كيف خَدَعَت “أمينة عرّاف” العالم ..؟
محمد موسى

في صيف عام 2011، وبعد أن تَكَشَفّت حقيقة المُدِوّنة السورية “أمينة عرّاف”، غَلبت لأسابيع مشاعر الخيبة والخسارة على كثيرين في جبهة المنظمات النسويّة والمدنيّة الغربية، السورية السياسية المُعارضة، وبدا وقتها أن عالم التدوين الإلكتروني نفسه، والذي يشكل لكُثْر بديلاً مُهماً عن الصحافة الرسمية، لا يستغنى عنه في المناطق والبلدان المُغلقة أمام الإعلام، قد فقد براءته هو الآخر. إذ أصبح مثل غيره من وسائط الإعلام، هدفاً للمحتالين والمرضى النفسيين.
فأمينة السورية، التي خطفت أنفاس العالم لستة أشهر، كأول مُدِوّنة مثليّة تنقل أخبار الثورة السورية من العاصمة دمشق، والتي سُوِدَّت من أجل حريتها آلاف الصفحات البيضاء حول العالم، بعد أن شاعَ أن النظام السوري ألقى القبض عليها، أمينة هذه هي بالحقيقة رجل أمريكي لم يَزُر سوريا في حياته، كان يُدير من غرفة صغيرة في الولايات المتحدة وبعدها في إسكتلندا، نشاط مُدَوّنة أمينة على شبكة الإنترنت، التي حملت عنواناً مُثيراً هو: “مثليّة من دمشق”.
في التغطيات الإخبارية الواسعة لقصة أمينة عرّاف، مرَّت بشكل خاطف وقتها تفصيلة العلاقة التي أقامتها الشخصية المزعومة مع امرأة كندية فرنسية ولفترة ستة أشهر، أي طوال نشاط أمينة على الإنترنت وحتى انكشاف أمرها في منتصف شهر يونيو من عام 2011. هذه السيدة التي تدعى: ساندرا باغريا، ستكون بطلة الفيلم التسجيلي “بروفيل أمينة” للمخرجة الكندية صوفي ديرسب، والذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان صندانس السينمائي الأمريكي ومازال يُعرض في دوائر المهرجانات السينمائية.

يعود الفيلم إلى تجربة ساندرا، ويركز بالتفصيل على ما عانته المرأة التي تعرضت لخديعة لأشهر طويلة، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يحاول أن يسجل الآثار التي خلفتها أمينة على نطاق أوسع من الحدود الذاتية لتجربة بطلته، فيقيس الأضرار التي تركتها على مقياس الثورة السورية المتواصلة، ويذهب إلى لبنان ولندن وتركيا، والأخيرة هي البلد الذي يعيش فيه اليوم الأمريكي توم ماكماستر، الذي كان وراء الشخصية الخيالية “أمينة”، لتواجهه ساندرا في مشاهد شديدة التأثير.
يستعيد الفيلم التسجيلي وحسب الترتيب الزمني التصاعدي بداية لقاء ساندرا بأمينة على أحد مواقع التواعد للمثليّات على الإنترنت. لا يكشف الفيلم مباشرة عن خلفيات وأسرار الحكاية، بل يعيد تمثيل خطواتها من البداية وكما حدثت، كما يتأخر في إفشاء الحقائق التي سترد ضمن ترتيب مشابه للسياقات الزمنية الأصلية. وإذا كانت هذه المقاربة ربما تضجرالذين يعرفون القصة من قبل، إلا أن الفيلم ينجح عبر خطّه الذي يجمع بين الشهادات وإعادة تمثيل بعض المشاهد المفصلية في الحكاية، في إغراء حتى المشاهد المُطلِّع، لمرافقته في الرحلة التي ستقطعها ساندرا باغريا، باحثة عن إجابات وتفسيرات تُعينها هي شخصياً، لتنفس عبرها بعضاً من مشاعر الغضب والمهانة التي طبعت حياتها في الأعوام الثلاث الأخيرة.
ما بدا أنه لقاء عادي على الإنترنت سيتحول مع ساندرا إلى قصة حب عاصفة، مُغلفة بالخوف والإثارة. يستعيد الفيلم المحادثة الأولى للبطلة الكندية الفرنسية مع أمينة. والتي ستكون بداية لساعات طويلة من التواصل الإلكتروني وعلى طوال نصف عام. تجذب قصة أمينة كفتاة مثليّة تعيش الخوف من المجتمع السوري ومن النظام الذي انتفضت مثل كثيرين ضده، عواطف المرأة الكندية. بعدها، وعندما تبدأ أمينة مُدونتها الشهيرة “فتاة مثليّة في دمشق”، تتحول ساندرا إلى “داعية” ضمن محيطها الصغير لحقوق الفتاة العربية التي قابلتها، والتي تعيش ظروفاً صعبة للغاية.

