“مارلون براندو”: ممثل اسمه الرغبة !

قيس قاسم

هل كان مارلون براندو راغباً حقاً في أن يصبح ممثلاً؟ على هذا السؤال الاستفزازي يؤسِّس فيليب كولي معمار نصّه الوثائقي ويتخذ لنفسه موقعاً مختلفاً، عن كُثر غيره تناولوا حياة ممثل اُعتبر واحداً من بين أعظم ما أنجبته السينما العالمية طيلة تاريخها، يستطيع من خلاله تقديم قراءة تفصيلية مدهشة لحياة كائن موهوب متعدِّد الوجوه، متناقض، جمع الليّونة بالقسوة والعبث بالالتزام، مسكون بماضيه الحزين وعقد الطفولة التي تركت آثارها على منجزه السينمائي وهذا ما حاول فيلم “مارلون براندو: ممثل اسمه الرغبة” Marlon Brando: An Actor Named Desire التأسيس عليه وبحثه عبر شهادات انتقى منها أكثر ما يُفيد تحليله النفسي الذي اتخذّه منهجاً استقراءياً لمراجعة مراحل طويلة من حياته وانعطافاتها الحادة.

يسبق المخرج فيليب كولي اللحظة، التي اعترف فيها براندو في مقابلة صحافية أجريت في بيته بعد يومين من تسلّمه “أوسكار” أفضل ممثل عن دوره في فيلم “العراب” The Godfather وبعد عمله في حقل التمثيل ما يقارب ثلاثين عاماً، بعدم رغبته في امتهان التمثيل كفنّ، إنما اتخذّه كعمل يؤمِّن به لقمة عيشه وأن هناك أشياء أخرى كان يحبها ويهتم بها أكثر من السينما، ولكنه وبعد أن تفرّغ كلياً للعمل السينمائي ولم يعد هناك بديلاً، وقتها فقط قرر أن يكون ممثلاً، وممثلاً جيداً قدر الإمكان ـ

يسبق صاحب الوثائقي الأمريكي هذا التصريح/الاعتراف بمراجعة لتاريخه الشخصي والفني وتقويم بعض من اشتغل معه وعايشه طويلاً، حتى تُفهم كلماته المستفزة والموحية بوجود غريب لنجم عالمي في حقل السينما دون رغبته! في سياقها الطبيعي، ومن المؤكد سيكون بينهم المخرج إيليا كازان الذي أوكل إليه بطولة أهم أفلامه واعتبره أعظم ممثلِّي أمريكا على الإطلاق، في حين وجد فيه الممثل “روبرت دوفال” واحداً من أكثر الفنانين تميزاً “أول مرة رأيته فيها شعرت بالتوتر. كان حضوره مستفزاً ولكنه مريح في نفس الوقت”. هذا التوصيف يُعبِّر بشدة عن الكامن في شخصية براندو: الغضب المتناقض بوجه ملائكي! وربما هذه الخصال هي التي جعلت منه ممثلاً نادراً فيه الليونة والصرامة ويجمع في شخصه الرجولة المتألقة والعنف الذي لا يعرف المرء متى ينفجر إلى جانب أنثوية مشاعر رقيقة كامنة تجعل الناس ينجذبون إليه، وكما يقول كازان “حين تتوافر كل هذه الصفات في ممثل، فإن عطاءه أمام الكاميرا سيكون مذهلاً”.

