليس ثمّة روح تفنى؛ بل تنتقل بأجساد أخرى؛ لتكتسب حيوات عدّة، وهو ما يسمى بـ”التناسخ”.

 

والتناسخ يفترق عن النسخ؛ حيث الأول هو روح تحل في جسد آخر، لتستلّ خلودها الخاص من شرعية محاولة العيش مجدداً ومجدداً، فيما النسخ هو محاكاة تعرف مسبقاً أنها كذلك. وإن كانت الفنون تنفر من المحاكاة، بحكم مبرر الخلق والإبداع الذي تتكئ عليه؛ إلّا أنّ السينما اكتسبت ميزة التناسخ لا النسخ؛ فالأعمال فيها يعاد إنتاجها، دون أن يفقد أي من العملين استقلاله الذاتي، إنّه يحمل من داخله مبررات تفرده، حتى ولو كان معادا إنتاجه أكثر من مرّة.
الفن حين ينزع نحو إعادة إنتاج الصور ذاتها، يفعل ذلك ليس بقصد التغيير والابتكار؛ بل بنيّة البقاء على الوفاء للذاكرة، ويترجم هذا الوفاء بإلغاء الفردية وتذويبها في كلٍّ يتجاوزها، كما يذهب إلى ذلك “داريوش شايغان” في كتابه “أوهام الهوية”، في حالة التناسخ السينمائيّ يعاد العمل وهو يحمل داخله الميّزتين معاً، الابتكار والوفاء للذاكرة، وهذه عبقرية السينما الخاصة. ومانحن بصدده في هذه المقالة هو روح السينما الكورية حين حلّت في أجساد هوليوودية، وهو ما يسمى عادة بــ” Remake”.

سينما كوريا التعثُّر والعثور
تملك السينما الكورية حضوراً خاصاً بها، حضورا فرض نفسه بقوّة مؤخراً. على الرغم من أنّ لديها بداية مبكرة تعود للعام (1919) إلا أنّه لم يكتب لها أن تحافظ على خط تصاعدي، حيث أتت ظروف السياسة على إنتاجها فمسّته بالتحطيم والتضييع منذ أوائل القرن العشرين، عندما خيّم الاحتلال الياباني على أراضيها ما يقارب 35 عاماً إلى الحرب الكورية التي دامت 4 سنوات، ومن ثمّ وقوع البلد في قبضة نظام عسكري صارم امتدّ من عام 1967 حتى عام 1992.

شهدت فترة الثمانينات وقوف السينما الكورية على قدميها مجدّداً، وهي محاولة حملت اسم “ربيع سيؤول” عكف فيها المخرجون على رسومات “المانغا” و الرسوم المتحركة واقتبسوا منها في أفلامهم، وتعدّدت الممارسة الإبداعيّة، حتى وصلت ذروتها عام 2012 الذي وُصف بأنّه “عام إعادة إحياء الأفلام الكورية”. علّق كيم إوي سوك – رئيس المجلس الكوري للفيلم- أنّ : “عدد المشاهدين الإجمالي قبل نهاية العام (2012) تخطّى 170 مليونا ، ومن المتوقع لصناعة الفيلم أن تُحقِّق طفرة كبيرة هذا العام، وهي طفرة تشابه كثيرًا ما تحقَّق في كوريا في أواخر الستينيات من القرن الماضي” على حد تعبيره.

محليّاً أخذت السينما تشق طريقها بنفسها، وبدأت الحكومات في إعداد مهرجانات أفلام على المستوى المحلى، ومن هذه المهرجانات مهرجان “بوسان للفيلم” ومهرجان “بيوتغ ون للفيلم”، ومهرجان “جينجو الدولي للسينما”، ومهرجان “سينما المرأة” في سيؤول.

لقطة من الفيلم الأمريكي "بيت البحيرة"

ما الذي أحبته ” هوليوود” في السينما الكوريّة؟

 

كانت بداية تسلّل السينما الكورية نحو مهرجان “كان” مع فيلم «تشون هيانغجين» (قصة تشون هيانغ) من إخراج ايم كوان تيك، عام 2000. فيما نافس الفيلم «سويم» (الجزيرة) من إخراج كيم كي دوك، في مهرجان فينيسيا السينمائي. وبعد تقديم هذه الأفلام، شهد العام 2001 اختيار فيلم (منطقة الأمن المشترك) للمنافسة في مهرجان برلين الدولي للسينما، كما دخل فيلم (المجهول) من إخراج كيم كي دوك المنافسة في مهرجان فينيسيا الدولي للسينما.

يصعب القول أنّ ثمة سمات معينة في السينما الكورية بذاتها، حرّكت اهتمام صُنّاع الفيلم في هوليوود بغية إعادة إنتاج العديد من الأفلام الكورية، إلّا أنّه يمكن رصد بعض “الثيمات” التي جعلت السينما الكورية محطّ اهتمام، ومن هذه الثيمات: “العنف” و”الروح البوذية”.

يمكننا ملاحظة “الروح البوذية” حاضرة في أعمال المخرج الكوري الشهير “كيم كي دوك” على سبيل المثال، لا سيما فيلمه ” Spring, Summer, Fall, Winter… and Spring ”  وهو حضور كوني كما يصفه المخرج نفسه حيث يقول: “.. لا ينبغي للمتفرج أن يشاهد هذا الفيلم بوصفه لغزاً كورياً أو فيلماً شامانياً (دين بدائي) أو بوذياً.. إنه أكثر كونية”. أو مثل فيلم “Siworae 2000” والذي صدر الاستنساخ الأمريكي عنه عام 2006 باسم “The Lake House”  وهو فيلم يتناول شخصين تنشأ بينهما علاقة حب، إلا أنّ روحيهما تعيشان في زمانين مختلفين بالمعني الفعليّ.