لن يمرّ الكثير من الوقت قبل أن يصل اسم أمينة إلى دوائر إعلامية أكبر، بدءا من المنظمات النسوية وتلك التي تناصر حقوق المثليين التي ستُنبِّه لنشاط أمينة، ثم الإعلام الواسع، الذي كان يبحث وقتها عن شهادات من أي نوع، من داخل المدن السورية المسدودة بوجهه.
ينتج الفيلم صورتة الخيالية الخاصة لأمينة، وكأن هذه الأخيرة المُلفقة أصبحت أمثولة ما، ورمزاً لفئة تعيش في الخفاء. فيقدم مشاهد حلمية ضبابية لامرأة لا يظهر وجهها، كترميز لنساء عريبات مجهولات. تشَّكل هذه المشاهد، التي صورت في مدينة عربية، خطاً سردياً خيالياً هو الآخر، ليتلاءم مع الطبيعة المتأرجحة بين الخيال والحقيقة للحادثة كلها. تربط المخرجة بين مشاهدها الشاعرية تلك، ولقاءات محدودة أجرتها بطلتها نفسها أحياناً مع سوريين وأجانب، منهم من دافع عن أمينة عندما اعتقد العالم ان النظام السوري زجّ بها في سجونه.
كذلك يقدم الفيلم حوارات مع ناشطين سوريين يعيشون اليوم خارج بلدهم، يروون هم أيضاً تجربتهم مع قصة أمينة، وكيف استحوذت وقتها على انتباه، هو أكبر مما تحصل عليه الأخبار الآتية من سوريا اليوم، التي تتشابه منذ أشهر بدمويتها ولم تعد تصل إلى صدارة نشرات الأخبار كما كانت يوماً. في كل ذلك يواصل الفيلم تتبُّع الخط الذي قاد إلى الكشف عن القصة الحقيقية لأمينة، إذ يُبيَّن كيف ساهمت منظمة إلكترونية في الكشف عن هوية الشخص الذي يقف وراء الحكاية كلها.
ولان ساندرا هي الأساس الذي انطلق منه المشروع التسجيلي، يعود الفيلم لقصتها وهواجسها الخاصة في كثير من المواضع. كما ستقود هي التحقيق من دول عديدة، وكأن هذا من شأنه أن يساعد في رحلتها للشفاء من الآثار العميقة التي تركتها حادثة أمينة في حياتها. تصل ذروة الفيلم التسجيلي في المواجهة التي تأتي في دقائقه الأخيرة بين ساندرا والأمريكي توم ماكماستر، الذي يعيش في تركيا اليوم، مدرساً في إحدى جامعاتها.
وعلى الرغم من أن ماكماستر كان قد تحدث واعتذر علناً من قبل عن فعلته، التي برّرها أنها كانت طريقته الخاصة لجذب الانتباه لمشاكل النساء والمثليّات خاصة في سوريا، إلا أن المواجهة معه في الفيلم ستكون صادمة وكاشفة هي الأخرى. فهو سيعترف أن فشله المتكرر ككاتب، جعله يستمتع بالانتباه الذي حصل عليه عندما كان يختبأ خلف اسم أمينة. كما سيعترف أن شهوانيته جعلته يستمر في محادثات جنسية على الإنترنت مع نساء عديدات، ومنهن ساندرا نفسها.
بموازاة القصة الأصلية تُدير المخرجة خطاً سردياً آخر، إذ تعرض وضمن ترتيب زمني تصاعدي، أحداثاً من الثورة السورية، عبر أفلام بدائية، مُرتجفة، مُهرّبة من مناطق سورية تحت همينة النظام. مركزة بالتحديدعلى ما تتعرض له النساء في البلد، كالفيلم المروِّع عن اعتقال امراة سورية في محطة باصات في دمشق.
هذان الخطان السرديان سيسيران جنبا إلى جنب معظم وقت الفيلم التسجيلي، ويدفعان بالقدر نفسه المشاهد إلى التفكير بحال الشخصيات التي تمرّ على الشاشة. بل يدفع إلى التدبر بحال الذين لم يظهروا في الفيلم، كالنساء السوريات المجهولات الهوية، والذي يوجِّه الفيلم تحية مُعبرة لهن ولحياتهن الصعبة.