يربط الوثائقي توصيفات معايشه له بما قدّمه ليرى مقدار الصحة فيها فيعود إلى أدواره في مجموعة أفلام تقاربت فيها خصاله الشخصية معها حد التماهي، وأكثرها وضوحاً شخصية “ستانلي كوالسكي” في فيلم “عربة اسمها الرغبة”. هذه الشخصية الملتبسة التكوين حدّ التناقض الفظيع تشبه إلى حد كبير شخصية براندو نفسها، والتي يكشف الوثائقي بروزها في المسرح قبل السينما، الذي جاء براندو إليه عن طريق الصدفة من “الفندق الذي يعمل فيه كعامل مصعد إلى المسرح المجاور له”. رحلته من نيبراسكا إلى “نيو سكول” طويلة مليئة بالآلام وربما بسببها حقّق نجاحه، لهذا كان لا بد للوثائقي من الرجوع إليها بعد أن أكدّ له عدد كبير من النقاد أن مجيئه إلى نيويورك ثم إلى هوليوود كان بسبب ما عاناه في بيته وهروبه منه غاضباً، وربما كان هذا من حسن حظ الفن والسينما كما قالت مؤلفة سيرته الذاتية باتريسيا بوسوورث “لقد دفعت الظروف القاسية شاباً غاضباً للمجيء إلى هوليوود من أجل أن يُغيِّر تاريخ السينما الأمريكية”.

يضع فيليب كولي لحياة براندو منذ طفولته حتى وصوله إلى نيويوك تسلسلاً تاريخياً، يوجز فيه حياته في نيبراسكا وعلاقته بوالديه وتأثيرات الوسط الاجتماعي الذي نشأ فيه، ويتوقف كثيراً عند إدمان والديه الكحول وكراهيته لوالده الذي كان يعامل والدته بقسوة ما دفعه للانطواء والعزلة، والتي تراكم خلالها الغضب في داخله، إلى جانب إخفاقه في دراسته بسبب ضعف تركيزه وصعوبات كان يواجهها في القراءة ما اضطره إلى التطوع في بداية شبابه في صفوف الجيش، لكنه وبعد تعرّضه لحادث تركه وفكر بالانتقال إلى بيت أخته في نيويورك.
في بيتها وجد جواً مختلفاً يميل إلى الثقافة والفن ومع ذلك ذهب للعمل في أحد الفنادق كعامل مصعد، وكان الفندق يقع بالقرب من بناية فيها معهد لتعليم المسرح “نيو سكول” أعلن وقتها عن دورة جديدة للطلبة تقدم إليها براندو وسجّل فيها.

لم تظهر موهبة التمثيل فيه لكنه ظلّ حريصا على الدوام وكشف عن قدرته في تقليد حركات الناس وأصوات الحيوانات ما أضفى على وجوده جواً من المرح.
 خلال دراسته توفرّت له فرص المشاركة في أدوار مسرحية بسيطة تُوِّجت بإسناد دور “ستانلي كوالسكي” في مسرحية تنيسي ويليامز “عربة اسمها الرغبة”. حظى تمثيله برضى النقاد وكشف عن موهبة ضامرة في داخله، ساعده على النجاح، وإلى حد كبير، الدور الذي توافق مع شخصيته.

سيعترف براندو بأنها المرة الأولى في حياته التي يحظى فيها بقبول من قبل الآخرين. مهدّ نجاحه المسرحي انتقاله إلى السينما، وفي سن الخامسة والعشرين أُسند اليه دور رئيسي في فيلم “الرجال” شجّع أداءه البارع لدور رجل مقعد على كرسي متحرك على إطلاق الصحافة الهوليوودية صرختها الشهيرة “لقد ولد نجم جديد”، أوكل له كازان بعدها مباشرة بطولة “عربة اسمها الرغبة” لإيمانه بقدرة الشاب “الصامت” والذي صار بعد النجاح الكبير للفيلم “أيقونة” هوليوودية، شجعته لمنحه بطولة فيلم “فيفا زاباتا” عن الثورة المكسيكية وقائدها الذي تطابقت طباع براندو مع ميله إلى التغيير، وهذا ما قاده فيما بعد إلى التقرُّب من الأفكار السياسية الثورية التي حاربها بقوة ممثل السلطة والمصالح المالية الأمريكية “مكارثي” وقاد حملة مشددة ضد الحزب الشيوعي وزجّ بعدد كبير من أعضائه في السجون وحرم بعضهم من العمل، وكان إيليا كازان من بينهم لكنه تمكن من الهرب حين سلّم مجموعة من رفاقه كانت تعمل معه في الحزب إلى السلطات وأوشى بأسرارهم، الأمر الذي أغضب براندو واعتبره تخاذلاً وجبناً جسدّه بشكل صادق في دور “ماركوس أنطونيوس” في فيلم “يوليوس قيصر”.