ونحن هنا لا نتحدث عن أفلام بنزعة تبشيرية، وإنّما أفلام متأثّرة برؤية مغايرة للإنسان والكون والزمان عما ألفه الإنسان الغربي بتكوينه المسيحي- الحداثي، وعمليًا لا يصعب على أمريكا استيراد أيّ شيء، وتدريبه على ارتداء الجينز وشرب الكوكاكولا بعد أن يكون تم تفريغه من سياقه الأصلي، فثمّة تحمُّس مؤخراً للأفكار الروحية القادمة من أقصى آسيا؛ والبوذية – إحدى أمثلة ذلك – من أسرع الديانات انتشارًا في الولايات المتحدة، حيث يبلغ عدد معتنقيها ما يقارب الـ6 ملايين ونصف المليون، وفقًا لإحصاءات عام 2013، ليُشكِّلوا بذلك 2% من عدد سكان أمريكا، البالغ 317 مليون نسمة، مقارنة بمليون واحد و200 ألف في 2008.

 

 

لقطة من الفيلم الكوري "فتاتي الوقحة"

أما فيما يتعلق بــ”العنف”، فمن المفارقات أنّ أول فيلم كوري عُرض على الجمهور في عام 1919، كان يحمل اسم «الانتقام العادل». وهي “ثيمة” ظلّت السينما الكورية وفيّة لها، حتّى أنّه يمكن القول بأنها سينما تحتفي بالعنف لذاته، إنها تذهب به لأقصى ممكناته، وتكاد مشهديّات العنف بذاتها تكون هي الفيلم، وقد تحرّر من القصة وحبكاتها، مع أنّ الانتقام غالبًا ما يكون هو القصة الأثيرة لمشهديّات العنف تلك حيث يحضر هذا بشكل جليّ عند صاحب “ثلاثية الانتقام” الشهيرة للمخرج “بارك شان ووك” حصل منها فيلم «اولد بوي» على الجائزة الأولى في مهرجان «كان» السينمائى في فبراير2004، كما فاز بجائزة أحسن مخرج عن نفس الفيلم في مهرجان الأفلام الدولي في بانكوك في عام 2005 بفيلم «عطف آنسة الانتقام» عام 2006. وهو من ذات السلسلة.

لقد حصل فيلم “اولد بوي” على تقييم 8,4 على موقع الأفلام الشهير imdb بينما حصل فيلم “الري ميك” الأمريكي على 5,7 وجزء من هذا الفارق الكبير يعود- فضلاً عن المخرج – للممثل الشهير “شوي مين سيك” الذي أدّى الدور بإتقان متناهٍ؛ فيما لم يكن حضور الممثل “جوش برولين” بذات القوة في النسخة الأمريكية، وهو فيلم يحكي عن انتقام بمنتهى القسوة، جرّاء فلتة لسان تسبّبت بمقتل إحداهن.

الفارق في التقييم بين الفيلم الكوري والأمريكي كثيراً ما كان لصالح الفيلم الكوري، مثلما حدث مع فيلم Jungdok 2002 الذي حصل على تقييم 7,2 فيما حصل “الري ميك” الأمريكي Possession 2008 على 5,6 وفيلم الغموض والرعب “قصة شقيقتين”” Janghwa, Hongryeon 2003 للمخرج جي وون كيم الذي حصل على 7,3 فيما حصل الري ميك الامريكي The Uninvited على 6,4 .
ولم يقتصر الأمر على أفلام العنف وإنما امتدّ للكوميديا منها، فالفيلم الشهير “فتاتي الوقحة” Yeopgijeogin geunyeo 2001 حصل على  8,2 فيما حاز الري ميك الأمريكي  My Sassy Girl 2008 على 6,3 وكان هناك فارق واضح صنعته الممثلة الجميلة “جون جي هيون” في جمعها بين الكوميديا والرومانسية بطريقة رشيقة؛ فيما ظهر العمل الأمريكي بشكل باهت ومقحم.

ومن الحالات القليلة التي كانت شعبية “الري ميك” فيها تتفوق على الفيلم الأول (الكوري) هو “الري ميك” الذي صنعه المخرج الأمريكي القدير “مارتن سكورسيزي” في فيلمه The Departed 2006 وحشد فيه نخبة من النجوم أمثال: مات ديمون ، ليوناردو ديكابريو، جاك نيكلسون فحصل على 8,5 فيما حصل الفيلم الكوري Mou gaan dou 2002 على 8,1 وهو فيلم عصابات يتحدث عن اختراق متبادل بين الشرطة وإحدى العصابات.

بدلاً من خاتمة
لا يحدث “الري ميك” باتجاه واحد، بمعنى أنّه إن تناول المقال روح كوريا التي حلّت في سينما “هوليوود” فهو لا ينفي العكس، لأنّ أرواح السينما مشاع للأجساد التي تطلبها، وتبقى شهرة العمل عائدة لقوانين السوق بجوائزه وإعلامه، حتى أننا نتعرف على أفلام كوريا من خلال الاحتفاء الأمريكي بها! وأحوال الهيمنة لا الجمال هي ما يفرض نفسه هنا، ويمتدّ الأمر للغة فمن الشاق علينا تعداد أسماء خمسة مخرجين كوريين أو ممثلين دون أن نخطئ في الاسم أو اللفظ، فيما علاقتنا مع السينما الأمريكية أيسر في السمع والنطق.


إعلان