لم يقبل بعروض كازان اللاحقة له لكنه تفهّم مضمون نصّ فيلمه “عند الميناء” ومقاربة بطله لحالة كازان نفسه، حين سلم قادة العصابة التي كان منها إلى الشرطة بعد اكتشافه جرائمهم. قصة تسليم البطل تيري مالوي لقادته تشبه إلى حد ما تسليم كازان لرفاقه باعتبارها، بمنطق تسامحي، نوعاً من أنواع الدفاع عن النفس!
 يقدم الوثائقي جانباً من نشاط براندو السياسي ويتوقف عند المرحلة التي تعاطف فيها مع الزنوج الأمريكان وتقرّبه من مارتن لوثر كينغ في بداية الستينيات من القرن الماضي ومطالبته برفع قوانين التمييز العنصري عنهم، كما انضم إلى حركة “النمور السُود” وسرعان ما خرج منها بعد توجهّها نحو العنف، وعلى مستوى أوسع راح يشهر مواقفه دفاعاً عن حقوق الإنسان والمطالبة بحماية الهنود الحمر من الإبادة والتذويب المتعمَّد والتي توجّها بتنازله عن جائزة الأوسكار ورفض استلامها مقابل صعود شابة هندية لتأخذ نيابة عنه التمثال الذهبي.

تفاصيل كثيرة يُمرِّرها الوثائقي الرائع والغني بقوة التحليل ما يبرر وجوده رغم كثرة ما كتب عن براندو وعن عالمه المليء بالتناقضات وموهبته التي ثُمِّنت بعديد الجوائز من بينها الأوسكار عن “العراب” الذي عاد فيه إلى التمثيل بعد طول انقطاع بسبب أزمات نفسية مرّ بها، ومشاكل عائلية لم تنقطع سجلها الوثائقي ليعطي صورة كاملة عن رجل لم يحالفه الحظ على طوال الخط، بل انتزع ما حصل عليه بجهد جهيد وبإصرار نادر على إثبات الوجود والبقاء بين الكبار والنجوم، محاطاً بالمعجبين مثلهم، يعيش حياة باذخة مصحوباً دوماً بالنساء الفاتنات، وما إفراطه في العلاقات العاطفية العابرة إلا تعبيرا عن علاقته بوالدته، والتي كان يجد في حب النساء له تعويضاً عن حرمان عاطفي يراجعه الوثائقي عبر حوارات مع من تَعرَّف عليهن أو عبر أصدقاء قريبين منه كانوا يلاحظون “هوسه” وشدة عاطفته التي تتناقض ظاهراً مع عنفه الذي ولّد له مشكلات فنية وسمت وجوده في هوليوود بين صعود وهبوط، لكنه ظل الممثل الكبير الذي كلما نسته أو تناسته هوليوود يعود إليها نجماً، وتجربته مع فورد كوبولا في “القيامة الآن” ما يبرهن على طبيعة وجوده في الساحة السينمائية الأمريكية، وأحياناً يتجاوزها كما في التجربة الإيطالية “التانغو الأخير في باريس”.

في الوقت الذي لا يهمل الوثائقي خيباته وقبوله العمل في أفلام من مستوى “ب” من أجل المال فقط. يلملّم “مارلون براندو: ممثل اسمه الرغبة” Marlon Brando: An Actor Named Desire مفردات مهمة في حياة الممثل الأسطورة ويتوقف عند عتبات هامة منها، لكنه يظل ميالاً إلى مقاربتها مع منجزه التمثيلي، لهذا جاء متنه الدرامي متفرداً ومشوقاً حرص صانعه على تقديم كل فصل من حياة بطله؛ براندو، بأجمل صورة.        


إعلان